مقطع من رواية نزار آغري “البحث عن عازار”

غلاف رواية “البحث عن عازار” الصادرة عن دار الكتب خان في القاهرة 2021

تقول ابنتي:

ـ تعرف يا بابا، أنا بحثت عنه في الإنترنت، في كل مواقع التواصل الاجتماعي. لم أعثر عليه. ولكنني سأواصل البحث عنه، أعدك، حتى أجده.

للحظة أعجز عن فهم ما تقوله. أنظر إليها صامتاً، مندهشاً، ثم أدرك ما قصدته.

ـ لقد فعلت ذلك يا ابنتي. بحثت عنه في كل مكان.

تقترب ابنتي مني، تقف إلى جانبي، تضع يدها على كتفي. لا تريد أن تنظر في عيني وترى الحزن، وربما الدمع، فيهما.

أكاد أقول لها أنني لا أريد أن أعرف أين هو لأنني لو عرفت سأسافر إليه. وأنا، يا ابنتي، لا أريد أن أراه. لأن عازار الذي أعرفه اختفى، اختفى إلى الأبد. سأرى شخصاً آخر. سأرى رجلاً لم ألتق به في حياتي. سأرى رجلاً هرماً، أثقلت كاهله السنون، مثلي. عازار الذي أعرفه فتى في الرابعة عشرة من عمره، بهي كالقمر، جميل كالسنونو، نقي كالربيع.

***

1

كنا دخلنا الصف للتو وكان آخر التلاميذ يسير ببطء وكان معلم الجغرافيا يجلس على كرسيه خلف الطاولة، أمام اللوح الأسود، ينتظر أن يجلس الجميع ليباشر الدرس. حينذاك دخل أمين السر، إسحق عبد الأحد، فنهض المعلم ولكنه لم يطلب منا الوقوف كما هي العادة، ربما لأن الهدوء لم يكن استتب بعد ولم يكن جميع الطلاب جلسوا في أماكنهم.

اقترب أمين السر من المعلم حتى كاد يلتصق به ثم دنا منه حتى كاد يلامس وجهه وهمس له شيئاً في أذنه وأشار إلى طالب جديد كان يقف وراءه فهز المعلم رأسه وانصرف أمين السر.

وقف الطالب الجديد بالقرب من طاولة المعلم من جهة الباب ووضع يديه خلف ظهره وبدا كما لو أنه سيلقي كلمة. لكنه أخفض رأسه وأخذ ينظر إلى الأرض أمامه. كان الخجل يسيطر عليه ولكنه بدا، مع ذلك، واثقاً من نفسه. في لحظة بدا لي وكأن شيئاً يشع منه.

طلب المعلم من الجميع الجلوس واللوذ بالصمت. وهو سكت لحظة، بدت طويلة، ركبنا فضول مميت خلالها، ثم أشار إلى الطالب الجديد وقال:

ـ علينا أن نرحب بتلميذنا الجديد. سيكون معكم في الصف.

ثم نظر إلى الطالب وقال:

ـ ما اسمك.

رفع الطالب رأسه ونظر إلى المعلم وقال:

ـ عازار.

وانتظر المعلم قليلاً ثم قال:

ـ إسمك الكامل.

ـ عازار ناحوم عزرا.

وصدرت همهمة من الطلاب وتبادل بعضهم النظرات. أما أنا فقد بقيت صامتاً أنظر بثبات إلى الطالب.

ـ تفضل واجلس.

كان هناك مكانان شاغران. المقعد الذي أمامي، حيث يجلس بيير قس إلياس، عريف الصف. ومقعدي. تقدم الطالب الجديد بهدوء نحو الجهة التي نحن فيها، بيير وأنا. وبدا لي أنه سيجلس إلى جانب بيير. وصل إلى المكان الفارغ في المقعد وتهيأ أنه يستعد للجلوس ولكنه تردد قليلاً ثم أكمل سيره إلى مقعدي. كنت أجلس بجوار الحائط وكان المكان المطل على الممر الضيق ين صفي المقاعد خالياً. وقف هناك، نظر إليَ ثم جلس. وضع كتبه في كوة المقعد أمامه واستقام وأخذ ينظر إلى المعلم الذي هز رأسه ثم عاد إلى كرسيه وجلس. وبدأ الدرس.

تظاهرت بأنني أصغي إلى المعلم ولكنني رحت أنظر إلى الطالب الجديد بطرف عيني. ما أثار انتباهي، أكثر من أي شيء آخر، هو البهاء الذي كان يحيط به. وضع يديه فوق ركبتيه فبدا كمن يبتهل أو يمارس اليوغا وبدا وجهه مشرقاً، جميلاً إلى حد لا يوصف.

شرع المعلم يشرح الدرس ولكن انتباهي انصب على جاري الجديد. بدا لي أنه، هو الذي في عمري، قادم من عالم آخر غير العالم الذي أعرفه وأعيش فيه. وللحظة انتابني إحساس لم أشعر به من قبل: أنني أعرفه منذ  زمن بعيد ولاح كما لو أنني التقيت به من قبل. شيء غامض يلفه ويشدني إليه.

في تلك اللحظة عرفت أن صدفة أو قوة غيبية أرسلته إلي بالذات. وقررت أن يكون صديقي. لا أعرف لماذا وكيف ولكن لم يساورني الشك في أننا سنصبح صديقين مرة وإلى الأبد.

