
لم يسألني أبي في يوم من الأيام، السؤال الذي كثيرا ما يطرحه الآباء على ابنائهم وبناتهم: «ماذا تحلمين أن تكوني في المستقبل؟». كذلك أمي لم تطرح عليّ هذا السؤال. كنت الطفلة الأخيرة، التي أنجباها بعد خمس إناث وذكر وحيد. شاب وحيد وست فتيات لأبوين فقيرين أميين، يعيشون في بيت مكون من غرفتين من حجر وطين، في بلدة الرمثا في شمال الأردن. وككل القرى والمدن العربية، كان أهل هذه البلدة، ولا يزالون، لا يباركون لمن يرزق ببنت، بل يعزّونه مواسين: « كل ما يعطيه الله خير».
لم يسألني أبي ولا أمي ، كما لم يسألا أية من أخواتي الخمس قبلي، حول مستقبلنا. المستقبل الوحيد والكريم الذي كان في متناول الواقع، ولا يلوح غيره في أفق أية فتاة في البلدة، هو العثور لها على زوج يسترها. كان هذا المستقبل يتحول في صلوات أمي وأبي، إلى كلمات متذرعة بتذلل إلى الله، يحاولان فيها بلوغ أقاصي الحلم، بأن يكون هذا الزوج مقتدرا، رحيما وعطوفا.
لم تشذ أختاي الكبيرتان لا عن سياق أعراف البلدة، وإرثها الثقافي والاجتماعي، ولا عن أحلام والديّ. تزوجتا دون أن تكملا تعليمهما، ما إن طرق بابنا ابنا حلال. أما نحن، الأربعة الأصغر سنا منهما، فصممنا على إكمال تعليمنا، في أول فعل ينتمي إلى مساحة التمرد.
لطالما بدت لي الحياة البشرية نصا جدليا، ينتج فيه الإنسان واقعه ويؤلفه، مثلما يعيد فيه هذا الواقع أنتاج الإنسان وتأليفه. إنهما يلعبان معا دور المؤلِف والمؤلَف. فبينما ينتج الإنسان المنظومات الفكرية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية، فإن حياته تظل مرهونة بسياق هذه المنظومات. في عالمنا العربي لا يرتهن الإنسان لهذه المنظومات وحسب، بل إنها تضطهده أيضا، وتحد من تطور وانفتاح رؤاه الفكرية، وتجعله مقيدا في سلاسل من الأوهام والمخاوف، فلا يرى مفرا من الخنوع والرضوخ. إنه نص محكوم فيه على الإنسان العربي بالنقصان، سواء أمام الله الذي قرر مصيره سلفا، أو أمام مجتمع قبلي تحول إلى كيان سياسي اقتصادي يبدو مدنيا من حيث الشكل، إنما من دون أن يتخلى عن مفاهيمه وبنية عقله القبلية والأبوية الذكورية.
إن هذه المعادلة الجدلية التي يعيد فيها كل من الواقع الموضوعي والإنسان انتاج أحدهاما للآخر، هي معادلة بشرية عامة. وهي مرتبطة بتكوين الإنسان السيكولوجي والغرائزي وصراعه من أجل البقاء، وصراعاته الطبقية، وأسئلته الوجودية والفلسفية. غير أن الواقع العربي له خصوصية ناتجة عن ارتهانه للدين وللإرث التاريخي والثقافي وللإستعمار. في ظل هذه الخصوصية، تحيا المرأة العربية في نص آخر، هو نص نقصانها كأنثى. إنه سجنها الأضيق، القائم في داخل السجن الأوسع قليلا لمجتمعها.
كيف بوسعنا أن نتمرد على هذين النصين المقررين لنا سلفا، ومطلوب منا أن نؤدي وحسب الأدوار المرسومة لنا فيهما: النص الذي يكبل المجتمع، والنص الأصغر الذي يكبل المرأة؟ ربما لم نطرح هذا السؤال على أنفسنا، نحن الأخوات الأربع، في تلك العائلة الفقيرة، بهذه الصيغة الواضحة. غير أننا عثرنا على إجابة له، لا عبر الصدام المباشر مع المحيط، بل أولا عبر امتلاك الأدوات المتاحة التي تؤهلنا للدخول في هذا الصراع: التفوق في الدراسة من أجل الحصول على منح جامعية، كخطوة أولى في استرداد ال «أنا» الإنسانية، التي ينظر إليها الجميع كذات منقوصة، لأسباب محض جندرية .
