“قلب طيب” قصة قصيرة للكاتبة النرويجية كارين سفين ترجمة علي سالم

كارين سفين Karin Sveen

من أعلى مدخنة سوداء فوق بيت بني صغير بإطارات نوافذ بيضاء عند حافة غابة صنوبر خضراء ومدينة هادئة مسطحة، تطفو غيوم صغيرة من الكوبالت الأزرق وتتشبث بصمت في الأشجار، كما لو أن شخصا ما كان هناك، يفحّ ويزفر ويدخن! في الخارج كانت السماء تنث رذاذاً ناعماً فوق المدينة والغابة والسقف، وعلى العشب اللامع بالرطوبة. من جدران المنزل كانت تصعد للأعلى رائحة الحطب الثقيلة ورائحة قطران الصنوبر. في الفناء تصطف حزمتان من خشب البتولا اللامع؛ الخشب المشقوق له لون الكريما، ويكاد يكون ذهبياً أزاء جدار مخزن الحطب الملطخ بالسواد، وأزاء مسند نشر الخشب الرمادي والبلطة الرمادية والمنشار الرمادي.
لايوجد سياج يحيط بالمنزل، ولا لص من لصوص الحطب يمكن أن تبصره العين، وليس ثمة من يتوقع أن يصادف المرء أحد من هؤلاء، رغم أن الأزمان هذه الأيام أكثر رمادية ولم تعد ذهبية كما كانت، انها أكثر امتلاءاً بشظف العيش بينما الآخرون في تحسن مستمر وأصواتهم تتعالى دوماً.
البعض يصبح أكثر خشونة مع الأصدقاء ويتحدث بهدوء. والبعض الآخر يجلسون في منازلهم الصغيرة ويدخنون غلايينهم، يرسمون الأفكار ويفكرون بها بصوت عال.
منتصباً جنب جدار النار، يرسل موقد الحطب دفئه الشحيح في الغرفة، ودخانه الأزرق عبر المدخنة ومنها إلى الفضاء البارد.
جالساً حول الطاولة المستديرة، يقرأ اولاف وخمس أو ست رجال آخرين المنشورات بصوت عال، ويمررون الكتب فوق قماش المائدة ويتصفحون الجرائد؛ الدخان ينبعث من مصباح الكيروسين المعلق بسلسلة بين رؤوسهم، والأصوات تهدر عبر جسد سينوفه، الصَبيّة ذات الخمسة عشرة ربيعاً، الجالسة على الديوان تحت النافذة، مصغية ومراقبة. في المطبخ تراقب أمها ابريق القهوة وهي تجلس على الصندوق الخشبي بتنورتها الرمادية الخاصة ليوم الأحد، تمضغ حبات القهوة. تحمل صليباً فضياً صغيراً معلقا على عنق بلوزتها، كونها متدينة على طريقتها الخاصة وتغني بشكل جيد – الجميع يطلب منها أن تغني وهي تتوقع حدوث ذلك في أي لحظة الآن.
ويدعوها الرجال إلى ذلك ويتضرعون إليها؛ تقف في فتحة الباب بين غرفة المعيشة والمطبخ، تلبي طلبهم وتشبك ذراعيها خلف ظهرها. ومن مجلسها في النور الشاحب تحت النافذة، تصغي سينوفه إلى صوت أُمها الموزون والمدوي، مثل فجر بازغ، أو مثل البخار المتصاعد من الأرض بعد ليال باردة :
يحتفل الأغنياء دوماً في منازلهم ومع أصدقائهم
ولايحفلون إلا نادراً بالرجال الذين يعملون !
عليهم أن يأخذوا مكان الفلاح ، حتى ولو لعام واحد،
لكي يفهموا مايعانيه، ويعرفوا نوع الحياة التي ينبغي عليه تحملها!
عندما انتهت من غناء جميع الأبيات، واحمرّ وجهها وتوهج، سار إليها واحد من أصدقاء اولاف، من الذين أمضوا بضع سنين في قطع الأشجار في الاتحاد السوفيتي، وقبَّلها على خديها، وهمس في أُذنها بكلمة “رفيقة”. تغرورق عيون الأُم بالدموع، تطأطيء رأسها وتنظر إلى زوجها وإلى سينوفه وتقول:
” لقد أفسدت الغابات أخلاقه”
لأن الناس قد يبدون عراة بالكامل عندما يقبلون بعضهم البعض على مرأى من الجميع !