***

من أي سماء هبط علي هذا الكائن دون مقدمات؟ أي وحي، ملاك، رسول، أرسله إلي؟ من أجل ماذا؟ أليهديني أم ليضلني؟ ليرشدني أم ليغويني؟ أهو جزاء أم عقاب؟ نعمة أم نقمة؟

أظل أنظر إليه بطرف عيني، أراقبه، أتابع حركاته وسكناته، أدقق في ملامحه، أدرس مسلكه، فأزداد اضطراباً وقلقاً وتوتراً. أجد نفسي مشدوداً إليه أكثر فأكثر. أهمل كل شيء آخر وأركز عليه. أنحرف عن الدروس والمعلمين والطلاب وأنجرف إليه.

أستمع إليه، إلى صوته وصمته، أفكر فيه، أفكر به، أتأمله، أتتبعه، أستغرق فيه، عالمي هو هذه الفسحة التي تجمعني به، أغمض عيني عن كل شيء آخر وأغيب في الخيال الذي يأخذني إليه، غير عابيء بما يشرحه المعلم على السبورة إلى أن يدق الجرس فنخرج إلى الفرصة. أخرج معه وأحاول التقرب منه فيبتسم ثم ينسل بهدوء ويذهب إلى طلاب آخرين من الصفوف الأخرى، سأعرف في ما بعد أنهم أقاربه.

هو لا يهتم بي، لا يبالي. لا يكترث، لا يغير جلسته أو نظرته أو حركته. يبقى كما هو، كأنه تمثال من برونز. لا ينظر ناحيتي إلا لماماً. لا يتبدل، لا ينشغل، كأنني جالس بالقرب من حجر. كأنه لا يعرف أنني أشاركه المقعد وأنني أجلس بالقرب منه. كأن كل حركاتي وهمهماتي تجري في كوكب آخر. لا شيء مما أفعله يثير انتباهه.

أنا لا أعني له شيئاً، أي شيء. ولكن إذا كان الأمر على هذا النحو فلماذا اختار أن يجلس بالقرب مني؟ لماذا اختار مقعدي؟ لماذا غير رأيه ولم يجلس في مقعد بيير وأكمل طريقه إلي؟ كان أسرع  وأسهل أن يجلس في أول مقعد يصادفه ولكنه لم يفعل. بل إنه تعمد أن يهمل مقعد بيير، بعد أن تردد قليلاً وأوحى بأنه سيجلس هناك ثم استدار وجاء إلي. جاء عن سابق تصور وتصميم. اختار عمداً أن يجلس بجواري، في مقعدي. لقد اختارني أنا فلماذا يهملني إذن؟ لماذا لا يمنحني قليلاً من وقته؟ لماذا لا يحاول أن يستكشف من أنا، من هو جاره، الجالس بالقرب منه؟

هل سيبقى هكذا لا مبالياً، بارداً، حيادياً، كما لو كان غريباً في رحلة عابرة في حافلة عابرة، سرعان ما سيمضي في حال سبيله بعد انتهاء مشوار الطريق؟

هل يتحتم علي أن أفاتحه؟ أن أتكلم معه في مواضيع عن الدروس والمدرسة والمعلمين؟ أن أسأله ماذا يفكر أن يدرس في المستقبل، مثلاً؟

فعلت ذلك أكثر من مرة. تكلمت معه، سألته عما قاله الأستاذ، سألته عما إذا كان استوعب الدرس. يرد باقتضاب ثم يدير رأسه وينشغل بنفسه.

***

 كل شيء فيه يشدني إليه، حتى إسمه. إسمه الثلاثي الذي يشبه مقطوعة موسيقية باهرة، يرن في مسمعي حين يلفظه الأساتذة عندما يقرؤون أسماء الطلاب لتسجيل الحضور. إسمه وإسمي متجاوران في دفتر التفقد. إسمي يأتي بعد إسمه مباشرة فكلاهما يبدآن بحرف العين. هو: عازار عزرا. وأنا: عيد كوري. إسمه يحمل الألف بعد العين فيما إسمي يحمل الياء. حفظت الأسماء التي تسبق إسمه فما إن يبدأ الأستاذ يقرأها حتى يبدأ كياني يرتعش فإن جاء دوره ونطق الأستاذ اسمه أشعر وكأنني سأطير من الفرح.

أردد لنفسي: أخيراً عثرت على الصديق الذي طالما رسمت صورته في خيالي. ولكن السؤال الذي يشغل بالي هو كيف يمكن أن أنال رضا هذا الفتى الذي لا يكترث للآخرين ولا ينشغل كثيراً بما يدور حوله؟ كيف يمكن أن أنتزعه من مملكته وأجعله يقبلني صديقاً له، أنا الذي أختلف عنه في كل شيء؟ ماذا في وسعي أن أفعله كي يجعلني أنا، وليس أي شخص آخر، صديقاً له؟ ما الذي يضمن أنه يفكر بي أصلاً وأنه يرغب في أن يكون صديقي؟ لماذا سيقبل أن يختارني أنا، من بين الجميع، صديقاً وأغلبهم، إن لم يكن كلهم، لديهم حظوظ أكبر في نيل ذلك؟ هم من نفس المدينة وربما كانوا يعرفون بعضهم بعضاً من قبل. ربما كانوا هنا، في نفس هذه المدرسة. أما أنا فقد جئت تواً من مكان بعيد. من مدينة أخرى. جئت من عامودا التي درست فيها الصف السابع، السنة الماضية. وكنت انتقلت إلى عامودا مع أهلي من ماردين. كان بيتنا في القرية. قرية مجاورة لماردين. سكانها من الأكراد المسلمين فيما نحن إيزيديون. حدث خلاف بيننا وبينهم. تحول الخلاف إلى شجار عنيف. قتلوا عمي. وهربنا. هرب أهلي. انتقلنا إلى ما وراء الحدود. إلى ما يسمونه «بنخت»، أي تحت سكة الحديد، تلك التي جرى عليها قطار الشرق السريع، على الحدود بين سوريا وتركيا. جئنا واستقرينا في قرية اسمها كرنكو. قريبة من عامودا. صيفاً، في الليل، ننام على أسطح البيوت فنرى أضواء ماردين تضيء وتلمع وتتراقص كما لو أنها تومئ إلينا. كأنها تنادينا وتطلب منا الرجوع.  درست الابتدائية في القرية وفي السنة الماضية انتقلت إلى الصف السابع الإعدادي فاستأجرنا بيتاً، أنا وأخي في عامودا. ولكن الناس كانوا يضايقوننا. كانوا يسخرون منا لأننا إيزيديون. قررنا القدوم إلى القامشلي، لم نخبر أحداً أننا إيزيديون.

