نصان من كتاب جديد للكاتبة الفلسطينية ليانة بدر

 

Liana Badr

البدو.. يمّا

 

البدو يمّا.. بقايا أهلي على منعرجات القدس- أريحا.
البدو الذين أطعموني خيرهم وزبدة قلوبهم البيضاء،
وربوني على الحداء والأراغول والترانيم الحزينة للرعاة في شدو المساء ساعةَ عودةِ القطيعِ بالأجراس التي تدق الحنين كي تُحَلّق القلوب.
ذلك اليوم،
تلك اللحظة التي شربتُ فيها اللقمةَ الأولى من حليب الماعز الجبلي، صرتُ ابنتهم..
فتاةً صغيرةً أتيتُ مع والدي في سيارة “فيات” كحلية، لأعرف حين وصلتُ إلى مضاربهم أني لا أُريد العودة إلى البيت. أودّ أن أبقى معهم كي أُصبح بنت الخيام المنصوبة في الهواء الطلق، تشفّ سماؤها الصوفيةُ الداكنةُ عن حر الشمس ونسيم النجوم وحصى المحيطات القديمة بعد أن بعثرها الانشطار الكونيُّ الشامل. ذلك الانشطار الكوني الذي أنبت أريحا على جرفٍ قاريّ، وخلّف وراءه مليون بركان لم يبقَ فيها إلا واحدٌ يضجُّ بالجنون ويعج بالبخار الأسود. هو الذي ما لبث أن انقسم على ساحل البحيرة المالحة وتحوّل إلى دُمىً لها سحناتٌ آدمية. تركها خلف النهر، وأولد القبائل البدوية هناك على شكل نجومٍ داخل هلال أو نجمةٍ يحيطها هلالٌ ماسيّ.
البدو إخوتي.. يماّ!
هم أهلي وأُمي وأبي. أًمي بالثوب الريحاوي الأسود المطرز بنقاطٍ ملونةٍ كانت نجوماً بائدةً سقطت بغتةً مع النيازك لكي تضيء الغلايين الطويلة التي تمتد من أفواه النساء الموشومات بالأزرق والباذنجاني، والتي لن يلُمَّها أحدٌ في هدأة الليل سوى صاحبات تلك الأثواب البدوية.
ثوب أُمّي! وعشرات الأمتار من القماش الذي يلتف ذاهباً إلى أطراف العالم كله محيطاً بالجسد دون أن يرحل أو يُسافر.
هم أهلي الذين أعطوا أُمّي ثيابهم، وجعلوها تعقد غرتها على جبهتها لكي ترتدي الحليَّ الموشحةَ بفضةٍ منقوشةٍ وتنكٍ رخيصٍ وتمائمَ نحاسيةٍ ورصاصٍ مصهورٍ وحجاباتٍ من حجرِ فيروزٍ قديم.
يُضَبْضِبُون أغراضهم نازلين إلى أمكنةِ التجميع التي يفرضها حرسٌ وشرطةٌ من الغرباء يمتلكون قنابل الضجيج وغاز السموم وطلقات النهاية.
يُبعدونهم صوب قطعةِ أرضٍ جرداء تحت.. تحت في أخفض نقطةٍ على الأرض مُسَوّرة بسياجٍ مصنوعٍ من أسلاك شائكة، آملين أن يُقضَى عليهم في زواياها الممسوحة وسط خشبيّاتها الضيقة وحرّها البليد، حيث البعوض والحشرات والسموم تنفث أنفاسها الممسوسة عليهم، حيث نظارات المستعمر “الراي بان” اللماعة العدسات وسجائره المشذبة المُحاطة بأقماعٍ من فيلترٍ أبيض نقيٍّ تتدور حول أصابعه كي لا تتضرر رئتاه الغاليتان.
يُنزلونهم إلى مهبطٍ عارٍ في السفوح حيث مقرُّ ضيق القلب والمزاج. يُجبرونهم على النزوح إلى ذلك المعزل لأنّ أسيجتَه واضحةٌ وأبعادَهُ مكشوفةٌ، ولأنه يُمكّن إحداثيات البنادق الأوتوماتيكية السريعة من أن تتابع كل ما يجري وكل من يتسلل أو يلف حول الحدود.
هناك حيث لا نسمة هواء على المرتفعات، ولا جبال محلوقة الرؤوس بأخضر التيجان أيام الربيع، حيث لا هضاب ولا تلال تشابه أشكالها خُفوف جمالٍ عملاقةٍ نسيها الزمن معلقةً على وهدٍة قرب أعشاش النسور.
طوابير الأسرى هؤلاء سيتركون النبع الفوار، وينزلون إلى حنفيةٍ واحدةٍ حيث يتجمع المحتجزون كلهم حاملين جروحهم وملابسهم الممزقة وعلامات الهراوات الضخمة المحلقة فوق الجماجم والأُنوف.
ينتشون نتشاً ما تيسّر من أغراضهم، ومكبراتُ الصوت تُدوّي طالبةً منهم المغادرة في غضون دقائق أو الموت الزؤام. كسروا خزانات المياه حيث لا حياة من دونها، وحظروا أماكن الرعي عليهم.
الجيش. التهديدات الساحقة الماحقة. يريدون إبادة قطعانهم والتخلص منها ومنهم لأنّ ثياب أصحابها الرثّة تُشوّه وجه الاستعمار- هديتهم إلينا.
الحُجّة! قالوا: التدريب.
تدريب بالألغام والذخيرة الحية كي لا يفكر واحدٌ في التسلل إلى مضارب أهله وعشيرته مرةً أُخرى.
يريدون أراضي الغور حقلَ رمايةٍ يتسلى فيه فتيانٌ مراهقون والمجندون الصغار.
وأنا ابنتهم، وهؤلاء المجالدون هم أهلي يماّ.
والجنود يكسرون خزانات الماء. يُطيحون بخيام البدو المصنوعة من الخيش. يُشتّتون القطعان في البرية، ويدكّون قواطعهم الخشبية التي تحفظ الماشية أمينةً بداخلها.
الفتية المجانين وساكنو المستعمرات يُريدونها.
وهم يظنون أنهم سوف يأخذون كلّ شيءٍ إلى الأبد.
يأخذون الهواء من أصحابه ونباتاته وحيواناته ونجومه وأهله وأشواكه وأشجار الأثل والسدر والبطم والزعرور والدوم والشوك الأبيض.
لن.. أهلي. لن.. يا يماّ!
أهلي، أهلي، لن.. يا يمّا.
سيبقون هناك أبداً. لن يتركهم الهواء والضباب والقطعان.
أهلي البدو على طريق الغور الذاهبون أبداً إلى المراعي،
يماّ..

