في العام 1976 عبّر الشاعر السنغالي ليوبولد سينغور عن أسفه لنسيان المشرفين على جائزة نوبل مالكوم دو شازال. وفي نهاية الأربعينات من القرن الماضي كان أندريه بروتون يرى في المشروع الشعري لمالكوم دو شازال امتداداً للمشروع السريالي. ولم يكن حماس فرنسيس بونج وجورج باتاي وأندريه جيد وجان بولان وغيرهم أقل من حماس زعيم السريالية.
وليس مبالغة القول إن صدور كتابه الحس التشكيليّ Sens Plastique عن دار غاليمار الباريسية الذائعة الصيت في العام 1948 يُعد من الأحداث الكبرى في الحياة الأدبية الباريسية في وقت كانت الحركة السريالية تُراوح في مكانها وتبحث عن نفس جديد. في ذلك الوقت لم يتردّد جان بولان المشرف آنذاك على غاليمار وكاتب مقدمة الحس التشكيليّ في الإعلان عن ميلاد عبقرية شعرية وعن ظاهرة اسمها: مالكولم دو شازال.
أمّا في جزيرة موريس فكانت ظاهرة مالكولم دو شازال واحدة من حقائق الحياة اليومية في الجزيرة.
يقول بيرنار فيوليه Bernard Violet :
“في جزيرة موريس حيث ولد مالكولم دو شازال ومات، يعتبره البعض مجنوناً وانتهازياً، ويعدّه البعض الآخر عبقرياً، ولا أبتعد عن الحقيقة لو ذهبت إلى القول إنّ في جزيرة موريس ظاهرة اسمها: مالكولم دو شازال”.
وحسب توصيفات كتّاب هذه الجزيرة أنّ دو شازال هو سلفادور دالي يقطن جزيرةً نائية، فقد اعتاد الناس على رؤيته بملابسَ رثّةٍ وبحذاءٍ مثقوبٍ وبمعطفٍ بالٍ، لا يتردّد في ارتياد الفنادق الفخمة المعروفة في الجزيرة، حتّى حسبه الناس من أصحاب الأموال، هو الذي لا يشتري سوى قميص واحد كلّ خمس سنوات ولا ينفق من القليل الذي يملكه إلّا على الغذاء، على حد تعبيره.
يقول دو شازال: “اخترت العيش في موريس لأنّ سكّانها لا يعرفوني ومن جهلهم بي حصلت على حريّتي” هذه الحريّة سيتشبث بها في الحياة وفي الشعر وفي كلّ أنماط الكتابة حتّى آخر لحظة في حياته.
ويحلو لماكولم دو شازال تقديم نفسه على النحو التالي:
“كائنٌ صعب المِراس ويصعب العيش معه وقيادته مستحيلة، كائنٌ لا يُساس وغير مستعد للطاعة.
كائن غير اجتماعي بالمرّة ويعيش بشكل متواصل في تعارض دائم مع المجتمع، يحبّ الناس ويكرههم في ذات الوقت”.
نحن هنا أمام إنسان يعيش مثلما يحب وأمام شاعر يكتب على هواه. لا آباء له في الشعر رغم القرابة المفترضة التي وجدها نقّاد الأدب الفرنسي مع فرانسوا دو لا روشفوكو François De La Rochefoucauld وهو من كتّاب القرن السابع عشر والمعروف بكتابة الأقوال المأثورة والحكم والمثل السائر. غير أنّ هذه القرابة لا تتعدى صلة النسب المرتبط بالشكل وحده.
لنقرأ له أولاً:
البذرة هي حقيبةُ يدِ النباتات.
***
المثالي يمشي على أطراف أصابع القدم والمادي يمشي على كعب قدميه.
***
الأبله يثغو من عينيه.
***
ليس الضوء قذراً إلّا في نظرة الانسان.
***
السمعُ مشاهدٌ يصفّق بعينيه.
***
الحمار الذي ينهق دوماً بأعلى صوته، هو أكثر الحمير أصالة. الحماقة دوماً صاخبة.
***
للشغف حياة قصيرة بدون شهود، حتّى روميو وجوليت كانا سيقيمان عائلة برجوازية في جزيرة خالية.
***
المرحاض جمهورية المؤخرات.