لكن الرجال يطلقون صيحات التشجيع وحسب ويصفقون بأكُفهم، ويمتصون الدخان من غلايينهم ويرتبون أوراقهم؛ وتضع الأُم شرشفا جديدا للمنضدة وتجلب القهوة.
تؤمن اولغا بيرغ بالناس العاديين وبرب للناس وتغني في شتى المناسبات الاجتماعية؛ جميع الحاضرين يطالبونها دائماً أن تغني وهي تستمتع بذلك وتحب أن يطلبوا منها ذلك. في منزل الصلوات وفي القاعة العامة وحتى مرة في اجتماع للاضراب في السوق. وكان ذلك عندما تعرضت الخياطات في المدينة إلى التهديد بالطرد لقيامهن بنشاطات تنظيمية. كانت قد وقفت في الخط الأول وغنت ؛ لماذا لا؟
يقول اولاف بيرغ نفس الشيء، ورغم أنه ليس متديناً بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا أنه قد تبلغ به الجرأة إلى القول بأن كمية الشر الممتدة بين الأرض والسماء لم يحلم بها حتى الرب نفسه – اللعنة إن لم يكن ثمة أرباب آخرون قد فعلوا ذلك، كما يقول. وتفرح أولغا لقوله هذا وتشعر بالرضا.
لقد اتفق الاثنان على أن يكون التعميد لطفل دون الآخر وبما أن سينوفه هي الأكبر سناً وبالتالي فهي قد عُمدت وسوف يُثبت عمادها أيضاً. اليوم هو يوم الأحد الذي يسبق التعليم الشفهي؛ بيرغ وبقية الرجال سوف يذهبون إلى اجتماع عبر المدينة وسوف تبقى سينوفه وأمها في المنزل لتنظيف المائدة، وفتح إحدى النوافذ لتهوية الغرفة وغسل الصحون.
سينوفه تجفف الأكواب التي تحتك بقعر المغسلة المصنوعة من الزنك. الماء يتبخر ويتكاثف على نافذة المطبخ الصغيرة.
يسود الهدوء بعد مغادرة الرجال. تحب سينوفه الاستماع لأحاديثهم. في إحدى المرات سألها أحدهم ماذا تحب أن تكون عندما تكبر، وانفجرت قائلة انها سوف تكون شيوعية وستنجب إثنا عشر صبياً وكلهم سوف يكونون شيوعيون وحطابون تماماً مثل الرجل الذي عاش في الاتحاد السوفيتي.
وضرب الرجال ركبهم بأكفهم وضحكوا قائلين: ” وماذا لو أنجبت بناتاً؟” وساد الهدوء لمدة دقيقة، لأنها لم تكن قد فكرت بذلك في ذلك الحين، لكنها عثرت على لسانها وقالت لن يكون ثمة فرق! سيكونن حطابات أيضاً، كلهن! وفي حين راح الضحك يطرق أسماعها ووجها يقترب من درجة الغليان، قررت أنها تفضل أن يكون لديها أفكاراً غريبة على أن تكون قصيرة النظر.
تسحب أُمها أنفاسها مرتين كما لو انها كانت تنوي قول شيء ما، ثم تقول ذلك الشيء: ” أتمنى لو كنت بحال أفضل من هذا الحال”.
” وكيف ذلك؟”
” لكي أتمكن من كسب المزيد من المال حتى أشتري لك بدلة تثبيت للعماد لائقة”.
” لايهم”، تقول سينوفه.
ليس هناك ماتستطيع قوله أكثر من هذا، وليس هناك ماتريد قوله.
” لكني حصلت على أكياس السكر مبيضة وجميلة من المخزن سأحاول استخدامها. في حالة فشل كل شيء آخر”.
” أنا متأكدة أن ذلك سيكون على مايرام”، تقول سينوفه، وتحاول أن تتخيل كيف ستبدو.
في الخارج تمطر والحطابون في اجتماع وداخل غرفة المعيشة الجو بارد حقاً والمصباح النفطي يلقي بانعكاس أصفر على السقف الواطيء.