وها قد التقيت بفتى أشعر أنه قريب جداً مني. أراه صنو روحي. وها أنا أجاهد كي أكسب صداقته. ولكن كيف؟ كيف يمكن أن ألفت انتباهه وأقنعه أنني أستحق صداقته؟

 لم يكن لدي جواب ومع هذا بقيت مقتنعاً في قرارة نفسي أنه سيصبح صديقي. كنت مصراً على أن أظفر به وكنت متيقناً في أعماقي من أنني سأحقق ذلك. كان علي ألا أستسلم.

***

كل تصرفاتي تنبع من رغبة واحدة، واعية وغير واعية في آن واحد، وهي جلب انتباهه: أن ينظر في عيني ويرى اللهفة فيهما. أن يمسك بيدي ويشعر بالرجفة تسري في جسدي. أن يصيخ السمع ويسمع الصراخ الذي يدوي في داخلي.

أحاول أن أتصرف تبعاً لما أعتقد أنها مقاييسه في السلوك والذوق واللبس والكلام ومع هذا لا يبالي. أضحي بأشياء كثيرة عزيزة علي من أجله ولكنه لا يلحظ ذلك. أهمل أشياء كنت أحبها وأتعلق بأشياء لم تكن تعني لي شيئاً، تبعاً لما أعتقد أن ذلك يتطابق مع ميوله وأهواءه. ومع هذا لا أرى ما يدل أنه سيتغير ويبدأ بالالتفات إلي والتكلم معي. أحياناً أسأله عن شيء قاله المعلم متظاهراً بأنني لم أسمع ما قيل، فيقول كلمتين أو ثلاث ثم يدير وجهه. مرة طلبت أن أستعير ممحاته فأعطاني إياها دون أن ينظر إلي. وحين أعدتها له وشكرته هز رأسه مرتبكاً.

تنتابني مشاعر متعددة، متناقضة ومضطربة، تجعلني أشبه بشخص مصاب بانفصام في الشخصية. أهدأ ساعة وأثور ساعة أخرى. أفرح لحظة وأكتأب لحظة أخرى.  إنه أمامي، وجهه أمام وجهي، أنفاسه تختلط بأنفاسي، أكاد أسمع دقات قلبه، أكاد أغوص في حدقتي عينيه، ومع ذلك هو بعيد عني. لا يراني، لا يحس بي.

لا أرى غيره في الصف. الآخرون ليسوا شيئاً بالنسبة لي. لقد كفوا عن الوجود. هو وحده الحاضر، الحي، الباقي، القيوم، القادر على كل شيء. هو فقط، بوجهه النوراني وحضوره المقدس، يحرك يده فتتحرك الدنيا ويرفع رأسه فتتدافع المجرات. هو، معي، لا يفصلني عنه أي شيء. إن مددت يدي ستلمسه. كتفي يلامس كتفي.

هو طالب مثل أي طالب، نعم، ولكنه بالنسبة لي كائن خرافي. لقد قلب حياتي، من دون أن أدري ومن دون أن يدري، رأساً على عقب.

أحياناً ألعن نفسي وأقرر أن أكف عن الاهتمام به. أقول لنفسي لم هذا الافتتان بشخص لا يقيم الاعتبار لي؟ يجب أن أتخلص من هذا الاستعباد اللعين، هذا الإحتلال الغاشم. يجب أن أتخلص منه، أن أطرده من بالي وأقتل حضوره في ذهني. أن أبعثر كل الصور والتخيلات التي رسمتها له في خيالي. أن أهرب منه، وأنكفأ على ذاتي مثلما كنت من قبل.

آه، ما أسهل الكلمات وما أصعب الفعل. سرعان ما أهدأ وأدعو نفسي إلى التحلي بالصبر فالوقت الذي سيغير فيه رأيه آت بلا ريب.

ولكن من هو في حقيقة الأمر؟ هل هو حقاً مجرد تلميذ عادي مثله مثل غيره من التلاميذ؟ أي سحر  يجعلني مبهوراً، مخطوفاً، مجذوباً، مشدوداً إليه على هذا النحو وطوال الوقت؟

بالنسبة لي هو روح إلهية تجسدت في فتى. منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيني عليه أصابتني شرارة صاعقة خربطت كياني. وجدت نفسي مضطراً لأن أعيد ترتيب ذاتي وصياغة نفسي بما يناسب حضوره. لقد بزغ مثل نور وغمرني بضيائه ولن أفلح في أن أعود كما كنت. من الآن وصاعداً سأكون شخصاً آخر. سأنتظر اللحظة التي يدرك فيها أنني سقطت في مداره وأنني أتبعه كما يتبع الكوكب المدار الشمسي. سأنتظر أن يلتفت إلي ويضمني إلى مداه.