***
يحمل الرجل قلبه على قضيبه
وتحمل المرأة فرجها على قلبها.
***
من بين جميع المخلوقات وحده الرجل يبحث عن متعتين في وقت واحد.
***
الألم يرفع من شأن الكبار وحدهم.
***
تجعلنا المرأة شعراء والأطفال فلاسفة.
على هذه الشاكلة يجد القارئ عشرات الآلاف من الشذرات بعضها في سطرين وأطولها في أربعين سطراً على مدى أكثر من ستين كتاباً شعرياً صدرت له حتّى عام وفاته.
وتبدو الصورة الشعرية عاديّة تارةً وصادمة طوراً، غير أنّها في جميع الأحوال مسكونة في هاجس خلق المدهش عن طريق المفارقة والدعابة حتّى بدا شعره وكأنّه فهرسٌ للصور الشعرية المصاغة بلغة لا دور لها سوى دور الحامل للفكرة والمعنى، أي الرسم بالكلمات لخلق أدب جديد يختلط التشكيلي باللغوي فيه وهو ما يطلق عليه : الأدب ـ الرسم، حسب توصيف مالكولم دو شازال نفسه.
الشاعر ليس معنياً بما هو معروف في فن الشعر وقوانينه كالوزن والقافية والتشطير والإيقاع والهارمونية والوقف أو حتّى الكتابة النثرية. ولا يجد القارئ عنواناً واحداً لقصيدة واحدة في جميع دواوينه. الديوان بالنسبة له قصيدة واحدة تضع يدها على الحسيّ والنفسيّ والطبيعيّ، باختصار كلّ ما يتعلق بالإنسان وما يحيطه.وشِعره عبارة عن “فوق شِعر Surpoésie ، يختلط فيه العلم والفن والشعر وعلم النفس والميتافيزيقيا والروحي وحتّى الرب، بعبارة جان بولان.
ولا يريد مالكولم دو شازال الحصول على اعجاب القارئ ولا يبحث عن رضاه، بل هو لا يبحث عن شيء بتاتاً. كلّ ما في الأمر، لديه ما يقوله ولا يتردّد في قوله، حسب جان بولان ثانية.
فهو معنيّ بخلق قرائن، الغرض منها خلق نظام للمطابقات الكونية تجعل من أنسنة الأشياء والطبيعة وكلّ ما يحيط بالإنسان ممكناً.ولا يمكن أن يتمّ ذلك إلّا عندما يتعامل الشاعر مع الكلمات باعتبارها كائنات حيّة.وهكذا فعل مالكولم دو شازال:
يقول دو شازال:
” كان دانتي كاتباً كبيراً، لأنّه فهم ما لم يفهمه الكثير من الكتّاب: الكلمة كائنً حيّ، ويمكن للكاتب أن يقوم بمزجها وتفكيكها ووضعها في المكان المناسب لخلق هارمونية ضرورية بين الصوت والصورة، شريطة أن لا يغفل أنّ الكلمات لها روح مثل البشر. وأنا عندما أكتب كلمة كوكبات Astres فهذه الأحرف الستة لا تعني بالنسبة لي علامات جامدة بل هي سحر الحياة لأنّ جوهرها حقيقيّ وماهيتها عضوية”.
ولا تقتصر الكلمة، حسب دو شازال، على الحروف مكتوبةً كانت أم منطوقة، بل ينبغي عليها أن تستجيب إلى حتميات الحدس المباشر العابر للتأملات.ولغة دو شازال خاصّة به ومن فرط خصوصيتها أنّه لا يتردّد في الخروج على القواعد والقواميس.
ويروي هيرفيه ماسون Hervé Masson رسام الجزيرة الأكثر شهرة وصديق دو شازال قصةً لا تخلو من الطرافة لكنّها تشير أيضاً لجانب في غاية الأهمية في أبحاثه الشعرية:
” سألني دو شازال ذات يوم بحضور زوجتي عن إمكانية تأنيث كلمة الشمس Le soleil المذكّرة بالفرنسية لأنّه كان يرى أنّ الشمس قد حبلت بالقمر وأنجبته، وتأنيثها يعيد الاعتبار إلى تلك الأمومة”
وفي هذا المسعى لم يكن دو شازال شاعراً إلّا بالمعنى الإغريقي لفهم الشعر Poiein وتعني فعل الخلق، فهو خالق لتراكيب وأشكال وأيضاً لصور تماثليّة قلبت رأساً على عقب تركيب الجملة وترتيب الكلمات فيها فضلاً عن علاقة الكلمات مع بعضها، على حد تعبير ليبولد سينغور.