انها تمطر في اليوم التالي أيضاً، طوال اليوم، مطر ندي، مائي، يطرطش ويغسل كل شيء يلامسه. في أواخر مابعد الظهيرة عندما تكون الأرضية ناعمة مثل اسفنجة مبللة، ومخضّلة بالماء، وعندما يمكن أن تستل العشب من الأرض بسهولة، تأتي خالة الأُم، وهي تلهث على الطريق.
لاأحد يعرف حقاً إن كانت شقيقة أو نصف شقيقة أو أخت بالرضاعة لأُم أولغا بيرغ أم أنهما فقط نشأتا تحت سقف واحد. ومهما يكن الحال، فقد كانت طاعنة في السن ولايعلم أحد متى ولدت أو متى تموت. إنها تعيش حياة أزلية، وبما أن والدة أولغا بيرغ قد توفيت، فهي تعتبر نفسها وريثة لها، وأُم للجميع إلى الأبد.
ترتدي ثوباً حريرياً وردي اللون، ودبوساً للزينة وشعر أبيض، وهي شديدة التدوير وقوية بحيث لايسعها الجلوس على الكرسي ذو المساند لذلك تفضل الجلوس على الديوان.
تسمي الأُم بتسي بأمومة محمومة وتسمي سينوفه بتسي الصغيرة. وتبدو دائماً وكأنها جاءت تواً من بيت الصلوات؛ قلبها الرقيق – نعم، حقاً ! – وعيناها ناعمتان بفعل التراتيل المقدسة وصلوات الروح المخلصة من أجل الحياة والرزق لقريب أو غريب أو لأجل الصلوات ذاتها.
تمتلك دوماً أفكاراً طيبة وقد جلبت معها إحدى هذه الأفكار. بيدها الأمومية القوية تحمل حقيبة يدوية، تبرز مثل حدبة من تحت معطفها المطري ذو اللون الرمادي الفاتح الذي يستقر على جسدها وكأنه يعانقها. تدخل الى غرفة المعيشة وتنير المكان بأبتسامة صادرة من القلب؛ تساعدها الأُم في نزع لفائفها وجزمتها العالية وتلبسها شالاً وجوارب صوفية. تعانقان بعضهما البعض وتبدوان في منتهى الروعة بحيث تشعر سينوفه بالاضطراب لأنها لاتمتلك يسوع في قلبها أيضاً! وهي تقريباً على وشك أن تتمنى لو أنه كان هناك!
ثم تعانق سينوفه التي تشعر وكأن حبل غسيل كامل قد سقط فوق رأسها.
” كيف يمكن أن تفكري بالخروج في مثل هذا الطقس،” تقول الأُم.
” لاشيء يوقفني عندما تكون لدي مهمة،” تجيب الخالة ( الجميع ينادونها بهذا الأسم) بغموض وتغوص في الديوان بصوت نخير يدل على الرضا. قطرات مطر صغيرة تتشبث بخصلات شعرها، وعيناها الرمادياتان تلمعان؛ تشبك يداها فوق البطن الكبيرة الحريرية الوردية وتحدق بسينوفه بعينين ودودتين، ومحبتان تقريباً وتقول،” مرحى، مرحى،” بنفس طويل مرح.
” يا إلاهي، ها أنت تكبرين، يابتسي الصغيرة!”
وعندما تعود الأُم بالقهوة وصحن من الكيك، وتفيض النكهة المحببة من فوهة الابريق، تتنهد ثانية تنهيدتها المفرحة وتقول:
” أوه، يالك من بركة، يابتسي؛ في البدء تنظفين وتطبخين وتخيطين للآخرين ثم تفعلين نفس الشيء في البيت، وهو ( تعني أولاف) دائماً في العمل أو يتجول خارج المنزل. نعم ماكُتب كان صحيحاً: ذلك الذي سوف يأكل يجب أن يعمل باسم الرب.”
الأُم تبتسم وحسب بشفتيها الممتلئتين وعينيها الحزينتين. وفي النور الرمادي لهذا اليوم الماطر تبدو مثل ظل نحيل للخالة البدينة.
