
أمشي وأنادي الله. أرفع صوتي وعيني نحو السماء. أبكي وأقول إنني لم أمدَّ يدي إلى حفنة النقود خلف الميزان ولم أسرق شيئا. أعرف أن الله يسمعني، وسينقل كلامي إلى أذن أبي فيتأكد من براءتي ولن يضربني عندما يعود إلى البيت للغذاء.
بعد ساعة جاء. نظراتي ترفرف. قلبي بالون ينتفخ. مد يده الجبارة وجرني من عنقي. عصرني عصرا حتى خرجت عيناي ولم تعودا إلى محجريهما حتى أطلقني، ورماني في ركن منزو من مراح الكوخ وانفجرت يداه في وجهي ورجلاه في بطني وصدري. أمي تنحب في ركن وتتوسل إليه بالأولياء والصالحين، تتوسل إليه بالله؛ لم يستجب. كان يسب عروقها وعروق آبائها و”طاسيلتها”؛ كان يفتك بي.
لم يأت الله في تلك اللحظة؛ لم يسمعني إذن أو لم يكن في مكانه ليسمعني. لا يمكن له ألا يسمع أو يرى! قال لنا المعلم قبل أن تلفظني المدرسة إن الله يرى ويسمع كل شيء؛ يرى حتى ظل حبة رمل ويسمع حتى تنفس نملة. صرت أطلب منه أن يسامحني كلما سمعني أدعو على أبي أو رآني أُعوّج فمي غضبا منه؛ إذا كان يري ظل رملة ويسمع نملة فكيف لا يراني ويسمعني وأنا أكبر منهما؟
أطلب منه المسامحة عندما أمعس نملة تسعى في طريقها ولم تفعل لي شيئا. حتما كان الله يحبها ويساعدها في حمل قُوتِها فوسوس لي الشيطان أن أقتلها. قال الفقيه مرة وهو يلتهم الكسكس بالسمن ولحم البقر في بيتنا إن الله أمر سليمان أن يرحم النملة. لا أعرف غير سليمان الأحمق ابن جارتنا. يستحيل أن يقول له الله شيئا لأن الفقيه كان يكره أباه الذي كان لا يعطيه الشرط في آخر الشهر-أبوه بائع النخالة لا يصلي؛ أبي يقول إن الفقيه يعرف الله جيدا- لكني أعرف أن الله يغضب ممن يضر النملة.
صرت خرقة بالية. عندما تعب من سلخي، ارتمى غير بعيد عني غارقا في عرقه ولهاثه وسبابه. ارتميت مثل ورقة مبللة وتكومت على نفسي. لم أذرف ولو دمعة واحدة. كنت شيطانا صغيرا ولحمي اعتاد على الضرب -كثيرا ما قال لي إنني شيطان في جلد بشر لا ينفع معي كلام ولا “عصا”- نظرت إلى السقف فبدا لي الله بعيدا جدا.
كنت أقف وراء الميزان، ذلك الصباح، أبيع البطاطس والجزر واللفت والطماطم على عربة مدفوعة. أبي في الأمام يُستِّف البضاعة. أمد أصابعي وألتقط قطع النقود الصفراء الصغيرة. أدسها في جيبي قطعة قطعة وأنا أنظر إليه حتى لا يكشف ما أفعل. بعنا كثيرا وانهالت النقود الصغيرة والكبيرة خلف الميزان في صندوق صغير. انهالت الأوراق النقدية في جيب أبي.
بدأ الناس يقلون. اقتربنا من منتصف النهار ووقف بائع يبيع وراءنا بجانب أبي. وشوش له في أذنه وعيناه تعريانني. تبدل وجه أبي وبدت لي أذناه تستطيلان وعيناه تتأججان. انصرف الآخر ومد أبي يده يتحسس جيب سروالي ثم أدخل أصابعه وسحب النقود. لم يقل لي شيئا. أمرني أن أسبقه إلى البيت.
