ليست كل القصص قابلة لأن تُروى. لذلك سأرويها وكأنني لا أروي.

“يفتح ذراعيه للريح، اليوم هو حُرّ؛ لقد خرج من رحم أمه”. لم يكن يدرك ساعتها أنه يدخل السجن الأكبر. ويعرف الآن أن الإدراك أول الخطوات نحو المعتقل؛ معتقل العقل في عالم لا يعترف به.
يقضي الفترة الأخيرة من المرحلة الوسطى من حياته في محاولات التحول إلى قرد. لقد أدرك أن للقرد حظ أوفر في مجتمعه، كانت الصعوبة في البدايات؛ كيف يتعلم القفز والتسلق. لطالما عُرف بحركته البطيئة. في المرحلة الأولى من حياته، والتي يحلو له أن يسميها مرحلة الايمان والتوق والانتباه للإشارات والقبض على الاشراقات، في تلك المرحلة كان يسير متلكئاً. يمشي ببطء بحثاً عن المغزى. كان كل مشهد محطة مستَحِقة للدهشة. يأخذ وقته في تأملها، ويشير إليها للآخرين، لم يكن حينها ينتبه أن الآخرين منشغلين بالقفز والتسلق وأن لا أحد يمتلك الفراغ الكافي ليتأمل معه. رسم لوحات كثيرة في مخيلته، ملونه مليئة بالمعنى، بالرسائل، لوحات ظلت في مخيلته، فلم يرها أحد معه. والآن يتساءل على أعتاب الفترة الأخيرة من المرحلة الوسطى- مرحلة القرد- هل كان يجب للحياة أن يراها غيرك معك لكي تكون؟.
القفز أخذ منه وقتاً حتى أتقنه، ثم صار يتقافز كمن ولدته أمه قرداً، ونسي كل مشاهد التلكؤ، أو هكذا ظن في حينها. التحدي كان في اتقان التسلق، فقد كانت كل القامات زلِقه. اضطر في خطوة قردية احترافية لم يتوقعها من نفسه أن يغرز في قدميه المسامير الثقيلة الحادة كي تثبّته عند التسلق، وهكذا تسبب في إدماء الكثيرين، ليستقبله عالم القرود بحفاوة الانضمام المجيد. ما ظل يزعجه رغم الحفاوة أنه لم يستطع أن يشعر أنه ملكاً متوجاً مثل أسد، إذ كان عليه طوال الوقت أن يظل في وضع القرد، والا سيهوى، ولم يكن يريد أن يهوي، حتى استيقظ في صباح أحد الأيام، انتبه لذيل القرد يلوح خلفه كسوط تعذيب، وأدرك أنه في الهاوية، وأنه حين كان يتسلق كان فقط يتجه للأسفل.
الآن في الفترة الأخيرة من المرحلة القردية أصبح لا يخرج كثيراً خجلاً من ذيله. لم يكن أحد ليفطن إليه لو خرج به؛ فللكل ذيول مثله، لكنه كان قد رآه، وإذا رأى القرد ذيله انكشفت عورته.
صار ينتعل أحذية ثقيلة ذات عنق طويل يمكن أن تعيده لمشيه البطيء، صار يريد أن يعود لأن يرى المشهد، وإن بدهشة أقل. ويرتدي معاطف ثقيلة، ليهدئ رجفة البرد في قلبه، فالقرد إذا رأى ذيله تجمد قلبه. كان يريد أن يُذيب الجليد في قلبه ليعود إلى مرسمه الحر في عقله.
في الفترة الأولى من المرحلة النهائية-مرحلة العودة والرحيل- يسير متثاقلاً منتبهاً لخطواته، محنياً رأسه، كي لا يرى القرود تتقافز حوله فينفر ذيله منه على حين غفله، يسير بتروٍّ ضامّاً قلبه في معطفه، واضعاً يديه في جيوبه إغلاقاً لأبواب الريح. كان يحاول أن يستعيد الألوان في لوحات عقله التي عبثت بها القرود وأحالتها لمكبّ نفاياتٍ برائحةٍ نتنة؛ رائحة لم يكن يشمها أحد، لكن القرد إذا رأى ذيله شمّ نتانته.
في الفترة الأخيرة من المرحلة النهائية كان قد تخلص من روائح مكب النفايات القردية؛ بفعل المشي الدؤوب نحو البحر. واستعاد ألق الألوان في لوحات عقله، وإن بدرجة أهدأ. وفي نزهاته اليومية صار يمشي ببطء الخفّة كما كان في مرحلة اليقين، متأملاً في سير المشهد بارتياح العارف. ليرحل أخيراً إنساناً قد سقط ذيله حين أمتلك في يومٍ بصيرة كافية لكي يراه.