***

ثم جاءت الساعة.

بعد انتهاء اليوم الدراسي خرجنا من المدرسة، كالعادة، وأخذت الطريق إلى البيت. سلكت الشارع الذي أقطعه كل يوم. أعبر شارع الكورنيش الذي يفصل المدرسة عن حي الوسطى ثم أدخل الطريق المستقيم الذي يتصل بالشارع الموازي لشارع الجسرين من جهة الجنوب ويصل إلى البشيرية. كان الجو دافئاً وكانت أوراق الشجر، الطالعة من وراء أسوار البيوت، اكتست ألواناً برتقالية وبنية وصفراء، وتتأهب للسقوط، فيما السماء زرقاء صافية. رأيته أمامي يسير ببطء كما لو أنه يتعمد ذلك كي أصل إليه. أبطأت سيري كي لا أبدو أنني أريد اللحاق به ولكنني شعرت بقوة رهيبة تدفعني إلى الاستعجال. لم أكد أصل إليه حتى استدار وابتسم وقال وهو متردد: مرحباً. وبدا ذلك غريباً فقد كنا للتو معاً في الصف نجلس جنباً إلى جنب. وشعرت بفرح داخلي إذ أدركت أنه خجول وأنه ربما كان يشعر بالارتباك مثلي. قلت مرحبا وسرنا جنباً إلى جنب. نظرنا في بعضنا وابتسمنا كأننا نلتقي لأول مرة.

هذه لحظة فريدة في حياتي. لم أكن أتوقع أن يحدث هذا، أن يحدث على هذا النحو المدهش. بقيت كل الوقت أتوق إلى هذا، أشتاق إلى هذا، أدعو إلى أن يحدث هذا، ولكنني في أعماقي كنت أشك في أن يحدث. كان الشك يسيطر علي، وكان عدم اليقين يخنقني. كنت خائفاً من ألا يحدث. من أن لا يكترث عازار للأمر أبداً. مع ذلك بقي قلبي ينبض طوال الوقت متأهباً لهذه اللحظة.

وها نحن ذا، وجهاً لوجه، جنباً إلى جنب. يكلمني وينظر إلي. وأكلمه بتردد، ولكنني أشعر بسعادة طافحة، وأنا أسأل نفسي في سري ما إذا كان الأمر حقيقة.

كلانا، مرتبكان، لا نعرف كيف نتصرف. ولكن ثمة شعور متبادل، على ما أظن، في أننا نقترب من بعضنا بعضاً، نحتاج إلى بعضنا بعضاً.

في البداية كانت الكلمات تخرج بصعوبة من فمي، وكنت أحس بتوتر واضطراب. ولكن شيئاً فشيئاً غمرني هدوء آسر وشعرت بالراحة. ومن ثم بدأنا نتكلم، هو وأنا، كما لو أننا نعرف بعضنا بعضاً منذ الأزل.

انتابني ذلك الإحساس الذي يهبط على مسافر خاض زمناً طويلاً في دروب وعرة وسهوب قائظة ثم وصل أخيراً إلى الواحة التي كان يتوق إليها. واحة تظللها الأشجار ويتدفق فيها نبع صاف وفي الأفق تلوح أطراف مدينة ساحرة، تلتمع فيها الأضواء وتأتي منها الأصوات مبهجة مبشرة.

وصلنا إلى بيتهم ولكنه لم يدخل. بقينا نمشي، كعاشقين غافلين عما يجري من حولهما، إلى أن وصلنا إلى جسر البشيرية. توقفَ هناك وتوقفت معه. مد يده مصافحاً وقال: إلى اللقاء غداً، ثم استدار ورجع إلى البيت. بقيت لحظة في مكاني، مثل صنم، مشدوهاً مما جرى، قبل أن أواصل السير نحو البشيرية.

أخذت طريق البيت وأنا أكاد أجري وصوته يتردد في أذني.

في ذلك اليوم بقيت شبه صامت في البيت. لم أكلم أخي إلا فيما ندر. كنت كمن عثر على كنز ولا يريد أن يفشي السر لأحد.

نمت بشكل مضطرب. كنت خائفاً من أن يكون ما جرى لحظة عابرة لن تتكرر وأنه سينسى ذلك ويعود كما كان. بل ربما أنه ندم على التحدث معي.

***

في صباح اليوم التالي عدت إلى المدرسة مندفعاً، أكاد أركض لأرى ما إذا كان سيتكلم معي ثانية. حين دخلت الصف نظرت فوراً إلى المقعد. مقعدنا المشترك. كان هناك وكان ينظر إلى ناحية الباب كأنه ينتظرني. عندما رآني نهض وابتسم وتنحى جانباً كي يتيح لي المجال لأدخل. بدا واضحاً أنه سعيد لقدومي وكانت سعادته حقيقية. بدأنا ننظر إلى بعضنا بعضاً، نظرات مرتبكة، خجولة، مباغتة، ونبتسم دون أن ننبس بشيء. بقينا صامتين لأننا شعرنا أن الصمت أفصح في قول ما نود قوله. لم نرغب في الحديث، أول الأمر، لأن جلوسنا معاً، متقاربين، كان يشبه موسيقا خفية وكنا نصغي لتلك الموسيقا في خشوع. ثم بدأنا نتحدث إلى أن جاء المعلم.