وتعتمد شذرات دو شازال على المفارقة وهي عماد، مثلما هو معروف، معمار وتقنية النصوص القصيرة لكنّه أضاف شيئاً آخر أراد منه تحرير الكلمة من سطوة الجملة والجملة من هيمنة العبارة وهذه الأخيرة من طغيان اللغة.
وفي أحاديثه عن بحثه الشعري، يؤكد دو شازال أنّه يريد إيصال كلّ ما حسيّ عن طريق الصورة، وهذا المسعى ليس بالجديد في الكتابة الشعرية، لكن ما هو جديد، حسب سينغور، أنّ بحثه الشعري” يفضي إلى صياغة أفكار حيث كلّ شيء هو صورة ودلالة في الوقت نفسه”
وحسب ما رأى جان بولان وجورج باتاي وغيرهما أنّ دو شازال شاعر فيلسوف ليس للشعر عنده وظيفة أخرى غير تلك التي تعبّر عن أفكار. فهو، في نهاية المطاف لا يريد التعبير عن إحساس ما ولكنّه عن طريق الحس يسعى إلى صياغة صورته الشعرية.
ويمكن للمرء أن يفهم حماس السريالين في بداية الأمر لتجربة دو شازال ويتفهّم تحفظهم اللاحق.
فلئن كانت تجربته تتقاطع مع التجربة السريالية في الخروج على الضوابط والقواعد، فلأنّ التجربتين تنهلان من نبع واحد هو الكتابة بلا رقابة داخلية.غير أنّ بروتون الذي أعلن في نهاية الأربعينات من القرن الماضي بأنّه وجد في اشعار دو شازال ما كان يدعو إليّه ويبشّر به، سرعان ما أعلن عن تحفظه وأخذ عليه إيمانه بمبدأ “التأليهييّة Déisme وهو عبارة عن مذهب يدعو للإيمان المبني على العقل دون الوحي ولا يقرّ بغير وجود الله. وهو دين يتجاوز ما يطلق عليه دو شازال الأديان الأسطورية التي هي من صنع الانسان نفسه للوصول إلى دين يصنعه العقل والمعرفة.
وفي هذا السياق يمكن القول إنّ دو شازال لم يكن يعتبر نفسه سريالياً.
فكيف يمكن لهذا المسكون بهاجس الحريّة أن يقبل بأقل مما كان آرتور رامبو يطلق عليه “الحريّة الحقّة”؟ وهذه الحريّة الحقّة لا تستقيم مع فكرة الانخراط بمدرسة أو اتجاه أدبي حتّى لو تعلّق الأمر بالسريالية نفسها.
ذهب مالكولم دو شازال إلى ما كان جان كوكتو يصرّ عليه ويدافع عنه: “الشعر عرسٌ بين الوعي واللاوعي”، على خلاف ما نادت به السريالية في بياناتها وخاصّة في مراحلها الأولى، إذ قدّمت اللاوعي على كلّ ما سبقه وكلّ ما يلحقه.
إنّ نقطة الضعف في الكتابة الآلية عند السرياليين، هي أن الوعي فيها مؤجل، يقول دو شازال، ويرى أن ما ذهب إليه سلفادور دالي في ” النقد الهذياني” لم يكن سوى تآلف مدروس بين الوعي واللاوعي ومن تجانس الاثنين يحصل الكاتب على ما يطلق عليه الكتابة السحرية. وهو يرى أن الشاعر وليس ألبير أنشتاين من يأتي بالحقيقة.
وهو ليس سريالياً، يقول سينغور، لأنّ في داخله الكثير من الروحانية التي لا يملكها السرياليون حسب تعبيره.
ومالكولم دو شازال ليس سريالياً لأنّ دعابته وردية، حسب قوله، ودعابة السرياليين سوداء.
