شبح القبيلة
منذ الصفحات الأولى في رواية «اسمى سلمى» للروائية الأردنية الدكتورة فاديا الفقير، تبدو لغة النص وأسلوبه ملفتين للنظر. اسلوب ينحى باتجاه تيار الوعي المتدفق، حيث تختلط الأزمنة والأمكنة في ذهن السارد. والسارد في هذه الرواية هي بطلتها « سلمى». تتناوب الأمكنة والأزمنة في الحضور والغياب في ذاكرتها منذ بداية النص: مدينة اكستر البريطانية حيث تقيم، ويصعب القول الآن، لأن هذا الحاضر سرعان ما يصبح في الفقرة التالية ماضيا بعيدا أو ربما قريبا، أو مستقبلا. الزمن لا يسير في خط واحد متصاعد بل في خطوط عدة. وهي ليست متوازية بل متشابكة فيما بينها. ثم هناك القرية التي قدمت منها سلمى الذي ينتمي زمنها إلى الماضي ـ ماضي سلمى ـ مرورا بمحطة الانتقال، لبنان.
تتناوب هذه الأمكنة الثلاثة الرئيسية في ذاكرة سلمى، ليحتل كل منها مساحته، إنما دون أن يطرق الباب. فجأة تنقلنا الرواية من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هناك آخر دون حاجة للجسور. تماما مثلما ينفجر ألم الصداع، ثم ينفجر الألم في القلب، ثم ينتقل إلى ألم الظهر دون أن ينفي أحد هذه الآلام الآخر، أو يطغى عليه. كلها تنفجر معا في الآن ذاته.
يجد القارئ نفسه منذ بداية العمل ليس أمام أمكنة وأزمنة خاضعة للمفاضلة فيما بينها فيبدو أحدها أقل قسوة من الآخر، بقدر ما يجد نفسه أمام أوجاع تواصل تعذيبها لسلمى. وجع ال «هنا» المتجسد في حياتها كمهاجرة، بائسة وفقيرة، تعمل ساعات طويلة لتوفر لقمة عيشها. هذا فضلا عن أنها تنتمى إلى فئة المواطنين الذين يُنظر إليهم بفوقية واحتقار، كمواطنين من الدرجة الثانية أو ربما العاشرة، بسبب ألوانهم وانتماءاتهم الجغرافية. ثم وجع ال «هناك» ـ العالم الذي هربت منه وظلت تحمله معها، ويحيا في داخلها.
استطاعت فاديا الفقير أن ترسم تلك اللوحة، باسلوب ممتع ورشيق وسلس، وبلغة تتمتع بجمالية عالية. لغة شفافة وصادمة أحيانا من شدة صدقها وشعريتها وبساطتها. ليس ثمة فذلكات لغوية أو صيغ مدوية، تُعني بالشكل المبهرج دون أن يربطها حبل سري بالمضمون، بل ثمة انسياب متواصل يشبه انسياب السيل الذي يكشف لنا في كل لحظة عن قاعه. كل ذلك يجعل القارئ، مشدودا طوال الوقت بحبل يلتف على أنفاسه، فيحبسها وهو يمضي مع سلمى المعذبة بأوجاع المنفى في شوارع مدينة غريبة، فيما العالم الآخر الذي قدمت منه يترصدها عند كل الزوايا. متواريا خلف ستائر شفافة، أو يحدق بها من الضفة الأخرى لنهر الإكس، أو قابعا في قلب مشهد ساكن، بهيئة كابوس لا يزول، تراه وهي في أوج يقظتها.
تكشف لنا الرواية محنة سلمى الأولى التي أسست لباقي المحن، بجرعات قصيرة، وبروية، كأنها تنثرها في حقل واسع، فلا نستطيع التنبؤ باللحظة التي ستصادفنا حفنة منها. لكن اللوحة في نهاية المطاف تكتمل. لقد ولدت سلمى ونشأت، بل وتكوّنت في بيئة لا تزال تتأرجح بين نمط الحياة الفلاحية والبدوية. نراها في صباها المبكر، تحصد القمح، وتحلب البقرات، وترعى غنم أهلها وهي تعزف على ناي القصب. أثناء غرقها في صوت الناي، تقع سلمى المراهقة ابنة الخمسة عشر عاما، في حب حمدان ابن قريتها.
لا تقوى على مقاومة هذا العشق المتهور، فـ «تتفتح تحت الشمس، وهي تستقبله». وإذ ذاك لا يرى فيها سوى سبية سهلة المنال. « أنت الآن امرأة يا سلمى… أنت لي، يا سبيتي». يتمخض عن هذه الخطيئة حمل، يدفع سلمى للهرب من البيت، وتضطر بسببه دخول السجن، حماية لها، لأن أخاها محمود، ينتظرها عند بابه، حاملا البندقية على كتفه، ليفرغ رصاصها في رأسها، ما إن تتخطى قدماها باب السجن. إما السجن وإما حرية لا تعني شيئا سوى الموت. تلد سلمى ابنتها في السجن، ولا تحظى حتى بإرضاعها قطرة حليب واحدة من صدرها، لأنهم يسلبونها منها ويودعونها في بيت اليتامى، فلا تراها أبدا. تظل حبيسة السجن لمدة ثمانية أعوام، إلى أن تهرّبها منه الراهبات ويسفرنها إلى بريطانيا.