 

الصَّباح

 

أصحُو على وَهَجِ أنوارِ الثلوجِ في مناماتي،
وعويلُ الذئابِ صاخبٌ في الروح.
حولي باعةٌ مُتجوِّلونَ يرتَدُون طرابيشَهُمُ الحمراء،
وجَدِّي حاملٌ عصاهُ مثلَ الأفعى المُعَمِّرةِ
في سقفِ الدار!

حين أصحو لا أستطيعُ الكلامَ
ولا الصياحَ أوِ التنهُّد
وعباراتُ التودُّدِ
تخدِشُ سمعي
مثلَ ميكروفوناتِ الهواتفِ والمُراسلات.

لا أُريدُ سوى
كأسِ ماءٍ
وفنجانِ قهوةٍ بالهيلِ يفوحُ بالرغوةِ
معَ نثرةٍ من شُعاعِ الشمسِ
وكمشَةٍ من التُّوتِ القرمزيّ.

أيمكنُ أنَّني فقدتُ عالمي داخلَ أسوارِ القدسِ
حيثُ الحكاياتُ تنهالُ
مثلما تشرُّ قربةُ السَّقا العجوزِ خيوطَ الماء؟

أتنتهي من مناماتي رائحةُ ورق التبغِ المُعَلَّقِ على حبالٍ ثخينةٍ في سُقوفِ الدكاكينِ
مجففاً مثلَ زهرٍ بنِّيِّ اللون؟!
أيمكنُ أن يختفِيَ كلُّ شيءٍ بفعلِ كأسِ ماء؟

 

القدس
[email protected]

SHARE