وهو ليس سريالياَ، في نهاية المطاف،لأنّ بحثه الشعري قائم على المعرفة :
لا هدف من أبحاثي سوى القبض على المعرفة، يقول دو شازال، فلو”مُنحت شهرة عالمية ولو وُهبت كلّ ما في وسع المرء أن يتمناه ولو منحني الرب الأرض وما فيها والكون بأكمله، لقلتُ له : أيها الرب وهبتني كلّ شيء ولم تمنحني المعرفة”.
ولكن ماذا يفعل بهذه المعرفة؟
من أجل أن تختفي الأديان والفلسفات والعلوم ليحلّ محلها علم جديد هو “العلم الشعري” يجيب دو شازال.
ومن نظرية العلم الشعري استنطق كلّ ما يحيط بالانسان، الأحجار والأزهار والنباتات والغابات والمياه والجبال ومنحها جميع الحواس مثل باقي البشر.
ولأنّ المعرفة كلٌّ لا يتجزأ فصار من الواجب علينا أن نعثر عليها” من خلال الخروج على السائد وكسر القيود ولربط الحلم بالواقع والحقيقة بالخيال. وقبل الشروع بهذا علينا أن نقول: وداعاً للسريالية التي لا تستثمر غير اللاوعي ووداعاً للرمزية التي تضع الانسان خارج الحياة” يقول دو شازال.
سيرة ناقصة:
أما عن سيرته الشخصية فلا نعرف الكثير، فقد حرص على جعل حياته لغزاً من ألغازه الكثيرة، حتّى أنّه رفض عرضاً من دار نشر باريسية Seghers للكتابة عنه في سلسلة “شعراء” الشهيرة، بسبب بسيط يقول دو شازال: “لا أريد أن أعطي أية معلومات عن حياتي في موريس وأريد أن أبقى لغزاً في الجزيرة وفي بقية العالم أيضاً”.
ويقول بيرنار فيوليه إنّه عرف من أصدقاء له أنّه ولد في جزيرة موريس عام 1902 من عائلة فرنسية كانت تسكن منطقة الفوريز Le Forèz وهاجرت إلى جزيرة موريس عام 1763 أي بعد خمسين سنة من ضمّ فرنسا للجزيرة التي كانت تُعرف آنذاك باسم Isle de France . حصل على دبلوم الهندسة الكيمياوية من إحدى الجامعات الأمريكية وبعد أن عمل في كوبا لبضعة أشهر قام برحلات سياحية إلى فرنسا وبريطانيا وسويسرا وعاد إلى جزيرة موريس عام 1925 ولم يتركها حتّى وفاته عام 1981.
أثناء إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية كان وثيق الصلة مع جماعة دينية معروفة باسم Swedenborgienne تدعو إلى الإيمان عن طريق العقل.
بدأ الكتابة في الصحف المحلية باسم مستعار MEDEC وفي العام 1935 شرع بنشر مقالات في الإقتصاد والفلسفة وكتابة النصوص القصيرة التي سيجمعها في كرّاسات على نفقته الخاصّة.
بين 1942 و 1947 أصدر مجموعة من الشذرات بعنوان “أفكار” في سبع مجلدات.
وفي العام 1947 أصدر كتابه الشهير “الحس التشكيليّ” في جزيرة موريس وعلى نفقته الخاصًة أيضاً وعادت دار غاليمار الشهيرة طبعه في باريس في العام 1948 وكان هذا إيذاناً بتكريسه كأحد أهم شعراء اللغة الفرنسية في أواخر الأربعينات.
وفي العام 1949 صدر له عن دار غاليمار “حياة مِصفاة La vie filtré وهو آخر كتاب يصدر له في فرنسا وهو على قيد الحياة.
وبين عام 1950 وعام 1954 أصدر أكثر من ثلاثين كتاباً من الشذرات كان أهمها “حجارة الفلاسفة” و”كتاب الوعي” و”كتاب المبادئ وأنجيل الماء”.كما أصدر رواية بعنوان
Petrusmok وهي رواية أسطورية عنوانها لا يعني شيئاً وضعه الكاتب لتسمية جزيرة خيالية تكون بديلاً عن جزيرة موريس.
وفي خمسينات القرن الماضي كتب عدداً كبيراً من المسرحيات لم يُعرض منها إلّا واحدة على خشبة المسرح. وفي هذه الفترة أيضاً تفتّحت لديه رغبة كبيرة في الرسم وأقام الكثير من المعارض في داخل الجزيرة وفي خارجها.