منذ ذلك اليوم اكتسبت عادة ستبقى معي إلى آخر يوم في المدرسة: حين أدخل إلى الصف فإن أول شيء أفعله هو أن أنظر فوراً إلى المقعد لأتأكد مما إذا كان عازار سبقني في المجيء أم لا. حين أراه تشرق الدنيا في وجهي، وهو إذ يلمحني في الباب ينظر إلي وترتسم الإبتسامة الطفولية على وجهه. ولكن حين أدخل وأرى المقعد فارغاً ينهمر ستار داكن على الصف ويغمرني الحزن. أمضي وحيداً وأجلس مثل يتيم. أنتظره. لا أعبأ لأي شيء سوى ترقب قدومه. يدق قلبي وأنتفض كلما دخل تلميذ. أصير أعد الدقائق والثواني إلى أن يأتي.

***

صرت متلهفاً للذهاب إلى المدرسة. ما إن يحل الليل وأرقد في الفراش حتى أشرع في إغماض عيني كأنني استعجل النوم لكي ينقضي بسرعة وأنهض باكراً في الصباح وأذهب إلى المدرسة.

في الصف، أشعر بالاضطراب لمجرد إدراكي أن عازار يجلس بالقرب مني. أحس بانجذاب لا شعوري نحوه أفقد معه القدرة على التحكم في حركاتي. كل تفكيري ينصب عليه. على حضوره إلى جانبي، كأن هناك حبل سري يربطني به. أفكر في أنه هو أيضاً يفكر بي. وأعرف أنه يعرف أنني أفكر به.

تغمرني سعادة غريبة لإدراكي أنه معي. أنه لي، على الأقل في ساعات الدوام، وأن لا شيء ولا أحد يمكن أن يأخذه بعيداً عني.

قبل قدومي إلى القامشلي والاستقرار فيها لم أكن أعرف شيئاً عنها سوى أنها مدينة، مثل المدن الأخرى المتناثرة على تراب تلك الأرض المترامية الأطراف في هذه البقعة من العالم. هي مدينة، أكبر من عامودة ولكن أصغر من ماردين، وأقل بهاء منها. ماردين هي مثل عقد من الفوانيس مربوطة إلى عنق تلة دائرية حمراء كالمرجان، بقعة ساحرة تشبه مدن ألف ليلة وليلة بأزقتها الملتوية وحاراتها المعتمة ودروبها الضيقة. فيها عدد لا يحصى من اللغات واللهجات والأديان والطوائف والمذاهب. لم أكن أعرف أن القامشلي هي المدينة التي بناها المسيحيون حين طاردهم الأتراك وارتكبوا بهم المجازر. جاء السريان والآشوريون والكلدان والأرمن وأصلحوا الأرض وسووا التراب وأقاموا بيوتهم واستقروا. لم أكن أعرف أن هؤلاء أنشأوا بلدة جميلة مثل قنينة عطر وأنهم أقاموا الدور والقصور والدكاكين والمحال التجارية ومخازن اللباس والمسارح ودور السينما والمخابز والمطاعم والمقاهي، وأنهم فعلوا ذلك بشكل جميل وباذخ. ثم جاء إليها الكرد والعرب فصارت مثل بابل. بابل صغيرة من اللغات واللهجات والسحنات والعادات والرقصات والأغاني والأزياء. بابل ممددة على الأرض، ملقاة على التراب وليست معلقة في السماء.

2

حين تيقنتُ من أنك رحلت وأنني بقيت لوحدي بدا لي العالم موحشاً. قررتُ أن أغادر القامشلي. تخليت عن كل شيء وكل شخص. رجعتُ إلى القرية، هناك حيث تتناثر البيوت الطينية، الصغيرة، الهزيلة، على مساحات مترامية من التراب. حيث الرجال صامتون يخاطبون الهواء بحواجبهم ويمتطون نساءهم في الليل متلمسين طريق شهواتهم بشفاه مطبقة. في الصباح تنهض النساء من النوم فتتساقط من وجوههن ضحكات مكبوتة فيما أيديهن تعدل ملابسهن التي تحمل رائحة الشبق. هناك سأدع الجحور والحشائش اليابسة تنصت إلى همسات عروقي. سأخاطب النجوم التي تتدلى من سقف السماء. ستسمعني الحباحب وأنا أردد إسمك، أناديك: عازار، عازار، لماذا تركتني؟ سيعتقد الله أنني أخاطبه: إيلي، إيلي، لم شبقتني؟

الآن أبدو كمن يحاول أن يتعلم المشي من جديد بعد أن أقعده حادث فظيع. إنه مؤلم ولكن لا بد من الاستمرار. يجب أن أنهض وأبقى على قيد الحياة من أجل شيء واحد: أن أراك من جديد. أن نستعيد ذلك العالم الذي عشنا فيه.

كان لنا عالمنا الصغير الخاص بنا: يمتد من البشيرية، حيث أقيم، إلى الحي الوسطى، حيث تقيم أنت، وبينهما شارع الجسرين مثل درب التبانة، تتناثر على جنباته النجوم الزاخرة: بيوت ودكاكين وكنائس ومساجد.

عالمنا الصغير هذا كان أكبر من كوكب وأوسع من محيط. لم يكن يعنينا العالم الكبير الذي يدور من حولنا إلى ما لانهاية.

***

تركتُ كل شيء في القامشلي: مدرسة زكي الأرسوزي، بيت صومي، البشيرية، الحي الوسطى، قدور بك، الحي الآشوري، شارع الجسرين، الكورنيش، محل أبي خالد للبليارد، سينما حداد ودمشق وفؤاد، مكتبتي اللواء السليب والحرية، المركز الثقافي، مطبعة الرافدين، مطحنة مانوك، مقهى كربيس، محل الحاج رفعة، مدرسة القادسية، الملعب البلدي.

