
“مقاطع من كتاب (يكاد يكون ريبورتاجا) عن أميركا الستينات”
ترجمها عن الألمانية: فاضل العزاوي
هكذا قبل كل شيء.
الشمس تنحدر الى ساعتها الثانية. عصير البرتقال ينز الى الأسفل على القطن الرمادي، وإذ ينهدم واد للغيوم يكون البحر أسود ومروعا. من الغرب، من بعد غير محدد تقترب بضع ذبابات سامات، صغيرة، ساحبة وراءها خطوطا من الشعر الأبيض: مطاردات نفاذة تتولى الحراسة.
ثم في الأسفل تمتد سكوتلندة الجديدة، قاحلة وحجرية.
حينذاك ينبغي على الباص النفاذ دي سي 8 أن يميل يسارا، حذرا ومتأرجحا: الغيوم تتبدد، وعميقا في الأسفل تبزغ أرض سوداء. مثل ضربة فوق طبل. مثل إطلاقة مدفع. أرض بألف عين متوت رة، متلألئة وغامزة، بعيون محمومة، بعيون من فنارات تلتمع مرة كل ثانيتين، بكشافات ضوئية، بعيون زائغة، بعيون أبراج مراقبة، بعيون فوق الصخور، بعيون محطات الرادار، بعيون الجوع، بعيون التخمة.
بعينيك، عيني الصدمة
بعينيك، عيني المديح
بعينيك، عيني الشحنات الكهربائية
بعينيك، عيني الوحشة
)وبعينيك أنت أيضا،
يا ألين غينسبرغ(
وفي العتمة التي تزداد كثافة وتشبه عتمة داخل المخ، تندلق مدن نيون، مثل ذكرى او أمل، مثل تصور او فكرة بكل بساطة، مدن من نيون، بيضاء، زرقاء وخضراء، أعطاها انتظام التاريخ المثير للدهشة أسماء مثل بوسطن، نانتاكيت، نيو لندن، نيو هاڤن، ونورووك.
عظام جمجمة القارة تصطك.
ثم يحين الوقت للهبوط نحو الأسفل. ثلاث مراوح هائلة تسوط الهواء. نتعلق بالحقل الضوئي لنيويورك. أجل، ما من شك في ذلك، فمن اليمين واليسار يتدفق لهيب الضوء باتجاهنا. إنه يغلي مزرقا، مخضرا، أبيض وأحمر، شوارع، أضوية نيون، سيارات، لم نعد بعد نحلق، ندفن أنفسنا في مجال طاقة من ظلمة وكهرباء. لا بد أن الأمر كذلك تقريبا داخل الذرة او في المجرة، إنها نيويورك بدون احداثيات، بدون أعلى وأسفل، بدون شرق وغرب، نترجرج داخل مدينة مدورة تحاصرنا من كل الجهات. لم نعد بعد نحلق، لقد ابتلعنا.
الكتلة الهائلة السوداء الطائرة تتأرجح فوق بلعوم حيوان نابض. ويعود كل شيء الى ما كان عليه، ثمة أعلى وأسفل، حولنا تمتد مدينة أليفة ومسائية، يجلس فيها الناس الى الموائد، يتمددون على الأرائك، يحدقون في السطوح، يسيرون في الشوارع، يتبادلون القبل، يتنفسون العتمة ويتذوقون الضوء. وهنا ساحة المطار، حيث يخترق المرء واحة لا نهاية لها من الأضوية الزرقاء ويجلس بعدها على الأرض، يتجه الى البنايات الزجاجية، مكبرات الصوت توجه نداءات لا عد لها الى الجميع والى كل فرد بالذات. كل يسلم أوراقه ويخرج. لقد هبطنا في مطار ايديلوايلد، إننا في نيويورك، في أميركا، ونرى
أنه ما كان بإمكان كولومبوس
أن يتخيل أميركا ـ
كما يقول فيرلينغيتي.
*
الأبواب الزجاجية تنفتح آليا، السلالم ترتفع عاليا، بآلية يبتسم الموظفون، بآلية يحاسبون، وآليون هم المسافرون، بآلية تؤخذ الحقائب، وبآلية يجلسون في المقهى ويتابعون على الشاشة إقلاع الطائرات.
