“لصيقي العزيـز” قصة للكاتب التونسي محمد فطومي

محمد فطومي قاص من تونس كيكا
محمد فطومي Mohamed Fattoumi

تستغرق الرّحلة وقتا طويلا. عندما أقطع نصف المسافة يبدو لي النّصف المتبقّي كما لو أنّ أحدهم يُبقي قارورة ماء ملآنة تحت الصّنبور. موكب الدّفن تقرّر على السّاعة الرّابعة مساء. أستبعد كثيرا فكرة أن أكون مخطأً. مؤكّد أنّي واثق تماما من سلامة الخبر، و إلاّ كيف حسمتُ أمري و أنا أستعدّ للنّوم دون أن تساورني الشّكوك حتّى مطلع الصّباح. الشكّ لا يغمض له جفن كما لا يخفى على أحد. ثُمّ إنّي لستُ سيّئ التّحصيل إلى هذا الحدّ. كلّ ما في الأمر أنّ النّظرة الفاحصة تُشعرني بأنّ رأسي امتلأ عن آخره. كما أنّي أكره التحوّل إلى كائن يعثر على العيوب ببساطة للوهلة الأولى كأنّه وضعها بنفسه. أي لو أنّ عليّ رتق ثوب أحمر لفعلت بخيط كما اتّفق متمنّيا في النهاية أن لا يبدو بشعا. ذلك يعني أنّي ارتبت في موته أصلا أو فيما إذا كانت الرّفات رفاته حقّا. حدّثت نفسي بكلّ هذا بعدما صرت على مقربة من المحطّة. لو امتدّ بي التّفكير في الأمر دقيقة أخرى لأحجمتُ عن الذّهاب و لاكتفيتُ بإرساليّة قصيرة حافلة بالقداسة و الأسى لكن لا يُفهم منها بوضوح موقفي من الورع و الحزن. لن يُجدي البتّة. فبعد قليل أتّخذ مكانا في سيّارة أجرة متّجها إلى العاصمة. لم يعد يجدي أبدا. صرتُ على متن الموجة.
إنّها العاشرة. عزّ الاحتمالات. كلّ شيء مُرجّح بحظوظ متساوية. قد أنطلق توّا كما قد أعود أدراجي. حالما تخطّيت بوابة المحطّة خطر لي أنّي أحبّ كلّ زاوية في حيّنا. حتّى مِكبّ الفضلات الذي اختار جيراني أن يكون أمام بيتي، و الذي أُجبرتُ في النّهاية على قبوله بقوّة المداومة، تراءى لي حميما كحيوان وديع. و إنّه حقّا لأمر يدعو إلى الغرابة أن أكون في حاجة إلى رباطة جأش رغم الحفلة التي وعدت بها رأسي بعد مراسم الدّفن. فقد وضعت خطّة لم أترك فيها شيئا للصدفة. أجريتُ ما يلزم من مكالمات لألتقي بعض الأصدقاء على السّاعة الخامسة. سنشرب و في الّليل سنأكل الخبز مغمّسا في الحساء، ثمّ سنحتسي القهوة و ندخّن الكثير من السّجائر.
سور المحطّة القصير غير المكتمل يعزل الجلبة في الدّاخل عمّا حولها. الصّوت الطّاغي كان للسّائق الذي سأمضي معه ثلاث ساعات بالتّمام. كان لصوته نغمة خاصّة و هو يهتف بالشّغور الواحد. بدا لي كأنّه يحاول إغراء النّاس بالذّهاب إلى العاصمة. ثمّ و أنا أسأله عن مربض السيّارة كست محيّاه ابتسامة لا تدلّ على سعادته بإخلاء الصّبرِ سبيله أخيرا بقدر ما لمّحت إلى أنّ نداءاته آتت أكلها.