تركت أصدقائي: جان قواص، كميل سمان، بيير قس إلياس، فؤاد نجار، فؤاد خميس، فؤاد ملكي، جوزيف إفرام، عزيز عنتر، آكوب كوركيسيان، عدنان رحيل، سنحريب شمعون، عيسى أزرق، فرهاد حسين، صليبا مراد، وسواهم.

كانوا أصدقاء رائعين. وهم كانوا كذلك لأنهم كانوا أصدقاءك أيضاَ، فمن يكون صديقك لا بد أن يكون رائعاً مثلك.

أنت كنت مثل شمس باهرة تضيء الكواكب والأفلاك من حولك، فلما رحلت انطفأ كل شيء. لم أعد أرى أي شيء وأي شخص.

انتقلت من مدرسة زكي الأرسوزي في القامشلي إلى مدرسة أبي تمام في الحسكة. ثم التحق بي أخي أيضاً. سأكون بعيداً عما يؤجج النار في ذاكرتي، لأن ليس لك من أثر هناك. كنا قررنا، أنت وأنا، أن نزور الحسكة يوماً ولكننا لم نفعل. نسينا ذلك. وهذا لحسن الحظ فأنا أقيم فيها الآن من دون أن أصطدم بما يثير الأشجان في أعماقي.

***

بعد رحيلك سيطر علي استسلام صامت. لم تعد عندي القدرة، ولا الرغبة، في القيام بأي شيء. بل إنني توقفت حتى عن الكلام. غرقت في الصمت.

بدا لي أنني سأستسلم لمصيري وسأقضي أيامي في شرنقة الوجع. صرت أقفل الباب على نفسي وأستمع اليوم كله إلى الأطلال. أطلال قصر بنيناه ثم هبت عاصفة ودمرته في لحظة.

***

استأجرنا غرفة عند عائلة عربية في حي تل حجر. حوش كبير يضم أربعة بيوت طينية على الطراز العربي. يسكن صاحب البيت في دار كبيرة. بالقرب منه إبنه الأكبر وعائلته. في الجهة الأخرى بيت إستأجرته عائلة كردية، أب وأم وولد وبنت. ثم الغرفة التي استأجرناها، أنا وأخي. الحوش كبير والطريق إليه موحل فلا نصل إلى غرفتنا إلا بعد أن تكون أحذيتنا امتلأت بالطين. هناك أولاد كثيرون يصرخون ويتبادلون الشتائم طوال الوقت. والعائلة الكردية بارعة في المشاجرات. إبنهم يعمل ماسح أحذية في مركز المدينة وكثيراً ما أمر به هناك فأراه منكباً على أحذية “زبائنه” ينظفها من الطين ثم يلمعها فتبدو كما لو أنهم اشتروها تواً. يمرر فرشاته بخفة فوق وجه الحذاء الذي يبدأ يلمع مثل مرآة مصقولة وبين تمريرة وأخرى ينقر مؤخرة الفرشاة على صندوقه الخشبي وينادي: بويا، بويا. يجلس في صف طويل إلى جانب ”زملاءه“ في العمل، أولاد في عمره وضع كل واحد منهم صندوقه أمامه وقد ملأها بصور الممثلات. مرة رأيت أحدهم يناول مجلة خلاعية إلى زميله. حين أدرك أنني رأيت المجلة ضحك وخبأها وراء الصندوق.

كان من الصعب تحمل الصخب والضجيج والشتائم في الحوش العربي. قررنا الإنتقال من هناك. استأجرنا غرفة في حي الناصرة، التي يسكنها المسيحيون وأغلبهم من السريان والآشوريين. هناك ترتيب ونظافة وهدوء. يقف باص النقل الداخلي في الموقف الأخير.أستقل الباص كل يوم للذهاب إلى المدرسة. أنزل في موقف المساكن الشعبية، عند محطة القطار، ومن ثم أمضي مشياً إلى مدرستي الجديدة، أبي تمام.

***

تركتني ورحلت ومع هذا لم أشعر لحظة واحدة بالحنق عليك. لم أغضب منك. غضبت من القدر وحزنت كثيراً. انتظرتك. انتظرت أن تأتي. صرت أوهم نفسي أنكم، أنت وأهلك، ذهبتم في زيارة إلى مكان ما وأنكم سترجعون قريباً. وبات دأبي أن أستيقظ كل يوم باكراً وأهيأ نفسي لاستقبالك:

فضلت مستني بآمالي،

ومالي البيت:  بالورد، بالشوق، بالحب، بالأغاني.

بشمع قايد، بأحلى كلمه فوق لساني.

***

الأصوات والألوان والروائح تشدني فقط حين ترتبط بذكرى منك. ذلك الصوت سمعناه معاً. صوت حفيف الأشجار حين مررنا بالقرب من النهر. صوت قطرات المطر وهي تضرب المظلة التي كنا نسير تحتها معاً. اللون الذهبي لكنيسة مار يعقوب التي كنا نمر بالقرب منها، اللون الأخضر الفاتن لطاولات البليارد التي كنا نلعب بكراتها الصلبة اللامعة، رائحة البهارات في محل والدك الذي جلست فيه وأنا أنتظرك، رائحة العشب الندي في الحديقة العامة التي كنا نطارد فيها بعضنا بعضاً. حتى الأغاني الوطنية التي كانت تغيظني صارت الآن عزيزة علي لأنني كنت أسمعها وأنا أسير معك.