ذلك باختصار هو ال «هناك»، الذي جرت أحداثه في قرية «حمى» التي تقول الرواية انها تقع في بلاد الشام. الحمى حسب قاموس اللغة، هو المكان الذي يُحمى ويُدافع عنه، كالدار والمرعى. حمى القبيلة أو مضاربها. تتسع هذه المفردة في الرواية لتختزل الوطن كاملا، بجغرافيتة، المتبدلة من الصحراء إلى حقول القمح، إلى الوديان والجبال، إلى البساتين. ثم إنها تتسع لتختزل في الوقت ذاته الوطن بدلالاته المجازية: بنية العقل القبلية الرعوية للإنسان في هذه الجغرافيا. إنه الاشتباك بين الجغرافيا والتاريخ، بين المكان والإنسان واللغة التي انتجها. اشتباك جدلي عبّرت عنه فاديا الفقير بذكاء بالغ، بتكثيف هذا التشابك في مفردة صغيرة واحدة: «حمى» . قرية بحجم الوطن، لا تزال قيم القبيلة تسود فيها، وتُختصر في ذهن سلمى، بطلقة متحفزة في بندقية، تظل طوال الوقت معلقة على كتف أخيها، كي يغسل بها عاره.
ربما كانت الرواية ستأخذ بعدا أعمق, قادرا على منح هذه الشخصية «محمود» رمزية تتسع لتجسد مأساة الوطن كاملة، لو أنها أشارت إلى السياق التاريخي الذي يحيا فيه هذا الإنسان العربي وحماه. ففي حين كان محمود يرى أن أشد ما يهدد وجوده من أخطار هو الخطيئة التي انتهكت بها اخته عرضه وشرفه، ومرغتهما بالعار، كان وجوده في حمى ذاتها ككيان، يُنتهك ويُغتصب من قبل الغريب المستعمر، دون أن يلتفت محمود إلى هذا الانتهاك، أو يراه، أو يشعر نتيجته بالعار. كأنما هذا الأمر لا يخصه. لم تشر الرواية لذلك العار الأكبر الذي كان بوسعه أن يرتفع بالحدث والصراع عبر هذه المفارقة، إلى مستوى المأساوية، وهي مأساوية هزلية في جوهرها.
لكن ذلك لا يقلل في حال من الأحوال من عمق الاطروحة الفكرية للرواية. كأنها بهذا التغييب التام للسياق التاريخي للوطن، السياق الأشمل، تعكس أولا غيابه عن ذهن الإنسان العربي المنغمس في اسئلته التافهة في مضمونها، وكأنها ثانيا تدعونا للغوص في الذات. في النحن. في التحديق مليا في «أنا» نا المشوهة، المتخلفة حضاريا، التي تحمل على كتفها إرثا ثقافيا ثقيلا ممثلا ببندقية صدئة، نطارد بها صبية غرة، لم تلتزم في لحظة غوى بتقاليد وقيم القبيلة، رابطين وجودنا وشرفنا بغشاء بكارتها.
الغوص في هذه الأنا أو النحن، بما نحن عليه، يفي أحيانا بالغرض، لاسيما إذا كان منسوجا من سرد عالي المستوى، وموضوعي في تناوله للشخصيات. وهذا ما يجب الاعتراف بأن فاديا الفقير أجادته. فسلمى ذاتها، التي تهرب من تلك « الحمى»، لا تبدو في الرواية خارجة عن قيم القبيلة. إنها تهرب حاملة الندم معها، لأن ما اقترفته ظل بنظرها خطيئة. لم تتحول نظرتها إليه، حتى حينما أصبحت في منأى عن الخطر، في مكان يقبل بحرية المرأة ـ في بريطانيا. لم تتحول سلمى إلى منظّرة بحقوق المرأة وحريتها. تقول: « …أمشي على الجانب الآخر للبوابة الحديدة السوداء، بالرغم من أفعالي القاتمة وماضي المشين. حرة أمشي على الرصيف مثل شخص بريء. كان وجهي أسود، كأنه مكسو بهباب الفحم، ويداي دكناوين، بعد أن لطخت جبهة أهلي بالقار». وفي مكان آخر تقول: «لطخت اسم اهلي بالوحل».