بحصول أكبرنا، نحن الأربعة، على منحة للدراسة في الجامعة ومن ثم حصول الأصغر منها على منحة أيضا، بدأت الكتب تدخل بيتنا.
بدت هذه الكتب كضيف غريب قادم من عالم آخر، لا ينتمي لعالم البلدة، ولا لهوائها الساخن، أو لساعات ظهيرتها الهامدة، التي يطغى عليها طنين الذباب كمظهر آخر من مظاهر الملل والركود. لا ينتمي للناس الذين يحمدون الله صباحا ومساء على كل المصائب التي تلم بهم، ولا يكفون عن طلب المغفرة عن ذنوب، يعجزون عن عدم ارتكابها. ضيف كان قادما من عالم كانت فيه الكلمات والمفاهيم تحمل معان جديدة لم نعهدها من قبل. كتب في الأدب، والشعر والفكر. عالم من كلمات يمنح آمالا ثمينة بالتغيير والعدل والمساواة.
حينما ازداد عدد الكتب في تلك الغرفتين الطينيتين، اشترت إحدى أخواتي من مخصصات منحتها الدراسية خزانة للكتب. رفوف معدنية رخيصة. لقد أمضينا أنا وأختي التي تكبرني قليلا، في الصاق ورق لاصق على قضبانها ورفوفها، له لون الخشب. وعلى الرغم من تغضنات الزوايا وميلان الخطوط، والرقع التي اضطررنا لوضعها كي نخفي فراغا هنا أو هناك، رأيناها، بعد أن صففنا الكتب على رفوفها، مكتبة من خشب، مثلما كنّا نرى واقعنا بعد أن نلصق عليه آمالنا، فيظهر أقل وحشة وقسوة، وقابلا للنظر.
وهكذا بدأت أغرق في كل يوم لساعات في روايات أميلي، وشارلوت برونتي، وبؤساء فيكتور هيغو. أتوه مع أطفال ديكنز المشردين في مدن ذات أزقة معتمه وقذرة… الخ من عوالم بعيدة، تبين لي أن الإنسان فيها، مضطهد ومعذب أيضا، مثلنا، وإن بأشكال أخرى. لكنني في تلك الفترة من صباي لم أستطع قراءة «مائة عام من العزلة» لماركيز، ولا الأخوة كارامازوف لدستويفسكي. هاتان الروايتان اللتان سأقرأهما في المستقبل مرات ومرات بمتعة ودهشة لا تنضبان. ربما كان عمري خمسة عشر عاما حينما قررت قراءتهما للمرة الأولى. شعرت بالعذاب ومللت وبقيت أكابر وأعد الصفحات، إلى أن اغلقت الكتاب الأول، ثم الثاني، ذات لحظتين، وارسلت قراءتهما إلى الجحيم. بعد ذلك بوقت قصير امتدت يدي لتتناول من المكتبة كتيب مختصر في الفلسفة الماركسية ـ المادية الجدلية والمادية التاريخية ـ . ضحكت أختي، طالبة الجامعة، مني قائلة إن من المبكر لي قراءته. لعل سخريتها كانت سببا لأن أورط نفسي بقرائته، في تحد لا أعرف إن كنت أهلا له. شيئا فشيئا، وأنا أعيد قراءة الفقرات، بدأت التقط المنطق الذي يستند إليه في تفسير الطبيعة والتاريخ، وقوانين صراعيهما وتطورهما «الديالكتيكية» ـ الكلمة، غير العربية، التي تمرنت طويلا قبل أن أجيد لفظها، وفهمها. ربما كان فهمي ـ المبدئي ـ لذلك الكتاب مرتبطا بميولي العلمية. كنت أعشق مادتي الفيزياء والرياضيات، ومتفوقة فيهما، لدرجة أنني كنت حسمت أمري وما زلت في صفي التاسع: سأتخصص في الفيزياء وأصبح عالمة فيها. لكنني أحيانا كنت أنسل من المتعة الكبيرة في حل المعادلات والمسائل الفيزيائية والرياضية، إلى متعة أخرى. إلى دفتر سري لم أخبر أحدا بشأنه، أدون فيه خواطر أدبية عن إناس فقراء مظلومين. عن صوت دلف المياه من السقف في الآنية التي تضعها أمى إلى جانب فراشنا، حينما يهطل المطر. عن ارتعاد باب غرفتنا الطينية، عندما تعصف به الرياح، كأن وحشا ما يقف خلفه في الظلام، يهزه وسيقتحمه لا محالة بين اللحظة والأخرى. عن أشباح تعشعش بين عيدان قصب سقفه، وتجعلني أرتجف من شدة الرعب. أكتب في استجابة لحاجة ملحة وغامضة في الكتابة. في التقاط لحظات ما، وتفريغها على الورق. في التعبير عن رأي ما لي، كان وضع للتو على نهار هادئة، ويحتاج إلى زمن طويل كي ينضج. رأي تجاه هذا العالم الذي وجدت نفسي أعيش فيه، من دون أن أدري لماذا، سواء كانت هذا ال «لماذا» التي سأدرك فيما بعد أنها وجودية فلسفية، أو ال «لماذا » الحياتية: لماذا هنا تحديدا، في هذا المكان القاسي الذي ينظر فيه الناس للمرأة كذات منقوصة، لأنها أنثى، لاسيما اذا كانت تنتمي لعائلة فقيرة.