والآن، تنحني الخالة على صحن الكيك لدرجة يتموج معها الحرير، وتلتقط واحدة من كيك كروم النرويجي، تهشمها بين براثنها المدورة وتدس الفتات داخل فمها الصغير، بالضبط مثلما يمضغ سنجاب كوز صنوبر. تتناول سينوفه قطعة من كعك يوليو، مشبعة بعبق الخمرة الطازجة، وعندما توقف صليل أكواب القهوة اختفت قطيرات المطر من شعر الخالة، يتسرب صوتها عبر الغرفة كما لو أنها كانت تخاطب حشد المصلين وتخاطب اللة:
” إنها لنعمة بالنسبة لي، أنا الخاطئة العجوز، أن أعيش لأرى، بتسي الصغيرة، تقف أمام يسوع وتعرف له بإيمانها الطفولي. هو الذي خلصنا من اللعنة والموت. قفي شامخة مثل ملاك متسربل بالبياض بين أحبائك. أواه، كم سعيدة أنا! لايسعني سوى الشكر لكوني عشت لأشهد مثل هذا اليوم المجيد!”
تسحب الخالة نفساً عميقاً وتستمر بحماس يجعل أذان سينوفه تحترقان. صوتها خفيض وحميم تقريباً، إذ تقول: “لقد صليت ليسوع من أجل هذا!”
ثم تتناول قطعة كعك كرومبية جديدة، وتهشمها بين يديها وتتناولها بحبور مثل السنجاب الذي يقضم البذور في كوز الصنوبر.
في الداخل يتصاعد البخار وفي الخارج تصب السماء مدراراً على النوافذ. تلتقط سينوفه حبات الزبيب من كعكتها، ولاتنظر إلى أحد لكنها تعلم أنها يُنظر إليها. لسانها يضغط على فمها وتشعر بالكلمات تنمو داخلها حتى تصبح غير قادرة على الكلام تماماً.
” وبعد ذلك أسمع بتسي تقول انها لاتعلم كيف تدبر لك فستاناً، وهذا الذي جعلني أقرر بأنك يمكن أن تأخذي فستان زفافي. انها لاتعتقد ان بامكانها أخذه، لكني قلت، نعم، بالتأكيد، بتسي الصغيرة سيكون لديها أفضل الفساتين التي بحوزتي وتكون في كل تفاصيلها جميلة كجمال الفتيات الأخريات في الكنيسة. في مراسيم تثبيت لم يشهد بهائها أحد من قبل، تأكدي من ذلك!”
يبدأ قلب سينوفه يتحرك في داخلها. تتوقف الخالة لتلتقط أنفاسها، ثم تسحب من حقيبتها شيء مخملي هائل الحجم، بحجم كومة من الستائر، بحجم تل من الغسيل، برائحة كرات نفتالين واضحة. بطيات، وثنيات، وكشكشات، وتطريز ، ومخمل، وقطار يمرق سريعاً مثل ريشة لطائر وريح عبر أشجار. وقبل أن تتمكن من استخراج الشيء كله من حقيبة تسوقها، تنفجر سينوفه: ” لاأريده”.
يتوقف هسيس فستان الزفاف للحظة.
يحدق الجميع بالفستان وتقول الخالة، صوتها معدني على حين غرة: هراء، بالطبع تريدينه! انهضي الآن لكي تجربيه”.
” ألست سعيدة؟” تقول الأُم”. “ستكونين جميلة. بالطبع يجب علينا تقريمه، لكني أستطيع أن افعل ذلك ولن يعرف أحد انه فستان الخالة”.
تقف سينوفه وتصرخ بعنف ويأس مصم لايخرج من رأسها أو افكارها ولم تعرف أنه كان يسكن في داخلها:
” لا أريده! انه فستان زفاف الخالة! لاأحب ارتدائه! أفضل الهروب في هذه الحالة، سأهرب إذا تعيّن علي ارتدائه!”
تحدق فيها الخالة كما لو انها سقطت من السقف، فمها مفتوح، عيناها بلون القصدير. تشرع الأُم بالبكاء، نشيج رهيب متقطع وتشعر سينوفه بأن المطر والجو الرمادي يلتهمانها، وتطرق الأرض بقدميها وتصيح، ” كلا! لاأريده!”
تتولى الخالة زمام السيطرة الآن وتشتاط غضباً. ترفع جثتها من الديوان، حاملة فستان الزفاف بيديها.