وفي العام 1958 أصدر كتابه الشهير Apparodoxe في باريس والعنوان نحت من كلمتين Apparence وتعني الظاهر و Paradoxe وتعني المفارقة.
وفي العام 1968 أصدر كتابه المهم قصائد Poèmes في باريس، وأُعيد نشره في العام 2005.
قصائد
عندما
تمرّ
الريح
يتمدّد العشبُ
كي
يمارسَ
الحبَّ.
لا
يكون
البُرغيّ
رذيلاً
إلّا
عندما
يُفك.
لا
تحمل
الأزهار
قبعةً
إلّا
عندما
يهبّ
النسيم
الألوان الزرقاء
عندما تشعر بالبرد
تلبد باللون الأبيض.
في الشلّال
كان
الثلج
يتزلّج
فوق الماء.
أشكال
جسده
كانت
مدرسته
اليسوعية.
هي
كانت
تقطف أثداءً.
عندما
نعصر
بطن
النار
يضحك الضوء.
كانت
لها
مؤخرات
احتياطية
تحت
ملابسها
الداخلية.
الظل
الذي
يتجاوز
خطوته
يخلق نهاراً مستعارا.ً
العين
تنام
عندما
يثرثر
الفم.
مركبات
النقص
إمّا كبيرة
أو صغيرة
لا توجد مركبات نقص متوسطة.
العين
تطرح
عند الملل
والفم
يجمع.
على
شرفة
الذوق
كانت
حاسة الشمّ
تستنشق الهواء.
وضع
الزجاج
عويناته
عند مرور البرق.
مختارات من”الحسّ التشكيليّ”
المخ والمخيخ هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ عند الإنسان.
الجسد يمثل الشعب والمعاني تمثل الوزارات والأعصاب تمثل الدوائر الرسمية. وجسد الإنسان ديمقراطية تديرها الروح ولكنّها لا تملك حقّ حلّ المجلسين.
كلّ الديمقراطيات الاجتماعية مستوحاة من ديمقراطية الجسد ومشتقّة منها. والفارق الوحيد بينها هو أنّ الفردية تسود وحدها في ديمقراطية المجتمع بينما تسود الروح بشكل تام في ديمقراطية الجسد.
يجري الماء متعرجاً فوق أيّ سطح أملس لكنّه يتزحلق فوق بريق الأوراق.
الطبيعة أجمل كتاب للصور. ولكن للأسف نتوقف عند الغلاف وحسب. وكي يتسنّى لنا تقليب صفحات هذا الألبوم العجيب، عليّنا أن يكون بوسعنا تقشير النباتات والأزهار والفواكه بالنظر مثلما نقشر البصل باليد أو مثلما نفعل بموسيقى أوركستر نتذّوقها جزءً جزءً ونستبقيها في الأذن كاملة.
وهكذا، لمعرفة قدر الأزهار على نحو تام علينا أن نكون قادرين، وبالتناوب، على تذّوق حزوز الزهرة وخطوطها الزردية وبِركاتها الملوّنة الصغيرة وبذورها وزغبها وترقطها المطاطي ووميضها وظلالها ورسومها وأصيصها وديكورها ومشهدها ومنحدرها وكواليسها وتناسق ألوانها وانسجام أشكالها ومعمار ولوحتها.
ولكن من أجل تقشير زهرة بالنظر مثلما نقشّر البصل باليد، أليس من الواجب على المرء أن يعرف على الأقل وقبل كلّ شيء ابتكار مخططات للنظر؟
لمسات عنق الأغصان ولمسات فم الأزهار ولمسات بطن الماء ولمسات ورك الفواكه والأوراق: لغات رطبة.
ترى الأصابع في الليل مثلما تفعل القطط ولكننا لا ندرك هذا. وكي يتسنى لنا استقبال الرسائل الصوتية بأطراف الأصابع، عليّنا غلق العين المادية وفتح العين النفسانية، مثلما يفعل العميان.
يمشي المثالي على أطراف أصابع القدم
ويمشي المادي على كعبيّ قدميه.
البذرة هي حقيبة يد النباتات.