جلست أمي على الفرشة الممدودة على الأرض وشرعت تبكي، حينما رحت أعد نفسي للسفر. «أخشى أن لا أراك ثانية!». قالت لي عبر دموعها. كنت على خلاف باقي أخواتي، رفضت بعد إنهائي المدرسة، الموافقة على المنحة الدراسية التي حظيت بها للدراسة في إحدى الجامعات الأردنية، وصممت على الدراسة في الأتحاد السوفييتي، لأرى عن قرب الاشتراكية والعدالة والمساواة.
كنت بفخر، وهو فخر مراهق على كل حال، كتبت في الاستمارة التي كان يتوجب عليّ ملؤها في خانة التخصص: فيزياء. لم يكن في ذلك ثمة ما يدعو للفخر في نظر أمي أو كل من سمع بخياري. «لو تدرسين الهندسة أو الطب فتصبح هذه الغربة مبررة على الأقل!» ـ تقول لي أمي وهي تبكي. كانت مخاوفها مبررة، فالدراسة في الاتحاد السوفييتي كانت تعني انقطاع تام عن زيارة الوطن أثناء سنوات الدراسة. كان الطلاب الذين يعودون قبل أن يحملوا الشهادات في أياديهم، معرضين للاستجواب وحجز جوازات سفرهم من قبل جهاز المخابرات في الأردن إن لم يوافقوا على التعاون معه. كانت تلك إحدى الوسائل التي انتهجتها المخابرات في مكافحتها للتنظيمات السرية اليسارية التي تناضل من أجل الاشتراكية والعدالة في الأردن.
حطت قدمي على أرض مطار موسكو في أواسط ثمنينات القرن العشرين. في تلك الأيام كانت الأشتراكية تدخل في مرحلة سُمّيت بإعادة البناء ـ البيريسترويكا. تبين فيما بعد أن هذه البريسترويكا لم تكن في واقع الأمر سوى نعش، وضعت فيه الاشتراكية إحدى قدميها. وكان القائمون على تلك البيريسترويكا يستعجلون الوقت كي يضع النظام الاشتراكي قدمه الأخرى في النعش، ليحملوه بأطراف أياديهم، كما يُحمل كيس القمامة، ويدفنوه سريعا، دون جنازة وبلا وروود، أو شرائط سوداء، ودون أن يذرف الدموع احد.
في أولى هبّات تلك التغيرات العاصفة، وبعد أن أنهيت سنة اللغة في مدينة موسكو، انطفأ فجأة بريق الأحلام، وبدا لي حلم «باحثة في الفيزياء» مضحكا لشدة لاواقعيته. « في الوطن ليس ثمة مختبرات تُعني بأبحاث الفيزياء…الآن هناك انشغال حثيث بتعليم الدين، وبفتح مراكز لتحفيظ القرآن» ـ كنت اسمع ذلك من كثيرين، وكانوا محقين، خصوصا وأن الوقت لم ينمُ بعد ليرمي ملامح العالم الذي قدمت منه قبل عام وحسب، في غياهب النسيان. فجأة رأيت بوضوح، بعد أن زالت غشاوة الأوهام، ما سيؤول إليه مستقبلي لا محالة: سأعود إلى الأردن لأصبح معلمة أدرّس مادة الفيزياء. كان صدى خطب الجمعة لا يزال يعدو قادما من هناك، من مكان بات بعيدا وسنين قريبة ماضية، بأصوات عدائية شرسة. أصوات تقتحم نهارات أيام الجمعة، وتأمر الناس للنهوض فورا لدعم “أخواننا المجاهدين ” في أفغانستان، في حربهم المقدسة في الدفاع عن الله. كان ذلك في الوقت نفسه الذي كانت فيه إسرائيل تجتاح بيروت وترتكب فيها المجازر، بالإضافة إلى المجازر التي ترتكبها في فلسطين المحتلة.
