مقطع من رواية “حياة كاملة” للكاتب النمساوي روبرت زيتالر، ترجمة ليندا حسين

مشى أندرياس إيجر مئات الأمتار الأخيرة نازلاً باتجاه القرية ليبثَّ الدفءَ في روحه الغارقة في الذعر بصحنٍ من الفطائر المُحلّاة الدّسمة وكأسٍ من الكراوترر* المنزلي في نزل “الشمواه الذهبي”. وجد لنفسه مكاناً بجانب الموقد الحجري مباشرة، وضع يديه على الطاولة، وأحس مجدداً بالدم الدافئ يجري ببطء في أصابعه. كان باب الموقد الصغير مفتوحاً، وبداخله كانت النار تطقطق. لوهلة قصيرة خيّل إليه أنه يرى وسط اللهب وجه راعي الماعز محدّقاً به بلا حراك. أغلق فتحة الموقد بسرعة، وتجرع شرابه مغلقاً عينيه بإحكام. عندما فتح عينيه ثانية كانت تقف أمامه امرأة شابة. كانت تقف هناك فقط، يداها على خصرها، محدقة به. كان شعرها قصيراً، أشقر فاتحاً، وقد تورّدت بشرتها واتّقدت في دفء الموقد. هذا المشهد جعل إيجر يتذكر صغار الخنازير حديثة الولادة، والتي كان يرفعها عن القش عندما كان فتىً ليدفن وجهه في بطونها الطرية التي تفوح منها روائح التراب والحليب وروث الخنازير. نظر نحو الأسفل إلى يديه. بدتا له فجأة غريبتين. بالطريقة التي تسترخيان بها هناك، بدتا ثقيلتين، وعديمتي الفائدة، وغبيتين.

