أفكر في النادل الآن.لا أحد من طبيعة الحال كان يريد أن يكون نادلا.لا أحد فكر أنه سيتحول إلى شخص يتجه إلى إرضاء الآخرين دون التفكير في نصيبه من الإرضاء.كل شخص يحلم في الطفولة بأن يكون خارقا. فالأحلام سهلة جدا إلى حد أنها تأتينا أيضا ونحن نيام لا نقوم بأية حركة. الأحلام تكون دوما في متناول اليد. لكنها في الطفولة تكون شهية وملذة. أحلام تتجول في رؤوسنا مثلما تتجول براغي حديدية في جسد سيارة. هاته الأحلام تفر هاربة بمجرد أن تتأكد أن صاحبها قد ودع هول الطفولة ليبدأ صعوده البطيء الشبيه بصعود سيزيف ، مع فارق وحيد هو أن سيزيف المعاصر قد اختار مصيره بيده. لم تحكم عليه آلهة ولا كلف بمأمورية في معسكر العدو. هو عدو نفسه.يمارس حروبه اليومية ضد نفسه باستمرار وبدون تكتيك يذكر. هكذا هو النادل. لم يختر بذلته السوداء. البذلة التي لا تتغير إلا إذا غير مقر العمل. أقصد إذا غير المقهى أو المطعم اللذان يشتغل بهما.
أفكر في النادل الآن. أفكر في الرجل الذي كان يرتدي نظارات طيلة الوقت.اعتقدت في البداية أنه مطرود من مهنة مكتبية. ربما لم يستسغ عجرفة رئيسه في العمل ولم يحتمل حديثه بصوت عال يصم الأذان وهو يتحدث طيلة الوقت مع عشيقته. وربما فقط يكون زميله الذي يشاركه المكتب قد دبر له مكيدة ما من تلك المكائد التي تدبر عادة في مكاتب الوزارات ،والتي ينال أصحابها ترقية سريعة بينما ينال غرماؤهم عقوبة قاسية تكون في غالب الاحوال هي الطرد. فكرت أيضا انه قد يكون سليل عائلة ميسورة أصابها إفلاس جعل أفرادها يهيمون في الأرض باحثين في مدن بعيدة عن مهن صغيرة يسدون بها رمقهم وتقيهم من نظرات الناس الشبيهة بلسعات العقارب.
لكنه مجرد نادل الآن يقدم الطلبات لزبناء المقهى ولا يفكر أبدأ في ماضيه ولا حتى في مستقبله. إنه لا يملك الوقت للتفكير. لقد استهلكه الشغل على حد تعبيرفريديريك نيتشه. وفي أي شيء سيجدي التفكير بالنسبة لنادل. ولكن أليس التفكير هو ما يميز الانسان مثلما ادعى ديكارت؟
النادل إنسان اذن فهو يفكر بالضرورة. ولكن في أي شيء يفكر النادل؟ هل يفكر مثلا في تقاعده الذي لن يحصل عليه أبدأ ام يفكر فقط في راتبه المقزوم والشبيه بحبل قديم في سطح عمارة من عشرين طابق.هو حبل ولكنه لا يفي بأي غرض.حبل متروك بعشوائية تحت أشعة الشمس ،والتي تقض مضجعه،وتلهب جسده صيفا.لكنها تعود الى إدفائه شتاء .هذا الحبل الذي قد يسطو عليه أطفال نزقون لاستغلاله في لعبة الحبل المحببة لديهم مثلما سيسطو بقال الحي والجزارعلى الجزء الكبير من راتب النادل.
يذهب النادل صباحا إلى عمله. يأخذ الحافلة التي تنطلق من حيه السكني. يدندن في طريقه مرددا أغنيته المفضلة التي يبثها التليفزيون كخلفية موسيقية للوصلة الإشهارية التي تدعو للحفاظ على نظافة الشواطئ. يقول في سريرته :”هاته الشواطئ لا تعنيني أبدا. فأنا لم أكن مصطافا أبدا ولا أفكر في أية نزهة شاطئية. ولكن لماذا أردد هاته اللازمة التي لا أحفظها جيدا.؟” ويعود إلى الدندنة من جديد. تثيره اللوحات الاشهارية في الخارج بالشكل الذي يجعله يدير رأسه بشكل مضحك. يطاطيء رأسه ليتمكن من استكمال قراءة اللافتة الاشهارية.
إنه لا يمتلك شقة خاصة به. يسكن منذ مدة مع أسرته. أبوه لا ينفك عن الحديث عن الاستقلالية وعن الدول الأوربية التي يستقل فيها الشخص عن أسرته بمجرد وصوله إلى سن الرشد. لكن مهامه لا تسمح له باكتراء منزل. جرب مرة اكتراء شقة صغيرة فوق السطوح لكنه لم يحتمل قسوة الصراصير وفئران المجاري. كان يتحول إلى فريسة سهلة المنال حينما يطفئ المصباح الوحيد والضعيف الإنارة كأنه يخضع لحمية تصالحية مع البيئة. فجأة وجد نفسه مدمنا على غرف “الشات “التي يعج بها محج العم “غوغل”. يبتديء مباشرة بعد عودته من العمل وأحيانا قبل أن يتناول سندويتشه الرخيص الذي يشتريه من مطعم”طاكوس 99.”