إنه زمن الدفاع عن الله، لا عن الإنسان، ولا عن الأوطان، ولا عن العقل ولا عن الفلسفة، ولا عن العلوم، ولا عن الفيزياء بالتالي، التي كانت ـ وستظل كذلك لزمن طويل قادم ـ حبيسة مناهج، كل درس فيها ينتهي بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، تدحض القوانين الفيزيائية، إذا كانت ستدفع التلميذ لشك ما بالمسلمات.
غيرت تخصصي إلى الهندسة المدنية، على الأقل، كي تكون غربتي مبررة، كما اقترحت أمي. وانتقلت من موسكو على إثر ذلك، لدراسة الهندسة في مدينة بطرسبورغ، التي كانت آنداك تُسمى «لينينغراد».
لقد شدتني ذات يوم وأنا في سنتي الدراسية الأخيرة، الكتب الكثيرة المعروضة للبيع خلف الواجهة الزجاجية. توقفت أنظر إلى العناوين. دخلت إلى المكتبة التي تكتظ بالكتب، والرهبة تلفني، فأنا لم أقرأ من قبل كتابا ـ خارج سياق كتب الدراسة ـ باللغة الروسية. لا أعرف ما الذي دفعني لاختيار رواية للكاتب السوفييتي فالنتين راسبوتين، عنوانها «وداع مع الأم»، لتكون أول كتاب أدبي أقرر قراءته باللغة الروسية. كلمات عديدة وجديدة تواجهني في كل فقرة. تارة أبحث عن معناها في القاموس، وتارة أتكهن بالمعنى اعتمادا على السياق العام للجملة. قرأت الرواية ببطء وأنا أتابع بلهفة وتأثر شديدين قصة أم تحتضر، لكنها تقاوم الموت وترفضه، على أمل عودة أحد ابنائها الغائبين لتودعه قبل أن ينطفئ الضوء في عينيها إلى الأبد. لست أذكر الآن النهاية، لكنني أذكر أن هذه الرواية فتحت لي الباب، وشجعتني على قراءة الأدب الروسي باللغة الروسية. على مدار أعوام انغمست بالقراءة، بدءا من الأدب الكلاسيكي: بوشكين غوغل، تشيخوف، نيكراسوف، تورغينف…وآخرين عدة، ثم دستويفسكي. هذا الفيلسوف العظيم المهموم بإنقاذ روسيا، وبالكشف عن أرواح أناسها المعذبين. كان يغوص بروعة في التحليل السيكولوجي، ليس للشخصيات فقط بل للمجتمع كاملا، ولنظمه. ثم بدأت بقراءة الأدب السوفييتي: ايتماتوف، مارينا تسفيتافا، آنا آخماتوفا، يسينين ومايكوفسكي، غوركي… وأخرين، ثم ميخائيل بولغاكوف وسولجينيتسن .
كنت أقيم في لينيغراد، التي بات اسمها سانت بطرسبورغ. ثاني أهم مدينة روسية، فقد تزوجت من أحد ابناء بلدي، وقررنا البقاء فيها. كان الحلم الاشتراكي قد أنهار، بعد أن لفظ الاتحاد السوفييتي أنفاسه الأخيرة. وكنت أحتك على نحو يومي بالروس. اتابع وسائل الإعلام، وأقرأ الصحف. غير أنني أظن أن الأدب كان أداتي المعرفية في فهم الواقع والإنسان الروسيين، أكثر من الواقع نفسه ومن الصحف والإعلام. لطالما أدهشني ذلك التناول الشمولي للحياة في هذا الأدب، عبر النظر للإنسان لا كذات منفصلة بل كحصيلة اشتباك كل مكونات مجتمعه بعضها ببعض، من سياسية إلى اقتصادية إلى ثقافية واجتماعية. كان هذا الأدب مهموما ـ لاسيما أعمال دستويفسكي ـ بتفكيك هذا الواقع، الذي قاده ـ أي دستويفسكي ـ بالمحصلة لتناول السؤال السياسي، خصوصا في روايتيه العظيمتين الأخوة كارامازوف والشياطين. روايتان تتنبئان بما سيكون وتنتقدانه سلفا. الأمر ذاته الذي فعله أندري بيللي، وبولغاكوف وآخرون ومن ثم سولجينيتسن.