او انهم يقذفون بآلية ربع دولار في صندوق الدفع، ليسمح لهم بدخول برج المشاهدة، حيث يمكن لهم مراقبة الإقلاع مباشرة. واذا ما وضع المرء ربع دولار آخر بآلية في مكبر الصوت الصغير في المبنى فانه يستطيع الإنصات في الوقت ذاته الى إقلاع الطائرات والنداءات الأرضية وتوجيهات برج المراقبة في آن، وباختصار الى لغة الطيارين المتنوعة، القصيرة، الدقيقة. ثمة لافتة في المبنى “طائرة النساء المناضلات من أجل السلام”، وأرى سيدات أنيقات يحملن الشعارات والأعلام، ويطفن حولنا، أعينهن تلتمع بالدهشة والإرادة الطيبة.
أثناء ذلك يندفع صغارهن الأعزاء باتجاه الرصيف وينصتون الى مكبرات الصوت الصغيرة ـ إنهم مسلحون جيدا بأرباع الدولار ـ أقترب من صبيين، دفعا بالطبع، وراحا ينصتان الى أصوات الأثير. يلتفت الصبيان الي. يتأكدان من أن ثمة خطرا في أن أنصت معهما. بسرعة وآلية يغلقان مكبر الصوت الصغير. ما من أثر للإرادة الطيبة في أعينهما. أبتعد عنهما بسرعة، فأنا لا أحب العيون التي لا تحمل أثرا لإرادة طيبة.
ويبدأ المطر بالهطول. السيدات الأنيقات يتدحرجن براياتهن، مضطربات، وينادين على أطفالهن.
لا شك أن فعالية الطائرة هذه من أجل السلام تستحق الثناء.
ولكن يبدو أنهن لم يدركن بعد مع الأسف أن ثمة علاقة بين ما يكافحن ضده والعيون الشريرة لأولادهن الذين يريدون لقاء ربع دولار امتلاك كل ضجيج العالم لهم وحدهم.
*
في ممفيس أقلعت طائرة بعد أخرى. حينما ارتفعت طائرتنا عن الأرض، مقتحمة السماء، كانت ثمة سبع طائرات تنتظر مرة أخرى على المدرج.
كان جاري على المقعد قد قام بـ 296 رحلة طيران. أما أنا فكانت هذه رحلتي الثالثة عشرة. أشار بطريقة عابرة الى كسر في عظام أنفه، حينما اصطدمت طائرته عند الهبوط بسيارة في رحلته رقم 104.
كان يمثل شركة لأجهزة الإتصال.
سألته: “ما هذا؟”
جاهد في أن يوضح لي الأمر.
سأل كيف يمكن له زيارة تشيكوسلوفاكيا.
نصحت له أن يفعل ذلك أثناء معرض برنو.
او ربما في ربيع براغ. ثمة مهرجانات موسيقا، تتيح له ربط المتعة بما هو مفيد.
سأل: “ما هذا ـ مهرجانات موسيقا؟”
جاهدت أن أوضح له الأمر.
*
ثمة أمور كثيرة مشتركة بين وجهة النظر التاريخية ووجهة النظر المطلة من عليائها: مسلسل المعارك يتقدم مع كل حركة مصيريةـ وما من أحد ينصت للنحيب واصطكاك الأسنان. تاج الملك يتوهج في الشمس الغاربةـ ولكن ما من أحد ليرى الأصابع المتشنجة للمحارب وهو يدفن ساقه بنفسه. مرئيون هم الذين يَعُدّون ثم ينسحبون. غير مرئيين هم الذين عدّوهم.
في العام 1783 قدمت واشنطن الى مؤتمر انابوليس حول حرب الإستقلال قائمة بالنفقات: لقد كلفت الحرب1,600.74 دولارا.
أما الحرب ضد انكلترة في العام 1812 فقد كانت باهظة، هذا إذا ما أخذ المرء بنظر الإعتبار أن الحرب اندلعت وسط انعدام الثقة، بسبب النقص في الأخبار القادمة من أوروبا، وأن المعركة الحاسمة نشبت بعد خمسة عشر يوما من توقيع معاهدة السلام، مما جعلها مكلفة للغاية.