ترضع أعضاؤنا أوردتنا مثلما يرضع الطفل من ثدي أمّه. الدم حليب خلويّ. الكائن البشري، إن كان طفلاً أو بالغاً أو شيخاً، يرضع أو يمضغ أو يزدري حساءه، فنحن نعيش من الولادة إلى الموت فيزيائيا من رضاعتنا لأنفسنا. عضويّاً نحن أطفال أنفسنا ونحن أمهاتنا. وفي اللانهائي من الأشياء وفي وحدتها وفي كليّتها، نحن نعيش من رضاعة الرب.
شعرت الزهرة بالريح فهزّت رأسها وانحنى الساق. مثل امرأة قد توافق على شيء ما برفضها.
اللذّة سباق كلاب الرغبة السلوقيّة، حيث يتساقط المتسابقون دوماً قبل الوصول إلى الهدف وقبل العثور على الفريسة.
الضحكة المفتعلة تُنقص من وزن الأسنان.
هناك: الشمال الأقصى للكلمات
هنالك: أقصى جنوبها
هنا: خط استوائها.
الأزهار مثل لوحة الموناليزا، من أينما نحدّق بها، تلاحقنا بنظرتها.
الزهرة هي ثدي وفم وفرْج في نفس الوقت. امرأة مكتملة. اتحاد الأقانيم الثلاثة.
الأبله يثغو من عينيه.
لا تفقد الحيوانات الحيوانات فطرتها إلّا بعد تدجينها.
يحمل الرجل قلبه على قضيبه
وتحمل المرأة فرجها على قلبها.
الأذواق المفرطة تتقاطع كلّها مع الذوق المرّ.
الفم محطة انطلاق الضحك والعين محطة وصوله. وبعد فترة طويلة من صمت الفم، ما زالت العين تضحك.
الكبرياء متعة الرقبة والاعتداد متعة الكُلية.
ليس الضوء قذراً إلّا في نظرة الإنسان.
غضب النساء الكبير يعني عاصفة في الورك، ونصف غضبهن يعني إعصار في الجِذع.
عند الحيوانات، توأم الروح هي الرائحة المكملة. وكان هذا وضع البشر بلا استثناء منذ بدء
الخليقة.
السمعُ مشاهدٌ يصفّق بعينيه.
للإنسان صوت ناطق وللحيوان صراخ ناطق، ولكن استرقوا السمع، جيداً ومن بعيد، إلى صراخ البشر وصراخ البهائم ممتزجة ببعضها، ستجدون أنّ البهيمة الحقيقية في هذه الحالة هي ليست الحيوان، إنّما الإنسان نفسه.
اللذّة تُفرغ حاسة الشم.
الطيبة تجعل من المرء حضريّاً. كم من قديسة بدأت حياتها فلّاحة وانتهى بها الأمر إلى أن تكون من سيدات المجمتع.
العلاقة الجنسية خارج الزواج منبهٌ للرجل ومسكّنٌ للمرأة.
في عصور ما قبل التاريخ، كان الزمن مفهوماً ثانوياً في الحياة. حينها، كان الإنسان يعيش حاضره وينشغل به وحده. ولكن بعدما عرف الملل اخترع الساعة، ومع هذه الأخيرة كبر ملله، لكنّ البطالة التي قذفت به خارج الحاضر وزادت من البون بينه وبين حياته، منحته معنى الزمن الخارج عن الذات، وصار مثل شخص يقف عن ضفة النهر ليرى مياه السواقي تجري من تحت قدميه.
ومنذ ذلك الوقت، فلت الزمن السائب وغير المستقر فينا من أرواحنا، ونصّب نفسه سجّاناً لنا.
للشغف حياة قصيرة بدون شهود، فحتّى روميو وجوليت في جزيرة خالية كان سيقيمان عائلة برجوازية.
القلب عند النساء فَرْجٌ يخفق ببطء والفَرْج قلبٌ ينبض بشدّة.
ورقة التين تجعل العري أكثر وضوحاً. الزهرة لا تكون عارية تماماً إلّا وهي مرتدية أوراقها. الزهرة تبدو خنثى بلا أوراق.
صياح الطير هو أفضل معيار لأنغامه. لا نشاز في صوت الطير إلّا عندما يكون خائفاً.
الصمت محام يترافع بعينيه.
الحمار الذي ينهق بأعلى صوته هو الأكثر أصالة. الحماقة دوماً صاخبة.