كنت أروح وأجيء في مدينة لم تعد غريبة عليّ، أعرف ناسها وطرقاتها، ولدي عائلة فيها وطفل عمره عامين. في خضم انفجار الفوضى والجريمة، وانهيار المؤسسات الحكومية، وانتشار البؤس والمتشردين الذين يبحثون في القمامة عن لقمة، كنت أجول بحثا عن فرصة للعمل في تخصصي الهندسة. «لقد بت مهندسة يا أمي، لكنني عاطلة عن العمل». كان صوتي يدوي بعيدا في أعماقي ولا يصل إليها.
باب غرفتي في السكن الطلابي مغلق، وأنا في الداخل أحضّر لمشروع التخرج. فجأة طرق أحدهم الباب. كان واحدا من أبناء بلدي. سلمني رسالة مرسلة إليه من قبل أهله. في الفقرة الأخيرة منها، أدركت السبب الذي دفعه لأن يعطيني إياها. ثمة خبر عن وفاة أمي. أمي أنا ماتت.
علمت فيما بعد أنها كانت تحتضر في الأيام ذاتها التي كنت أقرأ فيها رواية « وداع مع الأم» لراسبوتين. كنت على الدوام مادية وعلمية في تفكيري ولا أومن بالغيبيات، لكنني في تلك اللحظات عددت قراءتي لتلك الرواية بمثابة نداء غيبي من أمي أدركته متأخرة: «تعالي، دعيني أراك للمرة الأخيرة.». في الواقع كانت تردد: «احضروها لي، أريد أن أودعها »، قالت لي ذلك اختي التي قررت مع باقي أخواتي أن لا يعلمنني بموتها حتى لا يعيقني ذلك عن التخرج. إنه الرجاء ذاته الذي كانت الأم تكرره كل يوم، بين الصفحة والأخرى، في الرواية. أهي مجرد مصادفة أم هو نداء حقيقي وصلني عبر الأدب؟ كنت أقرأه وأنا أفكر بأمي، وأتمنى بحرقة أن تكون بخير، وأخشى السؤال كي لا تثبت هواجسي. أحيانا كنت أنهار أمام ذلك النداء في الرواية، فأغلقها وأخرج إلى الشارع مخنوقة، بحثا عن نسمة هواء أتنفسها، وأنا أمسح بين الفينة والأخرى دموعي. كان يجب أن استجيب لذاك النزوع الفطري والخفي لتصديق الغيب، والسفر لرؤيتها. لكن الوقت بات متأخرا، ثم أنني لم أكن قد حصلت على الشهادة بعد، وزيارة الوطن الخاضع للأحكام العرفية تعني فقدان الأمل بالعودة من أجل الحصول عليها.
«بات الوقت متأخرا» ـ هي ذاتها الجملة التي نطقتها أختي الكبري. توقفت اللقمة في يدها، في منتصف الطريق إلى فمها، حينما قلت لها أنني عدت إلى هنا، إلى البلدة ليس فقط من أجل زيارتها هي، بل من أجل زيارة قبر أمي أيضا. لم أجرؤ على هذا الفعل طوال ثمانية أعوام بعد وفاتها خشية انفجار ذلك الحزن في داخلي، فيفتتني ويسحقني على قبرها. حدقت أختي في الفراغ بنظرة ضائعة، وهي تقول: « آخر مرة زرت فيها القبر كانت قبل ثلاثة أعوام. لقد نسينا حين دفناها أن نكتب اسمها على الشاهد. لم يهتم أحد بذلك. ثم إن الناس هنا يموتون في كل يوم، وقليلا ما يكتبون أسماءهم على الشواهد، والمقبرة باتت تغص بهم. لهذا لم أعثر على قبرها بين القبور. اختلط علي الأمر!»
لقد عاشت أمي نكرة في بيت طيني، وها هي نكرة أيضا في قبرها الطيني.