***

انتهيتُ من المقابلة مع المدير. طرح علي أسئلة كثيرة وتأكد من أوراقي وأبدى إعجابه بالعلامات التي كنت نلتها في مدرسة زكي الأرسوزي في القامشلي، ثم تمنى لي التوفيق في مدرستي الجديدة ونادى أمين السر وطلب إليه أن يأخذني إلى صفي الجديد.

دخل أمين السر إلى الصف واقترب من المعلم الذي كان واقفاً أمام السبورة يشرح الدرس. كان على ما يبدو معلم التاريخ فقد رأيت على اللوح عبارة “حملة نابليون على مصر” وخريطة تتضمن سهاماً تمتد من البحر والبر باتجاه المدن المصرية. همس شيئاً في أذن المعلم الذي هز رأسه، ثم غادر الصف.

استدار المعلم  وسألني عن إسمي. قلت: عيد.

ـ إسمك الكامل.

ـ عيد كوري.

وتذكرتكَ حين دخلت إلى الصف في زكي الأرسوزي. طلب منك المعلم أن تذكر إسمك الكامل فقلت: عازار ناحوم عزرا.

كانت تلك هي اللحظة التي خفق فيها قلبي بشكل غريب. رقصت خلايا جسمي طرباً لموسيقى صوتك الحنون ومال الدم في شراييني إلى رنين إسمك الباهر ثم اهتز كياني كله حين أتيت وجلست بالقرب مني.

الآن حدث الشيء نفسه. طلب مني المعلم أن أذكر إسمي الكامل ثم أشار إلي بالجلوس. لا أعرف إن كان هناك أحد من الطلاب اهتم بي أو اكترث للأمر كله. لا أعرف إن كان قلب أحد خفق أو أن خلايا جسمه رقصت. كان هناك مكان شاغر في الجهة اليمنى من الغرفة. لم يكن أمامي خيار سوى الذهاب إلى هناك والجلوس إلى جانب ذلك التلميذ، الذي لم يبدر منه أي رد فعل. جلست وأكمل المعلم الدرس الذي كان يشرحه.

جلست هناك وشعرت على الفور باليأس. بدا لي أنني سجنت وتهيأ لي أن التلاميذ يشاركونني السجن. هم نزلاء مثلي، مسجونون، بائسون. لم أر في وجه أي واحد منهم شيئاً يشدني إليه.

بدأ مشواري المؤلم في أن أكون في الصف وأصغي إلى المعلم دون أن أستوعب ما يقوله لأن ذهني وخيالي في مكان آخر. أخذت أتظاهر بأنني أصغي إلى المعلم وأسمع ما يقول وأفهم ما يشرح، ولكن في الحقيقة كنت، قلباً وقالباً، غائباً. كان جسدي في الصف وذهني عندك.

أنا أمام تحد كبير: أن أدرس وأنجح لكي أتمكن من الخروج من هذه الشرنقة والرحلة إلى مكان يقربني منك. فأنا سوف أبدأ رحلتي في البحث عنك من هنا. هذه السنة هي نهاية المرحلة الإعدادية وإن نجحت أصير في المرحلة الثانوية.

نفسيتي محطمة وأفكاري مشتتة والإمتحانات النهائية صعبة. أنا في مأزق كبير:  لا أحب المدرسة والدروس وفي الوقت نفسه يتعين علي أن أدرس وأنجح كي أستطيع البدء بمشوار البحث عنك.

أشعر بطعم لاذع في فمي، يشبه طعم الدم. نعم إنه دم. الدم الذي انبثق من شفتي التي أطبقت عليها بأسناني. هو طعم اليأس. إنه الدم المنساب من بركة الحزن الراكد في أعماقي.

أحياناً يسيطر علي شوق عارم للقامشلي، لبيتكم، للبشيرية، لمدرسة زكي الأرسوزي. لشارع الجسرين. أفكر أن أقوم وأذهب. أستعجل للوصول إلى الباب، باب بيتكم. سأقف أمامه وأناديكم بأعلى صوتي، واحداً واحداً: أولاً أنت ثم إيفون ثم بنيامين ثم إسحق ثم والدك ثم والدتك. سأمكث عند الباب. لن أتزحزح. سأجلس تحت عمود الكهرباء. سأفترش الأرض وأنام هناك في الليل.

لو تصدق يا عازار أنني في الفترة الأخيرة شرعت أقوم بأمور غريبة. أبحث، مثلاً، عن الأشياء التي رافقت وجودي معك، أحاول أن ألملم أي شيء يمكن العثور عليه، كيفما كان، أينما كان: راديو ترانزستور، مسجلة توشيبا، أشرطة سوني، الحمراء اللون (ستون دقيقة) والخضراء اللون (تسعون دقيقة)، مجلات سمير وميكي. القصص المصورة لتان تان. أشرطة سوني للمسجلات. أقلام حبر بارك وشيفر وأقلام ناشف بيك. علبة حبر بيلكان وعليها صورة البجع. أقلام الرصاص والممحاة، ذات الرائحة الزكية، والمبراة والمسطرة الخشبية والورقة الزرقاء التي كنا نضعها بين ورقتين بيضاويتين ونكتب على الورقة الأولى فتظهر الكتابة على الثانية أيضاً، تحتها، والورقة الثخينة ذات الوبر التي كنا نضعها على نقاط الحبر فتمتصها.