المقاعد الخلفيّة خالية. جلستُ أقصى اليسار. لحسن الحظّ فإنّ السيّارة مُجهّزة بمسند للمرفق. بمحاذاة الباب عبّ شابّ نفسا أخيرا من سيجارته. نفث الدّخان خارجا ثمّ ارتمى بجانبي. لحقه آخر. لمّا أقفل السّائق الباب كنّا قد اتّخذنا وضعيّتنا النهائيّة. فتح مسافر في الأمام صحيفة فيما راح لصيقي يعبث بهاتفه الجوّال. انفراجة ساقيه كانت وقحة بصورة يصعب غضّ الطّرف عنها. كان هناك سنتيمتران على حسابي. تملّكني الغيظ. رويدا خلّف لديّ مغصا في معدتي. حاولتُ دفع ركبته بركبتي بيد أنّه أبدى مقاومة لم تتماشى مع هدوئه. حافظت على الضّغط لعلّي في لحظة ما نجحت في الوصول بنا إلى وضعيّة عادلة لكلينا. لم يكترث و لم تتحرّك ساقه مقدار أنملة. تظاهرتُ بالرّاحة في ذلك الوضع رغم عضلاتي المتشنّجة حتّى أثبت له أنّ الذي بجانبه لا يتنازل عن حقّه بسهولة.
تمكّنت منّي رعونته. كنتُ في كلّ مرّة أحاول زحزحة ساقه بركبتي تصدّى لي بقوّة كأنّي أقدمتُ على زحزحة حائط. أو كأنّي أدفع حيوانا حرنا. لم يول اهتماما لما يبدر منّي. و لم يكن بالمثل يبذل أيّ جهد لمنعي من افتكاك حصّتي من الكرامة.
كيف فاتني أن أسطّر الحدود التي ترضيني منذ البداية. كان عليّ أن أفعل ذلك قبل صعوده. لو فعلتُ لاختلف الأمر طبعا و لصرنا نتحدّث عن صمود لا عن خوض معركة ردّ اعتبار.
عندما قطعنا من المسافة ما يكفي لتبدأ طيور مالك الحزين بالظّهور على رؤوس أعمدة الكهرباء، أسند لصيقي رأسه و أغمض عينيه جاعلا هاتفه بين فخذيه. فكّرتُ أنّها سانحة ذهبيّة لأصل إلى انفراجة السّاقين التي أريد. لكن هذه المرّة قرّرتُ تغيير الطّريقة، و حدّثت نفسي أنّه من الأفضل دفع قدميه من الأسفل بقدمي زحفا مرتكزا مرّة على المشط و مرّة على القدم. لو نجحتُ في إبعاد قدمه مليمترات قليلة مؤكّد أنّ تأثيرها سيكون كبيرا على درجة ميلان ساقه. أراهن أنّ في وسعي إجباره على تعديل وضعيّته بما يناسبني، فقط لو أفلح في أن أحيد بقدمه وفق خطّ ميلان منحرف مقارنة بركبته. ربّما صبر بعض الكيلومترات لكنّه أبدا لن يصبر طويلا، حتما سيصبح الأمر مُضنيا مع مرور الوقت. لا معنى للوقت بمفرده أليس كذلك؟ ثمّة فقط مرور للوقت. الفرنسيون يشيرون به في صيغته المُجرّدة إلى الطّقس. يا للسّخرية. في وضعي هو كلب شرس سأطلقه على لصيقي عمّا قريب. فورا بدأتُ أدفع قدمه كما خطّطت لذلك. و دون سابق تفكير رحتُ أفسح لكتفي حيّزا تحت كتفه مُستفيدا من تقوّس الكرسيّ و نحافة كلينا. كان ذلك ضروريّا لأحمله على التنحّي إلى اليمين بحثا عن موطن مريح لكتفه الذي بات الآن مُعلّقا. كنتُ على نحو ما أقتلعه من مكانه كما تُحرّرُ أغطية علب الصّفيح المُسنّنة بملعقة. تململ، لكن عوض أن ينساق ناحية اليمين غاص بكتفه تحت كتفي غير معنيّ بالبطء الذي كلّفتُ به نفسي، و هكذا اضطررتُ لأسوّي جذعي مانحا إيّاه الفرصة كي يسند ظهره دون عائق. قلتُ : حسنا لم يذهب شيء سدى. لابدّ في الأخير أنّ الرّسالة قد وصلته بوضوح. استغرقت المحاولة شوطا لا بأس به من المسافة: عشرين كيلومترا إن لم أسأ التقدير.