يقول ميلان كونديرا أن الرواية هي «انتقام الإنسان من لاشخصانية التاريخ». وأضيف: هي ضد التجريد في الفلسفة. هي الأنا اللامرئية. هي معنى المجهول في الرياضيات. هي فيزياء المجتمع. هي بناء هندسي. هي أسماء معرّفة وهي قبور معرّفة.
لم أكن أعي ذلك تمام الوعي حينما جلست ذات يوم وأنا في الثلاثين من عمري، أكتب خاطرة عن بيت طيني تنمو في جدرانه من الخارج بعض أعشاب في فصل الربيع. كنت اشتريت دفترا، وبدأت استرق الوقت، حينما ينام طفلاي، كي أكتب فيه نصا يؤرقني ولا أدري ما هو. لا أدري كيف أكتبه. كان يبدو لي أنني وكي أبلغه، أحتاج لعزلة مكثفة. لسماء مسجونة في نافذة. لصمت يضج بالأصداء. لشحوب يخنق تلك الأصداء، فأتنهد وأتساءل كيف يمكن لتنهيدة أن تحمل كل هذا الضيق.
في نهاية المطاف كتبت. كنت أظن أنها خاطرة أخرى، من الخواطر التي أخطها هنا وهناك على الورق. لكن تلك الخاطرة طالت، ثم طالت، وأنا أحاول بارتباك، ووجهي مضمخ بالدموع، مجاراتها وانتظار اللحظة التي سيكف فيها التدفق. كان الأمر يشبه حادثة قديمة، حينما ثقبت ذات مرة كيس القمح المركون في زاوية إحدى الغرفتين الطينيتين، لأحظى بحفنة أحمصها، والتهمها أثناء الدراسة، فانهال القمح من الثقب، وظل ينهال، ولم اعرف كيف أوقفه قبل قدوم أمي.
كانت أمي وأبي، وغرفتانا الطينيتان، والمكتبة ذات الورق اللاصق بلون الخشب، وخزانة الملابس مخلوعة الأبواب، والبرد، والريح، والماء الذي يدلف من السقف، والمساءات التي تعبر فيها السيارات الطريق القريب من بيتنا ـ وهو طريق دولي يربط الأردن بسوريا ـ فيهز عبورها السريع بين الحين والآخر، ركود الهواء في البلدة، مثيرا في نفسي حنينا غامضا وضبابيا لعالم بعيد، يسود فيه العدل والمساواة. كل ذلك راح يتدفق مني دون أن أدرك اللحظة التي سيسكن فيها مشكلا على الورق حقلا واسعا من الألم.
أعطيت هذا النص الذي لم أعرف ماذا أسميه، لصديق لنا، دكتور في الأدب في جامعة موسكو، ومترجم للأدب الروسي. بعد يومين اتصل بي قائلا إنه كان يشعر بالحرج حينما أخذ المخطوط مني، لأنه لم يعرف كيف سيقول لي لاحقا ما كان واثقا منه: إن ما كتبته سخيف. لكنه قرر أن يلقي نظرة على الصفحة الأولى قبل أن ينام. قال لي أنه لم ينم إلا صباحا، بعد أن قرأ الرواية كاملة. قرأها بمتعة واعجاب شديدين. « أهي رواية؟» سألته باستغراب صادق.
بعد أن أصدرت تلك الرواية ـ روايتي الأولى التي كان عنوانها «سقف من طين» ـ شرعت بكتابة روايتي الثانية « ليلى والثلج ولودميلا» التي تناولت فيها مرحلة البيريسترويكا، وانهيار الاتحاد السوفييتي، والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي حدثت على إثر هذا الزلزال. بالإضافة إلى سؤال الأنا العربية، بمكونها الثقافي وإرثها التاريخي القبلي والديني، في مقابل الأنا ـ الأخرى، الروسية .
بعدها كتبت أربع روايات أخرى. في كل مرة كنت أشرع فيها بكتابة رواية جديدة، أحاول عبرها تفكيك هذا العالم في سبيل فهمه، فتعيد هي كتابتي بالمحصلة، كنت أشعر بضرورة الإجابة أخيرا عن السؤال الذي لم يطرحه عليّ أبي في يوم من الأيام، ومات وأنا في الثالثة عشر من عمري دون أن يطرحه: سأكون روائية يا أبي.
- هذه الشهادة الأدبية نشرت بالانكليزية في مجلة بانيبال، العدد 66 خريف 2019، ننشر هنا النص العربي بالاتفاق مع الكاتبة.