
المكان: عيادة طبيب، أرضيتها مربعات كبيرة أسود وأبيض. في وسطها طاولة فارغة، على جانبها مصباح، أمامها كرسيان. على جانب الغرفة الآخر سرير طبي. صور كبيرة على الجدران لا علاقة لها بالطب: أعماق بحار، أسماك، حيتان، قنافذ، حلزونان، وصورة كبيرة لجمجمة خضراء اللون. مصباح كبير يتدلى في الوسط، قريبا من الرأس يمكن انزاله ورفعه. تُسمع موسيقى “سكسفون” هادئة. تستمر طيلة الوقت … تتصاعد خلال فترات الصمت والوقفات الطويلة بين كلام وآخر.
الشخصيات:
مريض: يلبس معطفاً طويلاً أسود، مفتوح الأزرار. يعتمر قبّعة سوداء. مضطرب، يتأتئ ويتعتع بالكلام.
طبيب: نحيف جداً، يلبس رداءً طبّياً أبيض، مفتوح الأزرار دائماً.
المشهد
الطبيب:
(خلف الطاولة يسند مرفقه عليها ويُطأطؤ رأسه ويتحسس هامته ويحكّها، مغمض العينين، ذراعه الأخرى مسبلة ممدودة، يهوّم بها بين حين وآخر وكأنه يصطاد الذباب، أو يبارز أشباحاً… أو يلوّح لشخص بعيد. أخيرا ً يتوسد ذراعه ويغطي رأسه بيديه. إنه يُعاني. مصباح الطاولة يلقي على رأسه دائرة ضوء ضيقة)
المريض:
(يدخل يعتمر قبّعة سوداء، يدس يديه في جيوب معطفه، يخطو على مربع الأرضية الاول، ثم يقف عليه، ثم الثاني ويقف عليه، وكأنه يعدّها، ينظر إلى موقع قدميه في كل خطوة، يفتح فردتي معطفه ويطويهما كما يفتح الطائر جناحيه ويطويهما مع كل خطوة حتى يصل قريبا من طاولة الطبيب).
ملاحظة هامة : الطبيب والمريض كلاهما يعاني من مشكلة عقلية لهذا يتم التأكيد على الرأس وحركته وتلمسه.
الطبيب:
(يرفع كفه عن وجهه ومازال رأسه يتوسد ذراعه الأخرى، ويتأمل المريض وهو يقوم بحركاته، يرفع رأسه ويسنده على كفه ويستمر في تأمله بدون أي اهتمام.
بغتة ينهض وكأنه أفاق من غفوته، ويفاجئه وجود المريض أمامه، يفتح ذراعيه ويتوجه له وكأنه ينوي احتضانه).
الطبيب:
يا هلا!… يا هلا! … يا حلمي الجميل… وأخيراً وصلت.
المريض: (يتأتئ في بداية كلامه دائما)
(أعععع) أعتذر عن تأخري، ضاع وقتي في البحث عن (الققققققق) القبّعة، لا أعرف أين تختفي. إنها تسبب لي الكثير من المتاعب، التي يجب معالجتها (معععع)… ارجوك خذ امرها بجدية… تخيّل أن الحال وصل بي أن أطرق الأبوب أسأل عنها… لقد كان محرجاً ومخجلاً أن أقلق المدينة كلّها. أسمعهم من خلف الأبواب يضحكون: أبو القبّعة، ابو القبّعة.
الطبيب:
تفضل … تفضل (يشير له بالجلوس فيما يقرّب الكرسيين إلى بعضهما ويبقى واقفا ممسكاً بظهر الكرسي، بجدية واحترام) يا عزيزي… لستَ وحدك من يعاني في البحث عما ضاع منه، ومع هذا وصلت في آخر المطاف ولم تضيّعنِ… يا هلا… يا بو القبّعة… يا هلا …
(يجلس قبالة المرض ويُنزل المصباح فوق رأسه ويغوص في عينيه)
لا شيء يَعصى على الحل، مادام يخضع للتفكيك واعادة التركيب، أنت بحر عميق جداً… عميق جداً.
المريض:
دكتور، أنا لم آت من أجل نفسي، بل من اجلهم، إنهم لا يكفّون عن صراخهم وتهديداتهم… تخيّل؛ هذا الصباح وجدت أحدهم يمتطي حوتاً أزرق في عرض المحيط يلوّح لي ويهددني بالهجران. كيف يكون حالي… ها، كيف بربك؟ لقد كرست كلّ حياتي وفنيتها من اجلهم، واحظى أخيراً بكلّ هذا الجفاء. (يتذمر ويعصر رأسه)
الطبيب:
لا حق لهم ، لا حق… نضحي من أجلهم، ويهدوننا بنكران الجميل… (يلتفت إلى الخلف، يمينا ويساراً، كمن يبحث عنهم، يدنو من المريض أكثر، وكأنه يسأل عن سرّ خطيرٍ):
أين هم؟
المريض:
في القبّعة… (يضع كفه فوق القبّعة كمن يتأكد من وجودها فوق رأسه) فوق رأسي.