في الطريق إلى البيت قلت أنا بريء، الشيطان هو من وضع النقود في جيبي؛ جعل أصابعي تمتد وتلتقطها! ألعن الشيطان. لعنته مرارا عندما كان الجيران يشكونني لأبي فيعلقني من رجلي بحبل يتدلى من عارضة خشبية تشد السقف القصديري. يدي تسبقني وأنا أجري في الزقاق حافيا فتُسقِط سطل قمامة، تشد ثوبا معلقا على حبل غسيل فيسقط على أرضية الزقاق المبللة، تخبط بابا بقوة فيخرج صاحبه لاعنا مهددا. يداي مسكونتان بشيطان مجرم. سمعت الفقيه يقول إن الشيطان مجرم كبير، ابن الحرام عصى الله في الجنة ويوسوس للناس أن يفعلوا.
كان أبي لا يعتقني فآكل منه ما يأكل الطبل. يوما دخلت المرحاض القابع في وسط الساحة المتربة، دفعت أحد الأبواب. كنت أمسك بخرطومي الصغير وكانت متانتي ستنفجر وتدفق بولي مشرشرا. قهقه شيطاني وصوت أحد أبناء الجيران يلعلع في الظلمة والروائح الكاتمة للأنفاس. كأنني لم أسمع. كان قاعيا يفرغ مصارينه؛ كأنني صنبور ماء.
لم أكن أنا إذ فعلت ذلك، أقسم بالرب! أفرغت خرطومي فصرت حصاة صغيرة وخرج قلبي من مكانه وكدت أبكي. لم أعد إلى البيت. لجأت إلى بيت قريبة لنا في زقاق بعيد شيئا ما وقلت لها إن أبي كان يضرب أمي فخفت منه ولجأت إليهم. أخذتني “مّي السعدية” من يدي لتعود بي إلى البيت. توسلت إليها بالله أن تتركني أبيت عندهم، أخاف أن يعاقبني أبي إن علم أني أخبرتها بما فعل بأمي.
طبخَتْ في تلك الليلة كسكسا بلحم رأس البقر؛ أحب الكسكس لكن أحب لحم رأس البقر أكثر. صرت ملاكا صغيرا وفي الصباح بعدما أكلت معهم خبزا وزبدة وشايا وبعدما طرقت أمي الباب، صارت الحصاة أصغر ولعنت الشيطان ابن الحرام. جرتني أمي وعادت بي إلى البيت وأصابعها تلهب جلدي قَرْصا. حبستني في البيت وعندما جاء أبي بعد الظهر جعلني أكره الشيطان وأعد الله ألا أخرج من البيت مرة أخرى وأن أكون ملاكا دائما.
حتما سيقول الله لأبي إنني بريء فيرق قلبه ويسامحني. حتما لن يتكلم الله مع أبي مباشرة لكنه سيجعل أذنيه تلتقطان كلامي. سيجعل أذنيه تتسعان لتسمعا بوضوح ما أقول رغم أن بعض الباعة يصيحون على سلعهم بأعلى أصواتهم. بكيت قبل أن أصل إلى البيت؛ الله حنون وحتما سيرق قلبه لي… بكيت.
في البيت غسلت وجهي. أمي سألتني لمَ أتيت باكرا. قلت لها إن أبي أمرني أن أسبقه لا أدري لماذا. نظرت إلي ولوت ما بين حاجبيها؛ قالت لي سنرى. حركت رأسها وزمّت شفتيها ومطت فكها الأسفل واستأنفت أشغالها. تمددتُ أرضا وأرسلت عيني تثقبان السقف القصديري تبحثان عن الله عسى ألا تكون الغيوم في السماء تمنعه من رؤيتي وسماعي، أو يكون في مكان آخر ينقذ طفلا آخر امتدت يده لنقود أبيه، أو بال على ابن جيرانهم في المرحاض العمومي.