كلفت الحرب الأهلية من 1861 الى 1865 حوالي 4570 مليون دولار. أما عدد القتلى فكان بين أربعمئة ألف وستمئة ألف.
ولكن كل هذا قد سجل ودون منذ زمن طويل، كل هذا نقش على أقمشة الرايات وأقفل عليه في الكتب. فبعد ذلك لم تنشب أي حرب هنا.
قبل مئة عام طويلة دوت إطلاقات المدافع وارتفعت صيحات المعركة عند بال ران. واليوم تحلق الحمامات في سوق فيلاديلفيا وعند قبور القتلى، ويكتب الكشافة على بطاقات المناظر. لا شيء سوى سهم عند الركن يشير الى الطريق المؤدية الى المخبأ الذري.
الهدوء يخيم على القارة.
من بعيد يسمع المرء المطاردات النفاثة.
وفي المناطق الخلفية من البلاد التفجيرات التجريبية للقنابل.
وعميقا في الخرسانة والصلب انفجارات الخوف الحادة دائما.
ما عدا ذلك فكل شيء هادئ.
هادئ الى حد أن التاريخ نفسه يتنصت اليه بانتباه خاص.
*
على طول الشوارع الخارجية تمتد قبل كل شيء محطات تعبئة الوقود، خدمات التصليح، مغاسل السيارات التابعة لمختلف المنشآت، حيث كل واحدة منها تتفوق على الأخرى. محطات تعبئة الوقود المجهزة برسم لحصان مجنح او ديناصور او طائر او أي مخلوق مناسب آخر، مع رايات مجد وعجلات ريح ملونة، مربوطة بحبال، وكتابات نيون متوهجة، وسيارات مستهلكة ومطاعم، تذكرنا بالفطر، بخيام الهنود الحمر، بالقصور الزجاجية، بعربات القطارات، بأكواخ الحدائق وأحيانا حتى بمحطات تعبئة الوقود.
على طول الشوارع الخارجية تمتد البنسيونات، ذات الطابق الواحد، العريضة، على شكل حافر الحصان، الواقعة بين البيوت السكنية الصغيرة، ولكن أيضا ذات الطوابق المتعددة الفخمة المزينة بنجوم النيون والأعلام والوعود وبأسماء مثل ستار داست، أ ـ موتيل، هوليداي إن، أكبر مسبح في المنطقة، أسخن ماء في المنطقة، أجهزة تلفزيون في كل غرفة، أجهزة لتنقية الهواء، نخيل. وأمام كل بنسيون ينتصب في العادة شكل من السيراميك، قزم، دب، أيل او ملاك. كانت ثمة في بنسيون في فرجينيا ست بطات حقيقية وست بطات من الفخار، تعوم هي الأخرى. وكانت هناك أيضا سفينة نوح حجرية، مزودة بثمانية أعلام للولاية. كان البنسيون يدعى “بنسيون نوح”. وفي جيورجيا رأيت بنسيونا خاصا بالملونين وحدهم. كان بيتا صغيرا في الغابة، نبتت أمامه أزهار الثالوث. وكان ثمة زنجي يسقيها بالماء من فتحة ضيقة في إبريق صغير.
على طول الشوارع الخارجية متاجر قبل كل شيء، تعرض كل شيء يمكن أن يباع، من إطارات السيارات وحتى الزهور الإصطناعية، من المواد المعاشية وحتى الأجهزة الموسيقية، ومن المواد الطبية والمعقمات والنبيذ وحتى التماثيل والأشكال المصنوعة من الجبس والحجارة، والفهود والفطر البرتقالي الضخم المنقط بالصفرة، وطيور الفلامنكو، والملائكة والتماسيح التي يسير بعضها على عجلات. لا أعرف لماذا يحتاج سائقو السيارات دبا من الفخار، يبلغ طوله المترين ونصف المتر، ولكن الدببة من هذا القبيل تنتشر في البنسيونات المجاورة وتدمغ هذا الجزء من الشارع بطابعها.
