شاعرٌ مدفون تحت جسر الجمهورية
لستُ أدري.
حذاري أن تسألني هذا السؤال مرةً أخرى
شاعر مدفون تحت جسر الجمهورية

غاصتْ في النهر حتى كادت أن تلمس قاعهُ. لكنها صعدتْ مرةً أخرى، ورفعها تيارٌ جارفٌ. كان التيارُ بارداً وغاضباً. والموجاتُ تتعارك لكي تُسرع وتتلاشى. وما أن هدأ النهرُ في ساعات النهار حتى طفتْ الجثةُ ساعةً ثم مكثتْ بين سيقان القصب. كبرت ليلتها الأولى في النهر و أصبحت غابةً موحشةً، تغزوها الديدانُ و الحشرات و تتربصُ بين اشجارها عيونُ الوحوش الضارية. النهرُ ليس سراً أو أعجوبةً، ما أن يستقبل جثةً ضائعةً يبتسمُ لها ويُخبئها في ثوبهِ الفضفاض الرحيب. في الليل، جاءت سمكة البوري و دغدغت الذراع العارية ثم هربت بعيداً. ثم جاءت جثةٌ صبي في السادسة عشرة من الضفة الأخرى ودارت حول جثة صباغ الأحذية. وجه الصبي ابيضٌ ذابل وفيه اثر ابتسامة قديمة وفي الرقبة ثقب رصاصة، فقد مضى على وجوده في القاع يومان أو ثلاثة أيام. انحدرتْ مع التيار الرقراق جثةَ فتاةٍ عاريةٍ، لا أثرَ فيها لرصاصة أو طبع أصابع حول الرقبة. ارتطمت بالجثتين و سرعان ما لوّحت ذراعيها السائبتين و ساقيها الصلبين، دارت حول نفسها كراقصة باليه ثم التصقت بالصبي. اضواءُ جسر الصرافية التي انسكبت على سطح الماء لوّنتْ شعفات القصب بلون الذهب و غسلت عتمة النهر بنورٍ أحمر كأنهُ خمر. تزعلُ الفتاة من عدم اكتراث الصبي بزائر النهر الجديد و هي تشير إلى صباغ الأحذية : لماذا يُغطي رأسهُ بهذا الكيس الأسود ؟ تَرَددَ الصبي قليلاً قبل أن يلتفت إلى الفتاة : يبدو نائماً، أو خائفاً من شيء ما. لمعَ شعرُ الفتاة الأشقر لمّا تحركت موجاتٌ سخيةٌ، قالت : أتظنهُ شاباً وسيماً أم شيخاً طاعناً ؟ ردّ الصبي بفتور : قميصهُ قذر و لونهُ باهت و سروالهُ الجينز ممزق من الركبتين و حذاءهُ بالٍ. أرى شعراتٌ بيض في صدره، إنهُ عجوز. هذا أكيد. احتباس الماء بين نصال القصب يرفع الجثث الثلاث برفق حتى تكاد تصعد إلى السطح ثم يسحبها قليلاً فتلامس هاماتها طبقة الأضواء الملونة التي صبغت وجه النهر. كانت ضفة النهر المظلمة تغري جثة صباغ الأحذية بالإفلات من حصار الجثتين الثرثارتين فيندفع مع قوة التيار الواهنة و كأنهُ ينزلقُ في وادٍ أسود. لمع حزنٌ شفيفٌ في عيني الفتاة و أنبّتْ الصبي على لا مبالاته بالضيف : انظر. إنهُ يبتعدُ عنا. اشعرُ بالخزي. هلم بنا نتبعه. نعتذر منه و نعيده إلينا. كانت ابتسامة الصبي تذوب : ابتعدي عنه، لا تذهبي وراءه. من يخفي وجهه بهذه الطريقة لا بدّ أن يكون سيئاً. قالت الفتاة : أنت جبان ! رفعت الموجات الصغيرة جثة الفتاة ثم دفعتها برفق نحو البقعة المظلمة. فترت همتها لمّا تعثرتْ بظلمة القاع الحالكة. ظلام النهر مراوغٌ و غدّار، لئيم ٌ، و لا يكترث لذعر فتاة غارقةٍ أو لخوفِ صبي يلوذُ بالقصب. عادت ادراجها، و بكت. قالت للصبي : لقد رحل. كأنهُ حلمٌ مرّ من هنا. لعلهُ سأمَ من عدم اكتراثنا. لم نحتفِ به كما يجب، نحنُ جاحدان. عادت الإبتسامة ترتسم في ثغر الصبي : لا أحب الغامضين ! إنهُ يختبىء في كيس أسود. ربما كان يضمر لنا شرّاً . تَعَلّمي، الغرباء خطرٌ و يجب الحذر منهم. لا تكترثي لآلامهم فهم مسكونون بالسوء.