أعرف أنني لن أبقى هنا. سأترك هذه البلاد. إلى أين؟ إلى أي مكان يقربني منك. ستأتي اللحظة التي يصبح فيها سفري ضرورة، لهذا سأعمل ما بوسعي للمضي خطوة خطوة في هذا الطريق. البكالوريا، الجامعة، الدروس، الشهادات، هذه كلها وسائل في سبيل الغاية، تلك الغاية. لولا هذه الأمور لن تكون ثمة أية حجة يمكن أن تسعفني كي يرضى أهلي بأن أسافر.

ساعة الرحيل قادمة لا محالة ولكن إلى أن تأتي تلك اللحظة يتوجب علي أن أتكيف مع ما يحيط بي. أن أنخرط في التفاهات التي تخنقني. أن أتحايل عليها وعلى الزمن وعلى من حولي. أن أتظاهر بأني شخص جاد، طموح، أبذل كل جهودي من أجل مستقبل باهر لي. في الواقع لا يهمني المستقبل أبداً. لا يهمني النجاح في أي شيء. الجامعة ذريعة للخروج من الشرنقة والخوض في رحلة الألف ميل للوصول إليك. من المستحيل ألا ألتقيك لأن من المستحيل أن أعيش من دون أمل الوصول إليك حتى ولو في آخر يوم من عمري:

لا، لا، لا

لا فكرنا زمان يعاندنا
ولا أيام تقدر تبعدنا
وعشنا الحب بالأيام
وكل بكره فيه أحلام.

***

أحياناً أسأل نفسي: لماذا حدث معي كل هذا بعد أن التقيت بك؟ لماذا صرت مأخوذاً بك إلى هذا الحد؟ لماذا استوليتَ على كياني، روحاً وجسداً، واستعمرتني بلا رحمة؟ لماذا كل شيء فيك، منك، عنك، كان، ومازال، يشدني ويغمرني ويستوطنني؟ أهذا هو العشق؟ أي صنف من العشق؟ عشق إلهي أم بشري؟  عشق روحي أم حسي؟أهذا هو الحب؟ أي صنف من الحب؟ أهو وجد أم هوى أم غرام أم افتتان أم شغف أم مودة أم وله؟

لو سألني أحدهم: لماذا تحب عازار إلى هذا الحد؟ سأعجز عن العثور على جواب. هذا سؤال لا معنى له. كأن يسألني أحدهم: لماذا تتنفس؟ لماذا تعيش؟

***

أحاول أن أتذكر اللحظات الأخيرة من حياتي معك. كلماتك الأخيرة. حركاتك الأخيرة، ضحكتك الأخيرة. آخر لعبة بليارد، آخر لعبة بيبي فوت. آخر مرة تناولنا الطعام معاً. آخر مرة مشينا معاً. آخر مرة ركضنا معاً.

كذلك أحاول أن أتذكر اللحظات الأخيرة من حياتي مع أهلك، أي مع أهلي. مع إيفون، مع بنيامين. مع الوالدة (والدتك التي هي والدتي)، مع الوالد (والدك الذي هو والدي). الكلمات الأخيرة التي تبادلناها، المصافحات الأخيرة، الدعوات الأخيرة.

في الواقع لم يكن هناك أخير، فقد كان الأفق مفتوحاً إلى النهاية. لم نكن ننتهي. لم نكن نرتوي، لم نكن نهدأ. لم نضع نقطة النهاية على أي سطر. كل شيء كان فصلاً من فصول حياة مستمرة. كنا نتكلم، نروي، نسرد، كما لو لأننا في كتاب ألف ليلة وليلة. وكنا نفترق على مضض. كنا نفترق كي نتهيأ للقاء التالي.

كنت أغادرك جسداً فيما ذهني وقلبي وروحي وخيالي عندك. كنت أنتظر بزوغ الفجر في اليوم التالي وكأن دهراً انصرم منذ تركتك مساء أمس.

كنتَ بالنسبة لي كالشمس: لم يكن الغروب كما عند كل الناس حين تغيب الشمس التي في السماء، بل حين كنتَ تغيب أنت عن ناظري. ولم يكن الشروق حين تطلع الشمس في الفجر بل حين كنت تطل أنت.

لم أطرح يوماً على نفسي سؤالاً عن ماهيتك بالنسبة لي: أأنت صديقي أم أخي أم حبيبي أم رفيقي أم زميلي. بالنسبة لي كان يكفي أن تكون معي، أن تكون لي، بما لا يستدعي أي سؤال. لا يستدعي الأمر أن يسأل المرء نفسه إن كان قلبه هو قلبه. كنتَ قلبي ولهذا كان طبيعياً أن أسمع نبضاتك في صدري. كان طبيعياً أن تسكن كياني، أن تقيم في روحي.

كان وجودي معك، ومع أهلك، هو عالمي الذي يغنيني عن أي عالم آخر. وفي حين يسعى الناس إلى تغيير واقعهم ويسعون إلى الإتيان بما هو جديد كنت أحاول بكل قوتي أن أحافظ على وضعي. حياتي معكم كانت غايتي القصوى. لم يكن هناك عيش أرقى وأنبل من وجودي معك، معكم.

مازلت أتشبث بتلك اللحظات كما لو كانت قائمة الآن. كما لو أنني أعيشها. أرفض أن أصدق أنها انتهت. أرفض أن أعترف أن الزمن محا كل شيء. أرفض أن أستسلم للواقع وأتعايش مع مجراه. أرفض كل ذلك لأن نبضات قلبي مازالت تخفق بقوة مثلما كانت تفعل عند رؤيتك. لأن الدم مازال يجري في عروقي بقوة  مثلما كان يفعل حين كنت أسير برفقتك.

***

كاتب مقيم في النرويج

[email protected]

SHARE