على طول الشوارع الخارجية يعمل الأطباء أيضا. وهناك قبل كل شيء عيادات للحيوانات، حيث يمكن معالجة الكلب الغالي المسافر او السنجاب وهو في مكانه بدون أي مشقة.
على طول الشوارع الخارجية دور سينما وكنائس. في الطرف الخالي من الغابات في وسكنسون تباع على طول الشوارع الخارجية أشجار عيد ميلاد وتماسيح. وفي جنوب كاليفورنيا القاحل، ذي الجبال الحجرية، تباع الأفاعي. في فلوريدا تنتشر هنا وهناك حدائق الحيوانات والقرى الإفريقية وغابات الهنود الحمر البدائية على طول الشوارع الخارجية، وهي دائما محجوبة بحصائر ودائما بأثمان تذاكر دخول لاذعة. وثمة مرطبات على مقربة. وأمام حدائق الحيوان تحدق زرافة او فيل. أحد القوائم مغلول دائما بسلسلة، فيما هي تتابع بعيون ناعسة حركة المرور الضاجة. وفي جبال أريزونا يمكن للمرء في الشوارع الخارجية أن يشتري أي كمية يشاء من أسماك الزينة.
على طول الشوارع الخارجية تقع مدن أيضا. هذه المدن الصغيرة تعرض نفسها في الحقيقة عبر كثرة من محطات تعبئة الوقود والمطاعم والبنسيونات وإشارات المرور وعدد من السكان المتسكعين عند الزوايا. المدن الأكبر تضم عددا معينا من البيوت، بدون أن يوجد فيها بنزين او مطاعم او بارات، فيما تتميز المدن التي يعيش فيها أكثر من نصف مليون إنسان بكثرة البيوت والمتاجر والمعامل والضواحي. لا أحد يتسكع عند الزاوية، إذ أن الجميع مسرعون. أما المدن المليونية فتدفع بناطحات السحاب الى الأعلى، فيما يبتلع نظام الشوارع العريضة الهندسي الشوارع الخارجية.
يتصفح المرء حين يسافر مستسلما وبدون إرادة منه كتاب صائد النظرات والإعلانات الضخم “زوروا ورشة هاورد جونسون” (صورة ملونة لمصنع)، “كلوا دوندرمة كذا وكذا” (رسم لدوندرمة مثل مخ في طبق)، “من يرد أن يكون العازف الأول على الكمان يقرأ جريدتنا كورير بوست” (صورة لرجل مع جريدة، يبدو انه عازف الكمان الأول للحياة الأميركية)، “البيبسي كولا اليوم هو مشروب الذين يشعرون أنهم شباب دائما” (ثمة صورة لأولئك الذين يشعرون أنهم شباب دائما)، “نعم سيدي، هذا هو بنكي” (صورة لرجل يحمل مظلة)، “كسب السلام كفاح موحش ـ ج. ف. كندي” (صورة ج. ف. كندي)، “الإله القدير يضع يده عليك” (رسم ليد على سيارة مخروطية الشكل)، “لا تهدروا دماءكم في الشوارع، تبرعوا بها للصليب الأحمر” (صورة يصعب تصورها لتصادم حوالي ستين سيارة، بينها سيارة للصليب الأحمر)، “الكحول يقتل (لا توجد صورة)، “إشربوا الويسكي، ماركة الغراب العجوز (صورة للغراب الناجح قرب الزجاجة).
هذه هي إذن قارة فيرلينكهيتي المصنوعة من الخرسانة
بملصقات إعلاناتها الآسرة للنظر،
وهي تصور وهم سعادة بلهاء
هذه كتاب الحضارة المقدس، الكتاب المقدس ذو الحضور الكلي الذي تضيئه ليلا الأضوية الكاشفة، هذه كتابة اللهب، الوعي، هذه انعكاسات في سيارة لقارة. ربما كانت خرقاء، ولكنها مكتملة على طريقتها.
هذه هي أميركا الحقيقية.
على طول الشوارع الخارجية تقع أميركا، ملموسة او منعكسة في مرآة إعلان، كبيرة ومسرحة الشعر، مختلفة المعنى، مريحة، ساذجة، وواثقة من نفسها، أميركا التي تسمح لنفسها بسرعة مئة كيلو متر.