الطبيب: هذه ؟
(يخطف القبّعة من على رأس المريض ويضعها على رأسه… ويدوزنها كما لو كان أمام مرآة، يذهب إلى السرير بسرعة ويستلقي عليه… ينزل القبّعة على عينيه، ويضع يديه على صدره الواحدة فوق الاخرى، ويسترخي تماماً. يأخذ بالاختضاض رويداً رويداً وهو ينفث قهقهات متتالية ثم متسارعة ويبدأ بالضحك الهستيريّ وهو يتحرّك بعنف حتى يسقط من السرير ويأخذ يرفس برجليه على الأرض ويكاد يختنق من الضحك.
يبادر المريض ويخطف القبّعة من رأس الطبيب، ويضعها على رأسه… يأخذ الطبيب بالهدوء حتى يستكين تماما. ينهض يفرك عينيه.)
الطبيب:
آ… آ… آه… أشكرك.
المريض:
ماذا سمعت؟
الطبيب:
أسرار الخليقة.
المريض:
وهذا يرعبني… أن احظى بك هذه الأسرار، انها مهمة الآلهة.
الطبيب:
معك الحق ان تقلق… فهي رسالة إلهية عظيمة… ولكن لاشي فيها ما يخيف، القبّعة حوض سباحة مقلوب، تسبح فيه الأفكار… التي يمكن اصطيادها بسهولة. مثل الحياة تماماً.
(ينهض ويمثل كيف يرمي السنارة وكيف يلف الخيط ويجاهد بسحب السمكة بقوة… ينهض المرض ويقف يتأمل الأرض ويراقب الخيط الوهمي، وينتظر خروج السمكة وهو منفعل جداً)…
المهم في الحياة هو إعداد الطُعم والسنارة والخيط.
(يفتح ذراعيه باستسلام وكأنه يلقي شعرا)
الخيط الذي يمتد طويلا… ويتوتر… ويشدّك بقوة إلى الأعماق…
(يعود الطبيب إلى المريض ويتأبط ذراعه، ويتمشى معه ذهاباً وإياباً ويسأله) :
أين عثرت عليها؟
المريض:
اقتنيتها من محلات الملابس المستعملة… لدي العشرات، لمختلف الرجال: تجّار كبار، معلمين متقاعدين، رجال سياسة ودبلوماسيين، ومن مختلف الألوان، والخامات. بعضها نادر جدا، مزين بريش الطيور. عندما ألبسها أسمع الناس يتبعونني ويصفّقون ويهتفون: “أبو الريش… أبو الريش… أبو الريش”…( يصفّق ويهتف)… فأمتلئُ بالزهو والفرح.
الطبيب:
يا هلا أبو الريش، يا هلا… يعني أنك تحمل شعباً على رأسك ؟… جميل… أنا سعيدٌ… سعيدٌ جداً بك وبشعبك.
(يضحك ويغرق في الضحك… تتغير لهجته ويسأل بجدية شديدة):
متى تسمعهم؟
المريض:
طيلة الوقت عندما نكون لوحدنا، خاصة أمام المرآة. أحيانا يتكلمون كلهم مرة واحدة، وهذا يقلقني ويشوش علي أفكاري. لهذا جئت لك لتساعدني في تنظيم حياتهم… أما من جانبي فأنا لا أعاني من شيء، غير هذه الفوضى التي يسببونها في رأسي.
الطبيب:
جميييل … جميييييييل…
(تتصاعد نبرته الغنائية واضعاً يديه في جيوب ردائه ويفتحهما كالطائر ويلف حول المريض، ويغني أغنية فريد الأطرش… المريض يقلد حركات الطبيب ويلف حول نفسه)
جميل جمال… ولا في الخيال… صدق الي قال … زي الغزال… جميل جمال… هاهاهاها.
(يتوقف الطبيب، يقابل المريض وجها لوجه، ويضع يديه على كتفيه، ويخّضه وهما يضحكان)
لا تحزن، الحل متوفر.
المريض:
أين؟
الطبيب:
(يتكلم بثقة المعلمين وبهدوء تام وكأنه يلقي درساً)
في القبّعة يا حبيبي… ابقها على رأسك ليل نهار مثل تاج ملك اسطوري… ومن الأفضل أن تردد بصوت عالي ما تسمعه أول بأول وتسجله… حاول أن تعرف الاشخاص… وتقدر الأمكنة، فهي ضرورية… في زيارتك القادمة، قدم لي تقريرك، وسنعرف سبب الخلل وكيف ننظم امورهم… المهم لا تخلع القبّعة …
(يهوي بكفه على القبعة وينزلها في رأس المريض)
يمكنك النوم مطمئناً.
