في فيلم برام ستوكرز دراكيولا Bram Stoker’s Dracula الذي أنتج سنة 1992، سنرى إليزابيتا زوجة الكونت دراكيولا، تنتحر إثر رسالة كاذبة تخبرها بمقتل زوجها في الحرب ضد الأتراك، فيعود الأخير ليجدها مسجاة في الكنيسة، ويصيبه جنون الغضب لأن زوجته باتت ملعونة لارتكابها إثم الانتحار، فيغرس سيفه في الصليب الذي كان في الأصل يخوض حربا لأجله، ويشرب الدم الذي تدفق من قلب الصليب، وبذا يجلب على نفسه لعنة عظيمة، ولكنها لعنة من نوع آخر.
في هذه الافتتاحية، لم يكن دراكيولا هو من ارتكب الخطأ ابتداء، وإنما زوجته، التي تحول إثمها إليه هو، فنتج عن ذاك خطأ آخر مركب. المذهل هنا ليس الخطأ، وإنما العقوبة/ اللعنة، وهي الخلود أبد الدهر.
هذا الفيلم المأخوذ عن الرواية الاصلية، يحكي لنا قصة الذنب الذي ارتكبه أول مصاص للدماء، والذي امتد أثره على بضعة نساء مصاصات للدم، تم التغلب عليهم في الرواية/ الفيلم، وهن لم يرتكبن خطأهن الخاص، بل كن ضحايا دراكيولا الذي انجذب إليهن وحولهن إلى كائنات من جنسه.
ولكن، في فيلم مقابلة مع مصاص الدمام Interview with the Vampire لسنة 1994 ، سنرى سلالة كاملة من مصاصي الدماء، ولن نعرف خطيئة تحول الرجل الأول، لكننا سنعرف خطيئة واحد منهم، وهو يحكي سيرته الملحمية، سيسرد كيف عبر في لحظة حزن واستسلام من حالة البشري إلى حالة مصاص دم. مجددا هنا ليس ثمة خطيئة سوى الحزن والرغبة في الموت، سيكون عقابها هو الخلود.
سيقضي حياته معذبا، لا يستطيع مص دماء البشر لأنه ضد القتل، ولأنه لا يريد أن يعرض الآخرين لمثل ما تعرض له، ومن جهة أخرى يشعر بالقرف والسوء من شرب دم الحيوانات، الذي سيبقيه واهنا، لكن ليس لدرجة المرض والموت، وسيبقى كذلك خالدا وحيدا حزينا لا يموت، يعيش في الظلمة طوال قرون، بغير رفيق.
إن (التحول) و(الخلود) عقوبات تحل على خطايا مختلفة، فامرأة لوط في الموروث المسيحي تحولت إلى تمثال من ملح، لسبب غير مقنع، وهو أنها نظرت إلى الوراء. لقد ارتكبت إثم النظر إلى قوم في لحظة عقاب، فحل عليها عقابها الخاص. غير أن إثم (النظرة) ليس استثنائيا هنا، فالميدوزا أيضا تحول كل من ينظر في عينيها إلى حجر.
لكن عقوبات الحب تملك قدرة على تحولات أبدية، كما في حالة دراكيولا.
في حالة شبيهة، في إحدى قصص السندباد، حولت الساحرة زوجها إلى نصف حجري، أو نصف تمثال، وبقي على هذا النحو سنين طويلة، لا يشيخ، ولا يموت، وإنما يتعذب فقط. ما كان الخطأ الذي ارتكبه؟ كان الخطأ هو الحب وحده، ولكن الحب دون التثبت مما إن كان الطرف الآخر يستحق هذا الحب. مرة أخرى الخطيئة هي النظرة، لقد فتنت ناظريه بجمالها، ولم ير أبعد من ذلك، ولم يبحث فيما يمكن أن يكون خلف هذا الجمال، فإذا به جمال ذو أذى غير متوقع أبدا.