*
عند مدخل محطة القطار الذي يسير تحت الأرض تقف امرأة وتبتسم للمارة. متعبة قليلا. الناس يمرقون كظلال في مغارة أفلاطون. ضوء البنوك، ضوء السيارات، ضوء الإعلانات، ضوء الأفكار.
عند سلم الصعود يقبع إنسان ممدد في الظل. ثمة بقعة سوداء، سائلة تحت رأسه، سائلة في هذا الصقيع! ظل الظل. لا أحد يتوقف. ثمة شرطي يجهد نفسه بتثاقل وبشكل عابر أن يقلب الجسم بقضيبه المطاطي. المرأة الواقفة عند مدخل محطة قطار باطن الأرض توزع متعبة ابتساماتها على المارة.
*
أي شيء هم هؤلاء الإثنا عشر مليونا من سكان نيويورك؟ ما الذي تعنيه الأربعة ملايين في شيكاغو؟ والثلاثة ملايين في فيلاديلفيا؟ أليس كل ذلك ايقاعا فارغا؟ ما الذي تعنيه العشرة آلاف؟ ما هو الألف؟ ها أنذا أسمع ضجة الآلات الحاسبة. أسمع الأوراق تطقطق. عيوننا لم تألف الطابق الخمسين
لايدينا تبدو الخرسانة غير مألوفة.
لغتنا غالبا ما تخوننا أمام الأبواب الدائرية التي تفتح ذاتيا والسلالم المتحركة، أمام الأحاديث اللاسلكية بين الشاحنات، أمام ميكانزم خلية التصوير. ومع ذلك كانت لغتنا، لغة أهل الكهوف، قادرة على التعبير عن المعجزات والأشباح المرعبة، مثلما كانت لها كلماتها الخاصة بالشيطان والرؤى.
نعجب بـ المدينة مثلما نعجب بالهوابط تقطر من الغيوم، بعضلات أطلس الجبار، بورشة للرعد. لكن زهرة بيلارغونيا في أصيص زهور او تغريدة عصفور تجتذبنا، كما لو انهما ضمانان للبشرية وقيمتان إنسانيتان حقيقيتان.
في المرمر نبحث عن خطوط الكف البشرية، وعلى الوسائد عن استراحة الملاك.
وهنا أيضا لا يكون المرء قد اقتحم المدينة، ليس بعد.
فقط: الوصول الى المدينة.
والمدينة الكبيرة، البهية تفلت حتى الآن من اليد، تصير لا ـ مدينة، لا ـ مدينة من عتمة وعلب كارتون وفئران وضمير مخان ومشردين بلا مأوى تحت أقواس الجسور وأنقاض وخرائب: ليس ثمة ما يشم سوى العفن، فيما الرايات السود تنتشر
حيث يحتل الموت المتوج موقعه،
في المدينة الفريدة الميتمة
عميقا في ضباب الغرب.
(ادغار ألن بو)
والعادلون يولدون بلا أيدٍ.
نحن لم نقتحم هذه المدينة حتى الآن.
نحن لم نقتحم بعد هذه المدينة على الأقل.
*
في الولايات المتحدة مكان أكثر، لا يوجد فيه أحد، من المكان الذي يوجد فيه أحد. وهذا هو ما يجعل من أميركا أميركا.
غرترود شتاين
أجل: صفوف لا نهائية من السيارات الباركة.
أجل: شوارع خارجية، مثل سيف فولاذ بيد رئيس ملائكة يضرب به القفار
أجل: واشنطن، حيث يبدو المرء ذات مساء شتائي طويل مثل قطعة حية من مخلوق وحيد الخلية، إذ ليس ثمة سوى صفوف لا نهائية من نمال ممكننة بعلامات شركات بليموث وبيوك، تتوارى جنب بعضها الآخر، وبعيون أضوائها الكاشفة الصفراء تزيح قطعة عالمها الصغيرة ما عداها من أمامها.
أجل: دار سينما، حيث يكون المرء وحيدا مع الصور الملتمعة في صفوف مقاعد القطيفة المترامية.
أجل: بار لم يبق فيه أحد سوى عامل بار يشبه قنينة بوربون.