المريض:
(يرفع القبّعة عن عينيه إلى أعلى)
هل أنام وهي على رأسي؟
الطبيب:
طبعاً… طبعاً … لا تفارقها ولا تدعها تفارقك… تخيّل لو استيقظوا من النوم وبحثوا عنك ولم يعثروا عليك، ماذا سيكون مصيرهم؟ يضيعون في الطروقات يبحثون عنك ! ثم تضيع انت تبحث عنهم… ستحل بنا كارثة عظمى … دعهم يأنسون لك، ينامون معك … إحك لهم قصصا قبل النوم… انت محظوظ يا رجل… محظوظ أن يكون لديك هذا العدد الهائل من البشر في رأسك.
المريض:
ولكن أحدهم لا يعجبني، يضطهدني.
الطبيب: من؟
المريض:
(يتحرج في كلامه ويخجل… يعصر كفيه ويغلق فمه على ضحكة خرقاء)
رئيس الحزب
الطبيب:
معقوووول؟، في القبّعة أحزاب؟
المريض:
نعم، طيلة الفترة وهو يراودني ويحاول اغرائي بما لديه… تصور وقاحته أنه عرض علي اخته، وأخذ يصف مفاتنها، وكيف تتصرف مع الرجال في الفراش… لقاء ترشيحي لعضوية البرلمان (يضحك ساخراً ويرفع صدره الى أعلى). لكنه لم يتمكّن منّي، فهذا كما تعرف، يا دكتور، يتنافى والاخلاق السامية والإباء.
الطبيب:
أحسدك على قوة ارادتك ونبل أخلاقك… ولكن لابد لي من التعرف عليه. فأنا مغرم بالشخصيات المرحلية. ما رأيك تدعوه لأسمعه، واعرف مراميه.
المريض:
لا دكتور، أرجوك… أنا أخاف منه، فهو خائن عريق.
الطبيب:
طيب، دعنا نلعب معه لعبة الثعالب. الثعالب تغمض عينيها وتتظاهر بالنوم، لكنها ترى وتسمع وتشم كل شيء. أجري له تنويما مغناطيسيا واسمعه… نحن ثعالب يا عزيزي، فدعنا نلعب معه.
(المريض يفرح ومازالت يداه في جيوب معطفه، يفتح فردتي المعطف، كالطائر ويخفضها وكأنه يستعد للطيران).
لتطمئن … سأقوم بالتجربة على نفسي أولا… سأنام وأنت تجري لي التنويم المغناطسي … العملية جدا بسيطة؛ هكذا:
(يستلقي على السرير ويشرح للمريض)
تحرّك يديك فوق وجهي وتطلب مني النوم … بعد أن أنام تسألني ما تريد… المهم هو أنّ توقظني في الوقت المناسب… قل لي: فق، فق، فق. ثلاث مرات… هيا جرب وقل فق ثلاث مرات.
المريض:
ثق.
الطبيب:
لا، فق.
المريض:
ففف
الطبيب:
لا، لا، فق.
المريض:
أأأأأأق.
الطبيب:
لا، فق.
المريض:
…ففف…ق.
الطبيب:
ممتاز… ممتاز… هيا نجري عملية التنويم.
(يستلقي على السرير… يقف المريض على رأسه ويجري عملية التنويم، تستغرق وقتاً، ويتمكن أخيراً من تنويم الطبيب)
المريض:
أين أنت؟
الطبيب:
في المقبرة.
المريض:
مع من؟
الطبيب:
مع الموتى.
المريض:
ماذا تفعل معهم؟
الطبيب:
أجمع جماجمهم… أغسلها، أنظّف أسنانها، أفرّش لها الوسائد في غرفتي لتنام بلا ضجيج. إنها تعاني من صداع مزمن. أقيم لها مهرجانات شعرية، ومسرحية، وحفلات رقص، وموسيقى. بعضهم موسيقيون عظام، ومغنون، وبعضهم سحرة… وبعضهم منحطون. غير أنّ أغلبهم بائسون. واحدة قصت عليّ كيف اغتصبها جارها في أول ليلة دُفنت فيها وهي مازالت عذراء طرية ترفل في فستان من حرير. تسلل إلى قبرها الوثير، وكمم فمها، وربط ذراعيها، وساقيها. أخذت تصرخ بلا جدوى. ثم تناوبوا عليها… كلهم…
المريض:
كفى أرجوك. كفى… توقف! أرجوك توقف! هيا استيقظ… قم… ارجوك كفى… ثق! فففففففففففففف
(يهز الطبيب ويحاول ايقاظه… بلا جدوى… يبتعد عن السرير وهو مضطرب وخائف… يجلس على الأرض يرتجف ويلملم نفسه ويخفي رأسه بين ركبتيه ويأخذ بالعويل المكتوم وهو يكمم فمه… إنه يتعذب)
الطبيب:
ودعوا اليها الأحياء ايضا. فاض دمها، ملأ القبر وطفح منه، غمر الوديان، وراح يجري في الأنهار، حتى وصل البحر . في الليلة الثانية، جاءها المخاض واسقطت وليدها البكر.
(ينخفض صوت المريض الذي استمر يئِن ويتعذب، حتى يختفي.)
تسدل الستارة
رسام وكاتب عراقي، النرويج
[email protected]