حالات الانمساخ، حيث يتحول البشر فيها إلى تماثيل، ويبقون على هذه الحالة الحجرية أبد الدهر بدلا من موتهم، يمكن اعتبار حالتهم على هذا نوعا آخر من أنواع الخلاص من الموت، ولكن ما تريده المرويات هو العقاب الأبدي المتمثل أمام الأعين البشرية، وليس العقاب الأخروي، سنتذكر قصة صنمي إساف ونائلة في المتخيل العربي الجاهلي، فقد حل عليهما العقاب نتيجة فجورهما في داخل الكعبة، وتحولا إلى تمثالين من حجارة.
إن حالات الخلود الأبدي الملعون، ليست كلها ذات خطايا، فالواقع أن الزومبي هم أيضا خالدون في لحظة الموت وبشاعته، لا يكبرون ولا يموتون موتا تاما، لكنهم يتحولون إلى طور آخر شبيه بالانتقام، فهم يسعون إلى تحويل جميع الخلق إلى نفس جنسهم. الآن ما الخطأ الذي ارتكبه أي زومبي؟ الفلكلور القديم يقول إنهم بالأساس كانوا يخضعون لأثر السحر الأسود، لكن الزومبي في المتخيل المعاصر فعليا لا إثم لهم، سوى وجودهم في المكان والزمان الخاطئين.
نموذج آخر من نماذج الخلود/ العقاب، لغير ما خطأ، هي تلك الأشباح التي هي أيضا شكل من أشكال الموت غير المستقر، وإن كانت هي تنتمي إلى الموت، فيما مصاصي الدماء ينتمون إلى الأحياء، أما الزومبي فيقعون في المنتصف بين الأحياء والأموات.
يعرض المتخيل المعاصر صور تلك الأشباح المنتقمة التي تسعى إلى أذى الآخرين، ولكن ثمة أشباحا أخرى، تبقى في حالتها الشبحية، غير مستقرة، في حالة ملاحقة وعذاب أبدي، لملاحقة البشر الذين تتوقع منهم أن يساعدوها، إذ تعرضت هذه الأشباح في حياتها إلى ظلم قُتلت إثره، ولم تستطع الرقاد في سلام، فظلت تبحث عن وسيلة لتبرئة ساحة ذاتها. هنا أيضا هذه الأشباح لم ترتكب إثما ولا خطيئة، لكنها تعرضت لعقوبة عدم الموت الكامل الذي يترافق مع عذاب أبدي.
إن الزومبي قوم مكروهون، لكنهم ما ارتكبوا إثمهم الخاص أيضا، وإنما حلت عليهم اللعنة، ليتحولوا إلى جوقة مصابة بسعار الانتقام، يملؤها الحقد على البشر الذين ينعمون بهدوء الأحياء الفانين.
إن الخلاص من مصاصي الدماء ليس بالنار والحديد، وإنما بالصليب الذي كسره زعيمهم الأول، وبأطواق الثوم وبالأوتاد، فيما الزومبي الخلاص منهم يتم بوسائل أقل ابتكارية، يكفي تمزيق الجسد بالكامل فلا يستطيع الزومبي جمع أشلائه.
أما أشباح الأرواح المعذبة، الذين هم في عداد جنس الأموات فعليا، فالتخلص منهم أصعب من مصاصي الدماء والزومبي، إنهم أكثر التصاقا بالأحياء من الجنسين الآخرين، وهم أهل العبارات الناقصة المرعبة، لقد فقدوا قدرتهم على الكلام المفهوم خلال هذا العبور من عالم الأحياء إلى الأموات، ثم العبور المعاكس باتجاه الأحياء، وأي تواصل منهم ينطوي على سوء ظن من قبل الأحياء، أو بالأحرى على رعب وتشوش ورغبة بالفرار منهم.
- من كتاب يصدر قريبا عن دار المدى.
نورة محمد فرج، كاتبة وناقدة من قطر.