أجل: غرفة فندق، تنظمها أشباح لا يراها المرء أبدا.
أجل: شارع بين ناطحات سحاب، يهمل فيه الإنسان كموقع رابع بعد الفارزة.
أجل: لكن هذا المكان الفارغ مجهز بزر صغير، يعمل إذا ما ضُغط عليه. بصنابير تتدفق ماء، كما هو مكتوب من قبل. برافعات تحدث الحركة المطلوبة. بباصات تصل في الوقت الصحيح ولا يقف أحد فيها، لأن راكبا واحدا زائدا عن الحد يتسبب في تشغيل سيارة جديدة. بأجهزة اوتوماتيكية لا يمكن كسرها. بمراحيض لا يشخبط أحد إسمه عليها. بزجاج لا ينكسر. بخشب لا يتلف. بفولاذ لا يصدأ.
هذا المكان الفارغ يشتغل.
وبهذا المعنى فهو ليس فارغا تماما من البشر.
*
كان يواصل تحليله باليود الراديوي المشع. كان يفعل ذلك عبر عازل، ولكن ليس بحذر تماما. وأخيرا صار يمد يده العارية داخلاً. لقد كان وحيدا بشكل ما. كان واحدا من أكثر الناس الذين أعرفهم نجاحا، ذكيا، جميلا، متماسكا، غنيا، يملك زوجة جميلة وسكرتيرة أجمل منها، وفيللا على البحر، مولفا للبحوث الكلاسيكية ومدير مؤسسة، يحب تشغيل الأيدي العاملة فيها. وقبل يوم كان قد بلغ الأربعين من عمره.
تسكعنا بعد العمل على الساحل الرملي للمحيط الهادي، مجتازين الجدران الصخرية. برودة، شمس ـ لا زمن، خارج كل زمن.
سأل: “أليس جميلا هنا؟ أليس هنا أجمل من أي مكان آخر؟”
كان على حق. التزمنا الصمت، فيما كانت الصراصر تصر.
«أريد أن أموت هنا. هل تود أن تموت هنا أيضا؟”
لم أرد ذلك. لا أريد ذلك في أي مكان على الإطلاق.
في المساء أبلغتني سكرتيرته انه يتحدث عن الموت دائما.
لقد كان وحيدا بصورة ما.
جلس مبكرا في المختبر ومد إصبعه في كأس ما. عضته الحشرات الموبوءة.
لم يكن يستخدم الكفوف أبدا. كان وحيدا بصورة ما.
*
وفي هذه البلاد يعيش 36 مليون مواطن، يشكلون الأمة الثانية بعد أمة المالكين: يظل الدخل السنوي للفرد منهم تحت 500 دولار ودخل العائلة أقل من 2000 دولار. فبالنسبة لهم صعب هو الحصول على العمل، إذ أنهم لا يجدون معبرا الى الأمة المالكة، أمة المنتجين والمستهلكين.
إن الأمر يتعلق بسبعة ملايين من فقراء الريف وثمانية ملايين من المسنين وسبعة ملايين من العمال غير المتعلمين. هذه المشكلة ليست إقتصادية فحسب وانما سايكولوجية أيضا. فالأمة الثانية هي أمة المقهورين الذين يعيشون وسط أمة المنتصرين.
أجل، أمة من المقهورين. مختفون وراء الأسوار، وراء الأشجار، أمة من السجناء غير المرئيين! مرة واحدة رأيتهم فيها كجمهور، حيث كانوا يقفون او يجلسون في طوابير أمام قوس جسر عتيق وقذر في أحد أحياء فيلاديلفيا. بل انهم كانوا يرتدون حتى الأزياء، الأزياء الداكنة للحداد والإشارات القاتمة للحقد.
*
حديث حول حال الشعر
لو لم أكن في براغ لوددت أن أكون في سان فرانسيسكو.