” أيتها الطفلة الناكرة للجميل! الآن استمعي جيداً: لاتستطيع بتسي شراء بذلة جديدة لك، ألا ترينها تبكي! لاتستطيع الشراء، انتبهي لي، ولايمكنك الظهور عارية في مراسيم تثبيتك. استخدمي شيئا من بديهتك، يافتاة، سيكون هذا يوماً كبيراً ومبهجاً بالنسبة لنا جميعاً – دعينا نتخلص من هذا الهراء”.
” ليس من أجل الأب!”، ترفع سينوفه ذراعيها أمام وجهها، بانتظار صفعة. لكن الصفعة لاتأتي.
” كلا، ليس من أجل الأب، الوثني، لكن من أجلنا ومن أجلك وأجل الجميع”.
” فضلاً عن ذلك، لم أطلب فستاناً جديداً. أُمي قالت انها سوف تخيط ثوباً لي من أكياس السكر وهذا يكفي. أليس ذلك كافياً؟”
بغتة شرعت الخالة تلبس سينوفه الفستان وسينوفه تحاول التملص لاهثة. تنتصب الأُم في جلستها على الكرسي باكية وسينوفه تصرخ والخالة تعنف كما لو كانت روح لم تُخلّص بعد. وسينوفه، سينوفه لاتمتلك سبباً واحداً يصلح للرفض، لكن روحها كلها تقول لا، أصابع قدميها، ذراعيها وجسدها، كل شيء فيها يصرخ لا. والمطر يهطل بغزارة ولايمكنك أن ترى عبر الضباب والبخار والدخان. تشد وتسحب بالفستان الخيالي والخالة تتركها، مذعورة، وتقول، تزمجر تقريباً:
” هل فقدت عقلك، يافتاة! لايجب أن تمزقي أثمن قطعة ثياب عندي!”
تسمع سينوفه نفسها تقول ذلك يكفي. تتلوى وتدور وتخلص نفسها من تلك الشبكة الكبيرة وتهرع إلى الخارج قبل أن يلحقها أحد. وتعدو ، تعدو على الطريق حتى تتيقن أن لاأحد سيراها ويعثر عليها ويعيدها.
وتبكي على أمها وتبكي على نفسها وتلعن أولئك المعتوهين التعساء الذين يجبرونها على مراسيم تثبيت العماد بثوب زفاف.
وتكره نفسها لأنها وحيدة مع نفسها في ذلك المطر الأبدي، وسط الأشجار المقطرة، في الشوارع الخالية والحصى الموحل والأرض الناقعة، لاتستطيع الذهاب الى أحد، وتخبره بأنها تعلم بأنها يجب أن تعود، دائماً وأبداً تعود.
فيما بعد عندما تقف ثانية خارج المنزل ووجهها مخطط بالمطر اللاسع وتكون متيقنة بأن الخالة لابد أن تكون قد غادرت والأم وحدها، تشعر حينها بأنها مجبرة، باليأس والتحدي، على الصمت، وتشعر بالاسى من أجل أُمها.
عندما تدخل لايقول أي منهم أي شيء. الطاولة كانت قد أُخليت من الأطباق. واختفى الفستان. أُمها لاتنظر إليها وهي لاتنظر إلى أُمها. تغير ثيابها بثياب جافة. تقطع الغرفة وتقف أمام النافذة بجانب الديوان.
بعد وهلة لابد لها من أن تقول شيئاً.
” أنظري إلى هذا الطقس، كل يوم”.
الهواء خانق.
أولغا بيرغ تنظر الى الخارج من النافذة الثانية وتجيب:
” لو أحببت، سأحاول أن أخيط لك ثوباً من أكياس السكر”.
” نعم”، تتحدث سينوفه إلى حافة النافذة.
كان ينبغي لها أن تفعل شيئاً أو تقول شيئاً.
” كنت أفكر بأني ينبغي أن اقدم لك ماكينة خياطتي كهدية”، تقول الأُم.
سينوفه أرادت أن تعانقها.

 

كارين سفين: (مواليد 17 أغسطس 1948) شاعرة نرويجية، روائية وكاتبة مقالات. حازت على شهرتها الأدبية عبر مجموعتها الشعرية ” حديقة الشتاء”
في عام 1975 . نشرت العديد من الروايات ومجموعات المقالات. منحت جائزة نورسك سبروك بريس في عام 2007

 

علي سالم: مترجم عراقي مقيم في لندن.
[email protected]

SHARE