الصلاة الحقّة هي التي تجعلنا نركع على المرفقين وعلى الركبتين بنفس الطريقة.
أثناء النشوة يسجد الفم مثل ركبة تصلّي.
الشمس هي الشيوعية الشاملة، إلّا في المدن حيث تكون الشمس ملكية خاصة.
في الليل نصفح بسهولة فائقة عن عادات الجسد المستحكمة وبصعوبة بالغة عن طبائع الروح المستديمة.
النظرة اللامبالية وداع وداعٌ دائم.
الطيبة تجعل الذكاء حضريّاً
الجحيم الأكثر عمقاّ معمول من لذّات عمودية.
في الدخان ننفض الغبار بالنظر
وفي الغبار نكنس بالعيون.
لأصحاب الذهن الحاد ضحكة سريعة وابتسامة بطيئة.
بلادة الذهن تطيل الضحك وتقصّر من عمر الابتسامة.
يعطس المتكبرون من الأنف.
الغضب يقطب حاجبيه بالنظر
والطيبة ترمش بعينيها.
أطراف الجبال هي العمود الفقري للريح.
الوديان هي حمّالة صدر الريح.
الليل يهدّأ معارك الروح ويلهب تلك التي في الجسد.
الفم جِناس العينين
والعينان جِناس الفم.
اللون الرمادي مَنفْضَة الشمس.
نظرة من له فمٌ يناسبنا تعجبنا على الدوام.
غناء الطائر الوحيد لحنُ ناي منفرد
وغناء الطيور المجتمعة نغمة أكورديون.
تجعلنا المرأة شعراءً والأطفال فلاسفة.
اللذّة عند الرجل وجبة من طبق واحد، وهي عند المرأة فطور وغداء وعشاء ووجبة منتصف الليل.
الألم يرفع من شأن الكبار وحدهم.
من بين جميع المخلوقات، وحده الرجل يبحث عن متعتين في وقت واحد.
الملل يعقّد الطباع الذكرية ويبسّط مزاج النساء.
الأصابع أرصفة اللمس وراحة اليد شوارعه. يمشي الاحساس فوق الأصابع ويتدحرج فوق راحة اليد، مثل راجل وراكب سيّارة.
لا يملك القلب جهازاُ للإنذار المبكر.
عندما يتحدث المرء بلغة أجنبية يرفع الحروف الصوتية ويكبس الحروف الصامتة، مثل السكران الذي ينزلق ويتشبث بأي شيء.
لا تعرف الأعصاب إلّا القليل من العاطفة.
ينتهي الأمر بالخدم إلى التشابه مع سيدّهم. ومع مرور الوقت، كلّ جرذان الكنائس تلبس ثوب الكهنة.
العظمة مثل الشمس، ليس من الضروري أن تبرهن على وجودها. الكلّ يراها.
لو كانت الشمس متواضعة لما كانت شمساً. فليس بالإمكان أن تكون كبيراً ومغموراً في نفس الوقت.
من يريد أن نؤمن به، عليه أن يتحدث بصوت منخفض.
كلمة الرب هي أكثر الكلمات المختصرة كمالاً.
يأتي الخوف عند الحيوان ممّا يتعلمه في حياته وعند الإنسان من الولادة.
النباح عند الكلاب وسيلة للثرثرة.
عندما تتحدث الكلاب بجدّية تكشّر عن أنيابها.
بعين من يكره عمرنا دوما مائة سنة وبعين من يحب عشرين سنة.
نعيد الشباب دوماً لمن نحبّ.
ليس الكاهن، في كثير من الأحيان، سوى شاعر لم يجد قريحة على مقاساته. وبالمقابل كم من الشعراء هم كهنة لكنّهم لا يعرفون ذلك.
العين أجمل صالة للمواعيد.
اللون الوردي هو أسنان الشمس اللبنية.
الشيطان هو البعد الرابع للكنيسة.
اللذّة عند الرجل سكنٌ من غرفة واحدة وهي عند المرأة خليّة نحل.
الشاعر الحقيقي هو من كان مخّه قيثارة بين يدي مخيخه.
“صدر كتاب شاعر الشذرات عن دار أدب فن الإلكترونية”
شاعر ومترجم عراقي، مقيم في باريس
[email protected]