“واحداً آخر؟”، سألته المرأة الشابة، وإيجر هز رأسه موافقاً. أحضرتْ كأساً جديدةً، وعندما انحنت إلى الأمام لتضعها على الطاولة، لمست ذراعَهُ بطيّةِ قميصِها. ورغم أن لمْسَتها بالكاد يُحَسُّ بها، إلا أنها خلّفت وجعاً خفيفاً، بدا أنه يحفر عميقاً في لحمه مع كل ثانية تمرّ. نظر إليها، وابتسمت.
ظل أندرياس إيجر طوال حياته يعاود التفكير بهذه النظرة، بهذه الابتسامة القصيرة بعد ظهر ذلك اليوم، أمام موقد النزل الذي كان يطقطق بصوت خافت. لاحقاً عندما خرج إلى الهواء الطلق، كان الثلج قد توقف. كان الجو بارداً والهواء نظيفاً، وبقايا الضباب تزحف إلى أعالي الجبال التي كانت قممُها قد بدأت تتوهّج في ضوء الشمس. ترك إيجر القرية وراءه، واتجه نحو بيته خائضاً في الثلج العميق. كانت مجموعةٌ من الأولاد تلعب عند الجدول الجبلي أسفلَ الجسر الخشبي الصغير ببضعة أمتار. كانوا قد ألقوا حقائبهم المدرسية في الثلج، وبدأوا بالتسلّق من مكان إلى مكان في مجرى الجدول. بعضُهم كان يتزحلق على مؤخرته فوق المجرى المائي المتجمّد، بينما أخذ بعضُهم الآخرُ يزحف فوق الجليد على أربعٍ ليصغي إلى القرقرة الخفيضة تحتَه. عندما اكتشفوا وجودَ إيجر تجمهروا وراحوا يصيحون: “أعرج! أعرج!” دوّى صوتُهم في الهواء الزجاجي واضحاً وصافياً كصرخات النسور الفتية التي كانت تحوم فوق الوادي على علوّ مرتفع، والتي كانت تلتقط ظباءَ الشمواه من الصدوع التي سقطتْ بها، والعنزاتِ من المراعي. “أعرج! أعرج!” أنزل إيجر الحمالة الخشبية، كسر قطعة من الجليد بحجم قبضة اليد من ضفة الجدول المائلة، رفعها بيده عالياً وقذفها باتجاههم. كانت تسديدته أعلى كثيراً من الهدف، فحلّقتْ قطعةُ الثلج على ارتفاع فوق رؤوس الأطفال. في أعلى نقطةٍ من خطِّ طيرانِها بدَتْ للحظةٍ وكأنها ستبقى معلّقةً هناك في الأعلى، كجرمٍ سماويٍّ صغير يلمع في ضوء الشمس. ثم هوت نازلة واختفت بصمت في ظلال أشجار التنوب الغارقة في الثلج.
بعد ثلاثة أشهر، كان إيجر يجلس على جذع شجرة في تلك البقعة تماماً، مراقباً سحابةَ غبارٍ مصفرّةٍ، تلقي بظلالها على مدخل الوادي، انبثقَتْ عنها بعد قليلٍ فرقُ البناء التابعةِ لشركة بيترمان وأبناؤه والمكوَّنة من مئتين وستين عاملاً، واثني عشر ميكانيكياً، وأربعة مهندسين، وسبعة طباخين طليان، وعددٍ قليلٍ من موظفين مساعدين بلا اختصاصات محدَّدة، وأخذتْ تقتربُ من القرية. من بعيد بدت المجموعة كقطيع ضخم من الماشية، لم يكن ممكناً للمرء إلا بتضييق عينيه قليلاً أن يميّز هنا وهناك يداً ممدودة نحو الأعلى أو معوَلاً معلَّقاً على الكتف. لم تكن هذه المجموعةُ سوى طليعة قافلةٍ من عرباتٍ تجرّها الخيول وشاحناتٍ محمّلةٍ بعدّةٍ ثقيلةٍ، وآلاتٍ، وعوارض فولاذيةٍ، وإسمنتٍ، وموادّ بناءٍ أخرى، كانت تتحرك بسرعةِ المشيِ الاعتياديِّ فوق الطريقِ الترابية. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتردد فيها صدى الهدير العميق لمحركات الديزل في الوادي. وقف السكان المحليون صامتين على جانب الطريق إلى أن قامَ المزارعُ العجوز جوزيف ماليتزر فجأة بانتزاعِ قبعتِه المصنوعةِ من اللباد عن رأسه، ورماها عالياً في الهواء مطلقاً صيحةَ فرح. هنا بدأ الآخرون أيضاَ يطلقون صيحات الفرح، ويهتفون بصوت عالٍ، ويصرخون. منذ أسابيع والمرءُ يتوقّعُ بدءَ الربيعِ ووصولَ فريقِ البناء معه. كان سيتمُّ إنشاءُ تلفريك، تلفريك معلّقٍ، يعملُ بالتيار الكهربائي المستمر، في عرباته الخشبية ذاتِ اللونِ الأزرق الفاتح، سيطوفُ الناسُ صاعدين الجبل، وسيستمتعون بإطلالة بانورامية على كامل الوادي. كان مشروعاً ضخماً، حيث ستُشقُّ السماءُ بكابلاتٍ طولُها يقاربُ الألفي متر، سماكتُها خمسةٌ وعشرون ميلليمتراً، وتتشابك فيما بينها مثل الأفاعي عند التزاوج. كان هناك فَرْقٌ في الارتفاعِ بمقدارِ ألفٍ وثلاثمائةِ متر ينبغي التغلبُ عليه، وصدوعٌ ينبغي تجسيرها، ونتوءاتٌ صخريةٌ يجب تفجيرها. مع التلفريك كانت الكهرباء ستأتي أيضاً إلى الوادي. عبر كابلات تئز كان التيارُ الكهربائي سيتدفق، والشوارعُ والحجراتُ والإسطبلاتُ ستتوهج بالضوء الدافئ حتى في الليل. كان الناسُ يفكرون في كل هذا، وفي أشياء أخرى كثيرةٍ، عندما راحوا يرمون قبّعاتِهم، ويطلقون صيحاتِ فرحِهم على الملأ. ودَّ إيجر لو يهتف معهم، إلا أنه لسبب ما بقي جالساً على جذع شجرته. كان يشعر بالغَمّ من دون أن يعرف لماذا. ربما كان لهذا علاقةٌ بطقطقةِ المحركاتِ التي ملأت الوادي فجأة، والتي لم يكن المرء ليعرف متى ستختفي ثانية. أو إذا ما كانت أساساً ستختفي ثانية. بقي إيجر جالساً هكذا لفترة، لكنه لم يستطع التحمل أكثر من ذلك. فقفز من مكانه، ونزل راكضاً، وانضم إلى الآخرين على جانب الطريق، حيث أخذ يصرخُ، ويهتفُ فرَحاً، بأعلى ما استطاع.

ترجمة عن الألمانية: ليندا حسين

* مشروب روحي منكه بالأعشاب والبهار

روبرت زيتالر

عن المؤلف:
روبرت زيتالر روائي وسناريست ولد في فيينا 1966، ويعيش حالياً بين برلين وفيينا. عمل ممثلاً في العديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية وأدى أدواراً في أعمال مسرحية عرضت في النمسا وألمانيا. نال العديد من الجوائز الأدبية كان آخرها جائزة آنطون-فيلدجانس الأدبية النمساوية وقد سبق أن حصل على هذه الجائزة عدد من الكتاب النمساويين الكبار مثل إينجبورج باخمان وتوماس بيرنهارد.
وصلت روايته “بائع التبغ” إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وترجمت إلى لغات عديدة. أما روايته الأخيرة الساحرة “حياة كاملة” فقد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر 2016، ونالت نجاحاً جماهيريا ونقدياً كبيراً، وترجمت حتى اليوم إلى أكثر من ثلاثين لغة. صدرت قبل فترة قصيرة الترجمة العربية لرواية “حياة كاملة” عن “دار التنوير” صاحبة الحقوق العربية للرواية، والمقطع المنشور في كيكا ينشر بالاتفاق مع الدار.

ليندا حسين كاتبة سورية مقيمة في دمشق
[email protected]

SHARE