من جبل التلغراف يرى المرء مدينة بيضاء تتكئ على تلة، ناطحات سحاب بيضاء، فيللات مزدانة دائما باللون الأخضر، بحرا أزرق، تلا أسطوريا أخضر عاريا يقع خلفه، جسرا أحمر، جزيرة ألكاتراز الصغيرة التي تضفي على بناية السجن الفخمة بهاءها الخاص بها، الميناء بسفنه الصغيرة، سيارات صغيرة جدا، ومشاة ضئيلين تماما، في الأسفل بعيدا. والريح تسوط بالندى مرقب السارية الذي تصدر منه الإشارات للسفن، ورائحة زهور النوار الغريبة تفوح حول برج المراقبة الدائري.
وفي المدينة الصينية يرى المرء معابد. ونخيلا. وأشجار بلوط.
وإعلانات للكعكة الايطالية المدورة المصنوعة في الحي الايطالي.
وفي مكان ما يصدح الجاز.
وثمة سفينة تشق طريقها الى البحر. والشمس تشرق من كل قلبها.
إنها مدينة مثل ألبوم لبطاقات مناظر.
التلال شديدة الإنحدار الى الحد الذي يفقد فيه المرء كل كرامة عند تسلقها
في ساحة واشنطن تنتصب شجرة بلوط وسط العشب، وتحت نصب واشنطن يضطجع رجل نائم مثل قطعة خشب بمعطف شتوي.
وفي شارع كولومبوس المشجر يمضي الطلاب والفتيان، مرتدين جاكيتات جلدية ضيقة، بمسميات ربما كان سكان المريخ قد ابتكروها، يطلقها هواة موسيقى الجاز عليها: فتيان بقمصان منقوشة بلبود أسود وفتيات بالأسود الباهت المريح، ربما اعتبرن من البيتنيكس. بيد أنني لا أعرف عما إذا كن هن أنفسهن يعرفن ذلك على الإطلاق.
المركز الأدبي لهذا الجيل يتمثل في دار نشر “سيتي لايتس بوكس” الموجودة هناك. كنت أتوقع شيئا مثل دار للكتب، حيث يوجد مكتب يجلس فيه فيرلينكيتي، بجهازي هاتف وجرس تحت متناول يده. او على الأقل بهاتف وجرس.
لكنني وأنا أتعقب رقم الدار وجدت دكانا صغيرا في الطابق الأرضي لبيت ضئيل، دكانا ممتلئا في الخارج والداخل بكميات وافرة من كتب مثيرة جدا، بحيث يمكن للمرء أن يمضي مرتاحا عطلته هناك. وهذا هو ما يفعله الشبان، كما يبدو، وهم يطوفون بين الكتب، حيث يصعب التفريق بين من يشتري ومن يبيع. فهنا يجري الحديث حول الكتب وما شابه ذلك قبل كل شيء. وبنفس الطريقة يجري عمل دار النشر. ثمة حاجز يشكل المكتب، خلفه يمكن رؤية بضع مسودات كتب وعدد من الشبان. أما فيرلينكيتي فيقف في كل مكان بين الكتب ويحدق بذكاء فيها.
نجلس الى مائدة صغيرة في مقهى شارع صغير.
«كنت أنا أيضا مثلهم ذات مرة”، قال حين لاحظ الشكل الرائع نوعا ما لشابين بشعور طويلة. لا أدري إن كان قد لمح بذلك الى جيل البيتنكس أم الى كثرة عدد الشعر.
قال: “لا أعرف تماما إن كان لا يزال بإمكاننا اليوم أيضا التحدث عن جيل مهزوم”، ثم أضاف: “وانما القول ببساطة إننا غير راضين.”
قال: “ما دام عدم رضانا يخص هذا البلد، أرى أنه ليس مخصصا للتصدير. فاذا ما ترجم ونشر في الخارج فانه يتخذ أشكالا أخرى.”
سألته عن البرامج الأدبية.
رد علي بسؤال معاكس عما تكون عليه البرامج الأدبية عندنا.
ثم قال لي كم من الغبار الذري سجل عندهم. كان يعرف الرقم الصحيح. ثم سأل عن تأثير الإشعاع على الخلايا.
ثم سأل أخيرا: “ما الذي يجري عمله عندكم ضد التسلح الذري؟”
وبذلك لم نتحدث على الاطلاق عن حال الشعر.
ومع ذلك لم يتكون عندي الإنطباع بأننا لم نناقش حال الشعر.