انفراجة ساقيه مازالت تلوّح لي بخنقه. غمرني إحساس بأنّي على وشك فقداني لأعصابي. صوت في داخلي أشار عليّ بالتريّث و الارتخاء. أزحتُ السّتارة عن النّافذة بالكامل و استرسلتُ أشاهد المزارع و القرى و الجبال البعيدة. إلاّ أنّي سرعان ما فقدتُ الرّغبة في ذلك. أشحت عن النّافذة. حدّقتُ في رأس امرأة جالسة أمامي. كان كلّ شيء حولي شامتا بصورة تدعو إلى ارتكاب حماقة من النّوع الثّقيل. رغم ذلك استطعتُ السّيطرة على حماسي. ذاك الوحش السّاكن الوفيّ لصاحبه بدرجة لم أكن لأصدّقها. ساعدتني في ذلك فكرة خامرتني بأنّي لن أزيد الأمر سوى تأزّما لو أطعتُ حنقي و ربّما خسرت المزيد من السنتيمترات من يدري. الرويّة نصف الحكمة. لأفتكّ مجالي برويّة إذن. سأكمن لأوّل انحناء لساقه، من ثمّة أهجم. لن أنتهك شعرة واحدة داخل مجاله. ألقيتُ نظرة على الزّاوية التي ينعم بها على حسابي. تنفّستُ عميقا. اختبرتُ صلابة ساقه ثانيّة. مُتحجّرة كالعادة. خطر لي أن أعطس بعنف. أن أعطس عطسة مُفتعلة ترجّ كلينا. أن يهتزّ المرء و هو يعطس هذا خارج عن إرادته. أفاق لصيقي. ذاك أفضل لدهشة مضمونة النّتائج من جهته. حتما سيكون و هو مستيقظا أكثر قدرة على التماس الأعذار لي لو كلتُ له دفعة عنيفة فتّتت بها انفراجة ساقيه. ثانية واحدة ستكون كفيلة بأن تسمح لي بتركيز ساقي حيث أريد. بعد ذلك لن يظلّ أمامي سوى أن أستميت دفاعا عن مجالي الجديد. المشروع أقصد. تراجعتُ إلى الخلف استعدادا للعطس. في تلك الّلحظة غيّر السّائق محطّة الرّاديو ليتوقّف عند المقطع الذي تقول فيه ماجدة الرّمي: ذوّب في الفنجان قطعتين و في دمي ذوّب وردتين.. رمقتني المرأة الجالسة أمامي بنظرة سريعة مشحونة كأنّها تتأكّد من عدم انتباهي للمرأة التي تعرّت للتوّ وسط الفنجان. كان ذلك مُلهما إلى درجة أنّها أفسدت استعدادي للعطس. انتظرت برهة مكثتُ خلالها ساهما أحدّق في الطّريق عبر الفراغات التي أمامي.
بحذر اقتربت من لصيقي بخاصرتي حتّى أحسست بذراعي تلامس ضلوعه. خطّ التماسّ بيننا بات ملائما للعطس. جعلت راحتيَّ أمام وجهي و عطست مصوّبا اهتزازي كلّه ناحية ساقينا . لم تكن الفكرة سيّئة فقد أحرزت سنتيمترا ثمينا غير قابل للجدال. بقي هناك سنتيمتر مُغتَصب لستُ في غنى عنه. الاعتداء قائم في مُطلق الأحوال. كما أنّ التّوقيت مبكّر دائما إذا تعلّق الأمر باحتفال.