كان يدخل إلى غرف “الشات” متسللا . لكنه استلذ تدريجيا عطاياو لذائذ الجلوس ،وتبادل الكلمات المختارة والتي يغطيها العسل من كل جانب. يرتع هناك بدون حسيب ولا رقيب. لا شيء يجعله يتذمر سوى مرور الوقت بشكل سريع. إنه مجبر على أن يبكر في الاستيقاظ. هذا كان يسبب له ارتباكا كبيرا في الصباح فهو لم يحصل على الإشباع الذي يقيه شر التعثر بالطاولات أو نسيان طلبات الزبناء. كان يحافظ على ابتسامته طيلة الوقت مخفيا ألمه الدفين الذي يفوق ألم مرور السكين في الجسد.كان يتحامل على ذلك بالانزواء للتدخين من حين لآخر والثرثرة مع زملائه.
كان يجلس في المساءات وحيدا متذكرا سنوات الطفولة . لم تكن تغريه المدرسة كثيرا. كان دائم التأخر والشرود. في الحجرة الدراسية كان يشرد مراقبا المعلم والتلاميذ. كأنه كان مكلف بمراقبتهم. هو غير معني بما يفعلونه. هو مجرد ضيف غير رئيسي في حفل شعبي. لا أحد ينتبه إليه. لم يكن يهمه أي شيء سوى ضربة الجرس التي كانت تحرره من عقوبة السجن التي يقضيها بدون حكم قضائي. يكون خروجه شبيها بالقفز. يقفز بسرعة إلى الخارج خوفا من يتم التراجع عن الإقرار بسراحه المؤقت. غالبا ماكان يغفو قليلا كي يتخلص من الضغط. حينما كان يطرح ذلك السؤال الساذج المتعلق بالمهنة المستقبلية لم تكن تسنح له الفرصة للتعبير عن رأيه. تنتهي الحصة الدراسية وهو لم يجد الفسحة ليقول للجميع:”لا أريد أن أشتغل..لا تغريني اية مهنة.”لو اتيح له قول ذلك كان الفصل سينفجر بالضحك.لم يكن يعرف أن جان جاك روسو قد قال بأن الإنسان كسول بطبعه.
لكن الأقدار كانت تقيه من الوقوع في تلك الورطة. هذه الأقدارلم تقيه من ورطة الاشتغال في مهنة لا يحبها.إنها سجنه الشخصي الذي لا قبل له بالانفلات منه. سجنه الذي يسلبه النوم في الليل. يستيقظ مذعورا وهو يتنفس الصعداء لأنه نجا بأعجوبة من زبناء مفتولي السواعد يطالبونه بالفكة دون أن يكونوا قد نفحوه أي شيء. هاته هي ورطته. ورطة النادل التاريخية.
بعد كورونا
و الآن، إنه مكور في فراشه طيلة الوقت. لم يعد يخرج أبدا. في التلفاز يرددون لازمة: “ابقى في منزلك”. و هذا يعني أن المقهى سيبقى مغلقا. لا يعرف متى سيتم رفع هذا الحجر الصحي. فكل المقاهي مغلقة الان، مما يعني أن الندل أصبحوا بدون مهنة، أي بدون دخل يضمن لهم العيش. ربما يكون الندل الآخرون قد وجدوا مهنا أخرى. هذا ما كانت تقول له زوجته.لقد تزوج قبل شهر من بداية الحجر الصحي.كانت تصرخ في وجهه”سر تخدم ..شي نهار غا ناكلو هاذ التلفزة”. لكنه لم يبحث، و لم يخرج حتى من منزله. بقي مرابطا فيه، و خائفا من هذا الفيروس العتيد، و الذي تحول إلى غول معاصر غير مرئي و لا يمكن التنبؤ متى سيغزو أجسادنا، دون أن يكون في حاجة الى جيوش جرارة، أو أن يشحد سيوفه، أو يشتري طائرات حربية، و مضادات للصواريخ. فهو المحارب الوحيد الذي يعتبر جيشا قائم الذات دون احتساب القتلى الذين أسقطهم، رغم أنه لم يخرج أية طلقة من بندقيته، بل إنه لا يمتلك أية بندقية.
لم تعد للبنادق أية قيمة. انتقلت غزواته الصامتة .قتلى كل مكان.هذا ما يحول الحكمة الشهيرة الى “طحين ولا جعجعة”عاكسا إياها. لقد وصل الى البلدات الصغيرة و النائية، فاختبأ الناس في المنازل تاركين الحياة تعبر دون أن يتلقفونها براحات أياديهم أو تخفق لها أفئدتهم الصغيرة.
في كل مرة يسمع النادل “الزموا منازلكم”. هذا يعني أنه سيستمر في الاختباء داخل المنزل. لم يعد يتصل به رب المقهى، بل لم يعد يرغم في سماع صوته. لقد خمن بأنه لم يعد مرغوبا فيه، و ربما بعد هذا الحجر الصحي سيحل مكانه نادل آخر. و هذا يعني أن حياته قد انتهت قبل أن تبدأ. “و ما الذي سأفعله؟” هكذا قال. “ربما يجب أن أصبح بائع جوارب مثل محمود”. غمغم و ضرب براحة يده على جبهته.”و لكنني لا أعرف لغة التجار الصغار، و لا أعرف الحذلقة” أضاف. “فما الذي عساي أن أفعله” أضاف بنرفزة. ثم أنقذته نشرة الأخبار، إذ شرع المذيع في احصاء المصابين و القتلى. فبدأ يهرش فروة رأسه، و يفغر فاه من حين لآخر مستسلما تماما لمطبات العصر الجديد. غفى بعد ذلك ليستيقظ مذعورا بعد أن مرت سيارة إسعاف من أمام منزله. و هو ما يعني وجود إصابات أخرى و ربما قتلى آخرين. لقد أصبحت و رطته قبل كورونا نعيما أمام هاته الورطة الضخمة التي لا يمكن أن تضاهيها سوى ورطة المحكومين بالإعدام ،أو الذين فقدوا حواسهم أو أطرافهم في حادثة سير أو نتيجة مرض عضال.
فاس، المغرب