*
في متجر خدمة ذاتية يبيع الورق بسان فرانسيسكو عثرت على كتيب لجاك ووهل الذي خطر له أن يقوم بدل الرسوم القائمة على التخطيط بصنع أشكال من أوراق ذات ألوان مختلفة عن طريق القص، تحدث تأثيرها عن طريق النصوص المناسبة التي يضعها لها.
لا أريد بأي حال من الأحوال أن أزعم بأن هذه الرسوم تشكل ذروة في الفن، لكنها خاطرة جيدة. فالفارق بين الخاطرة الجيدة حقا والفن ليس كبيرا جدا، حيث تكشف الخاطرة الجيدة في شكلها المألوف ما لا يكون مفهوما لكل أحد في الفن.
عند جاك ووهل يلتقي مثلا مربع أرجواني اللون بدائرة حمراء. لنقل أن الدائرة تدعى سوزانا وتقول:
«لن ينتج من علاقتنا شيء يا ألويس. فنحن الإثنين من عالمين مختلفين!”
*
حوالي منتصف الليل عاد متجمدا من البرد، ولكن راضيا.
ظل يروح ويجيء طوال ست ساعات أمام البيت الأبيض، حاملا شعارا يقول “نطالب حكومتنا باتخاذ إجراءات فعالة لمواصلة مفاوضات نزع السلاح”.
قال وهو يزيح طبقة الثلج جانبا في كأسه: “بل حتى انني قابلت سيناتورا”، ثم أضاف وهو يحدق بي من فوق الى تحت: “وغدا سوف يستقبل الرئيس وفدنا.”
جاهدت أن أنقل الى اللغة الانكليزية واحدا من أهم إنجازاتنا اللغوية
«ثم ماذا؟”
*
إنني أحب، سوى انني لا أجد ما يمكن أن أحبه.
شيرورد اندرسون
لا أستطيع أن أذهب مع نفسي وحيدا.
ألين غينسبرغ
يذهب شاب ليتنزه على ساحل البحر ويتنشق الغيوم المالحة التي تجيء بها الريح الى هناك.
إنه يستطيع أن يحصل على قطعة بحر او قطعة أرض او قطعة سماء.
وماذا في ذلك؟
يستطيع أن يحصل على الحب.
وماذا في ذلك؟
يستطيع أن يحصل على اي نجاح، يمكن أن يتخيله المرء.
وماذا في ذلك؟
الطيور تحلق وتحط فوق أصابعه.
وماذا في ذلك؟
يستطيع أن يقول كل ما يخطر بباله.
وماذا في ذلك؟
يستطيع أن يقهر الملاك.
وماذا في ذلك؟
يستطيع أن يرى قطرات دمه وهي تتلاشى في قطرات المحيط.
وماذا في ذلك؟
هل تبحث عن شيء يا سيدي؟
أجاب: “كلا، شكرا”، ثم ابتعد مسرعا.
ولكن كتفيه ذكرتاني بكتفي شاب يبحث عن كتاب الصور الذي وضعت أمه دبوس شعر بين صفحاته للإشارة الى الصفحة التي بلغتها في القراءة.
ميروسلاڤ هولوب (1923 ـ 1998) أشهر وأهم شاعر تشيكي برز في الستينات بقصائده التي يمتزج فيها العلم بالشعر، فهو بالإضافة الى كونه شاعرا عالم مشهور نشر العديد من البحوث البايولوجية والطبية والتي فتحت أمامه الطريق للمشاركة في المؤتمرات الدولية والإقامة في الخارج. وهذا الكتاب الذي نقدم مقتطفات منه هنا والذي يقول عنه إنه شبيه بالريبورتاج يدور حول أميركا في الستينات والذي وضعه بعد إقامة استمرت شهورا هناك وهو بعنوان “ملائكة على عجلات”، صدرت ترجمته الألمانية عن دار ريكلام في العام 1967. وكان هولوب قد توقف عن النشر ما بين 1968 و1980 على إثر التدخل السوفياتي وإجهاض ربيع براغ.
شاعر وكاتب عراقي، برلين
نشر هذا النص في مجلة كيكا للأدب العالمي
النسخة المطبوعة، العدد المزدوج السابع والثامن 2015