وصلتْ جثة صباغ الأحذية إلى القاع و تدحرجت في الغرين فارتفعَ غبارٌ داكنٌ. كان التيارُ يعبثُ بها مثل كرة مطاطية. تنقلبُ على الوجه تارةً و على الظهر تارةً أخرى. المسافة التي قطعتها في قاع النهر طويلة، تنتهي في منحدرٍ عميق يشبهُ شلالاً عظيماً. لبثت الجثة في الهاوية ساعةً، يلوثها الطين حيناً ثم يغسلها التيار الجارف حيناً آخر. هناك، عند إلتواء النهر من جهة الكريعات، اغدقتْ فوانيس الشارع الطويل نوراً باهراً على سطح النهر. حتى الاسماك و الديدان و الثعابين قد خرجت إلى الضوء، اصدافها الفضية تتلألأ تحت وابل الدفء المنبعث مع هواء منتصف ليلة صيف. حفاوةٌ أخرى يُغدقها النهر على الجثة التائهة. دارت اسرابُ السمك حول جثة صباغ الاحذية، دوراتٌ كثيرةٌ تشبه حلقة بنات الحارات المحاذية للنهر حينما يلعبن في العصاري امام دكات البيوت الواطئة و هن يغنين ” هيلا يا رمانة ” أو ” شدّة يا ورد شدّة “. غيابُ القمر لم يعنِ للنهر أو حيواناته السعيدة شيئاً، لأن السكون يدورُ دورتهُ العادية في مثل هذا الوقت. ليلةٌ سخيةٌ. دفء و اضواء و صمت مطبق. طمأنينة لم يحظ بها النهر من قبل تسمحُ بمقدارٍ لا بأس به من البهجة لجثةٍ علقت في زوبعة اسماك.! يمكن أن تنتهي النزهة عند هذا الحد، بما أن الجثة التائهة ما زالت تضيقُ ذرعاً بالنهر و بجيوشه السعيدة. لكنها تدّخرُ ضجرها لوقتٍ آخر فحماسة الحيوانات في ذروتها و لم يحن وقت جوعها بعد. فكرة نهش لحمها في حفلةٍ متوحشةٍ تحت الماء غير ممكنة، فالأسماك تبدو مسالمة و الديدان الصغيرة تبحث دائماً عن مأوى تلوذُ به. العربيد الذي طرد الأسماك بعيداً لدغَ الجثة في خاصرتها. دار حولها دورتين ثم اختفى في الغرين. تبدلت ايقاعات النهر و تهشمت مراياه، تلك الغيوم الحبلى تتنكبُ كآبتها و تتدلى فوق المدينة كعناقيد مبهمة، ثمرها ملعون. مرّةً أخرى تجد جثة صباغ الأحذية نفسها وحيدةً، منبوذة، مأواها الأخير هو تيارٌ عابثٌ، يلهو بها كما يشاء. يسحلها من الضفةِ إلى الضفة الأخرى. يسلبها حق الموت الآمن في القاع أو بين سيقان القصب. بعد منتصف الليل تعالى صياح ديك سهران يأتي من بيوت الشواكة، ترحيبٌ مبكر بجثةٍ منفوخة قطعت المسافة بين جسري باب المعظم و الشهداء دفعةً واحدة و من دون توقف. البيوت المطلة على النهر لم تجزل ترحيبها كما يجب لكي لا تُنتهك طهارتها. انوارها مُطفأةٌ و ابوابها و شبابيكها مغلقةٌ، كأنها قلاعٌ شيدت عبثاً. موسيقى متعبة تتوهج من سطح بيتٍ ثملٍ تُصاحبها رائحة عرق لبناني ممزوجة برائحة لحم الغنم المشوي. لكن هذا التوهج الساحر سرعان ما تبخر ! غفلةٌ أخرى تنتهكُ وله الجثة بماضيها. فقد صار العبور أمراً حتمياً، مثل قانون طبيعي لا يتبدل. يجب أن تكون طوع أمر النهر و قوانينه الأبدية. أما الدفن بالقاع أو الزحف المتواصل نحو صدفةٍ يمكنُ أن تنتشلها إلى اليابسة. ربما اتخذت قرارها، لن تنزل إلى القاع ابداً ما دام التيارُ سخياً، يدفعها بحنو من دون أن يؤلمها. يدرأُ عنها خطر القوارض اللابدة في الأحراش أو تحرشات العرابيد المزعجة. ارتطمت بمرساة صدئة و نطحت قاعدة زورق خشبي لكنها كانت معبأة بعناد و إصرار على الإنحدار مع جريان النهر. بعد أن هبّتْ ريحٌ معطرةٌ بروائح ورد الرازقي و اوراق اشجار الليمون و السدر و الريحان، ارتفعَ التيار و اصبحَ بارداً. خيمةٌ زرقاء جثمتْ على القوارب المزدحمة بحذاء الضفتين، تحتفي بهبوب الريح، فتلهو القوارب، يُداعبها الماءُ فترتفع و تهبط على مهل، لكنها لا تعترض طريق جثة صباغ الاحذية التي مرت بها، يسحبها الماء الجاري مثل عربة قطار هارب.
لم تفتر همة الريح لكن سخطها بدأ يهدأ فهدهدت وجه النهر لكي يستريح و يمنح الجثة فرصةً أخيرة للنجاة و الخروج من ضراوته.
في صباح يومٍ عادي، استيقظ الناس. تغوطوا و استحمموا و افطروا. شربوا شاياً و حليباً، ثم خرجوا إلى الشوارع. يستنشقون هواءً ملوثاً. يبتسمون، يضحكون و يبكون. يُكبّرون و يكفرون و يأثمون. غرباء من ظهور غرباء. النسيانُ دائهم و دوائهم منذُ الآف السنين. يعبرون جسور المدينة إلى الصوبين من دون أن يفكروا بجثة صباغ أحذية، اعترضتْ طريقها كتلةٌ كونكريتية مطمورة هناك فعلقت بين فكيها. هبطتْ إلى قاع النهر بعد أن تعبت و رمتْ مرساتها تحت جسر الجمهورية.