توقّفنا في استراحة المنتصف. نزلنا جميعا. توجّهتُ مباشرة نحو دورة المياه. كدتُ أصرف النّظر بسبب الطّابور الطّويل. كان عليّ تدارك ما فاتني القيام به في المحطّة. لحسن الحظّ أنّ لصيقي لم يلتحق بعد بمقعده لدى عودتي.
اتّخذت جلسة راعيتُ فيها تكافأ الحصص من انفراج الساقين لكلينا. لا ظالم و لا مظلوم. ثمّ همدتُ متيبّسا على تلك الحال في انتظار قدومه. قبل بالحصّة التي تركتها له. رغم ذلك ظللت أضغط بساقي على ساقه كأنّي أسدّ تدفّق ماء بإبهامي. سار كلّ شيء على ما يرام لأربعين كيلومترا تقريبا. خفّفت الضّغط تدريجيا مع المحافظة على حدودي. لم يحدث شيء في البداية لكن فجأة استدار بالتواءة خاطفة ناحية صندوق السيّارة خلفنا كما لو أنّه يتفقّد حقيبته أو ما شابه. في تلك اللّحظة مارس على ساقي ضغطا جعلني أعود إلى نقطة الصّفر. حاولتُ دفعه دون فائدة. قلت في نفسي لابأس هناك ألف وسيلة أخرى. فورا تظاهرتُ بنيّة دفع الأجرة للسّائق. رفعت مؤخّرتي و تصلّبتُ كخشبة لأسمح ليدي بالعبث في جيبي الخلفي بيسر، بعد ذلك رحتُ أجوس بيدي في جيبي الأيمن. و فعلا استطعت استرداد السنتيمترين. هنا شرع ينفض بنطلونه من جهة ساقينا كما نفعل عادة لإزالة بقعة مُعفّرة. ضرب بقوّة. تحرّكت ركبتي تحت تأثير ضرباته المُسدّدة بعناية. فكانت النّتيجة أن أعاد لساقيه انفراجها كأنّ شيئا لم يكن.
في الخارج تلوّنت السّهول بالّلون الأخضر، أضحى بالإمكان تمييز الرّطوبة. أخذتُ أسعل و أدفع ساقه بساقي في آن. استعدتُ سنتيمترا بهذه الطّريقة. و قرّرتُ أن لا أفرّط فيه مهما حصل. أسندتُ ساعديَّ إلى فخذيّ و رحتُ أضغط رويدا. أحصيت نقودي. تظاهرتُ بأنّها منقوصة. فكّرتُ أنّ ذلك سيجلب لي تعاطفا من جهته يجعله يفسح لي ما شئت من حيّز. دفنت يدي في جيبي الأيمن و أخذت ألهو بمفاتيحي مُحدثا رنينا . انزاح لصيقي قليلا إلى اليمين. اغتنمت الفرصة لأهوي على ركبته بركبتي و أنا أصدر فحيحا خافتا جدّا بشفتين مُطبقتين و تركيز تامّ. قاومَتْ ساقُه بشدّة كأنّه هدّدها بأمر يرعبها. واصلتُ إزعاجه. راودتي حدس بأنّي لو استمرّيتُ لاستسلم في الأخير. عند مدخل الضّاحية الجنونيّة لاحظتُ أنّ في استطاعتي صنع خواطر وحشيّة قادرة على إحراق ركبته. رفع رأسه و يده كما لو أنّه يطلب الكلمة. قال : أنزلني هنا أرجوك. برشاقة قفز خارجا. أقفر المقعد بجانبي. تأبّط حقيبة ظهره. سلك منحدرا إسمنتيا حادّا مُخلّفا إيّاي بلا هدف في الحياة.

15/09/2016

 

 

[email protected]

 

SHARE