هذا الموقف لسلمى نراه يتكرر على مدار كل الرواية، فهي لا تدين إلا نفسها، ولا تقدم في مونولوجاتها أية محاكمات نقدية، لذاك الواقع كشخصية متناقضة معه فكريا، تؤمن بحريتها، وتدافع عنها. بل إنها تواصل الندم وإدانة نفسها، كحاملة لمنظومة مفاهيم وقيم ذلك الواقع. وهنا يتجلى مأزق هذه الشخصية الكبير. تظل تنظر إلى نفسها كمجرمة هاربة من العدالة، دون أن تعيد النظر في جريمتها أو في العدالة ، كمفهومين لا يعبّر أي منهما لا عن الجريمة ولا عن العدالة. وبالتالي لا تنتقل من موقع الهارب إلى موقع المصارع، لا من اجل العدالة وحسب بل من أجل نسف هذه المفاهيم المشوهة. تبدو هذه الرؤية لهذه الشخصية وتطورها، في الرواية، رؤية مبررة جدا. إننا ندرك خراب الواقع ليس نتيجة حدث جلل يخرّب حياتنا وحسب، بل أيضا نتيجة وعي نظري قادر على مس البنى الفكرية فيه. قادر على تفكيكها ووضع يده على مكمن العلة. لكن سلمى لم تكمل تعليمها وانتقلت من راعية إلى السجن، ثم إلى المهجر الذي وجدت نفسها فيه منبوذة ومحتقرة أيضا، وبالتالى لم يتسنّ لها بناء أي وعي نظري يؤهلها لنقد الواقع. ربما كان بوسع الرواية أن تجعلها بالاعتماد على وعيها وذكائها الفطريين، أن تتوقف في لظة، لتتأمل هذه المنظومة التي تكبّلها، على ضوء ما حدث لها، لاسيما وأنه حدث كبير يقدم مسوغا دامغا لهذا التوقف المتأمل، الذي يمكن أن يفضي إلى تحول في شخصيتها. إن ذلك ممكن، بالدرجة نفسها التي يمكن فيها عدم حدوثه.
لكن، أي من الخيارين يبدو أقرب إلى الواقع؟!

أظن أن الروائية فاديا الفقير انطلقت في بنائها لشخصية سلمى من إجابتها على هذا السؤال: هل يحدث هذا التحول الفكري للنساء العربيات اللواتي يتعرضن على مدار الساعة لهذا الاضطهاد والعنف؟! في الحقيقة لا. لو أنه يحدث، لكان واقع المرأة العربية تغير منذ زمن طويل. قد تشعر المرأة العربية بالغبن والظلم، في سياق انحيازها الفطري للذات ـ كما صوّرت الرواية شخصية نورا والسجينات الأخريات التي عاشت سلمى معهن في السجن ثمانية أعوام ـ غير أن منظومة مفاهيمها تظل صلبة، بصلابة قدسيتها في الواقع. إن سيكولوجيتها لا ترتقي حتى لسيكولوجية العبد، فالعبد يؤمن بحريته، لكن ما يعيقه عن الصراع من اجلها هو الجبن والخوف. أما المرأة العربية ـ في عمومها، مع استثناءات قليلة في واقع الأمر ـ لا تؤمن بحريتها، ولا بحقها في امتلاك جسدها أو قرارها، وإذا حدث وقررت امتلاك هذه الحرية في لحظة تهور، فحتما ستشعر بالندم والخطيئة، وستدين نفسها. لأن هذا الحق وهذا القرار قد بُتّ أمره في التشابك الصلب والمعقد بين الإرث الثقافي من جهة والديني المقدس من جهة أخرى. إن الخروج عنهما لا يعني الخروج عن القبيلة وحسب، بل يعني أيضا الخروج عن المقدس. الأمر الذي يشكّل خطا أحمر عريضا فوق رأس العربي، رجلا كان أم امرأة.
أما باقي شخصيات ال «هناك» أو الحمى، فقد اتجهت فاديا الفقير إلى تكثيفها بشكل عال. هي ليست شخصيات بالمعنى التقليدي للشخصيات حسب الشروط الروائية، بقدر ما تومض هنا وهناك في ذاكرة البطلة ، فقط في سياق محنتها. أي انها جميعا من الأم إلى نساء القبيلة إلى الاب والاخ، كلها موظفة لغاية وحيدة: حمل مقولات الهناك، وقيم القبيلة. كأنهم جوقة يضع أفرادها على وجوههم أقنعة، تختفي خلفها شخصياتهم الإنسانية. إنهم منوطون بترديد متلازمة وحيدة في مضمونها، ومتنوعة في لغتها: الدفاع عن القبيلة وعن اعرافها وركائز وجودها الفكرية.
تقول إحدى النساء بعد قتل صبحة التي أقدمت على الخطيئة أيضا: « مع القلعة! بدمنا غسلنا شرفنا ». ويقول أبو سلمى: «لن يُرفع لي رأس ما دامت سلمى على قيد الحياة». أما أخوها فتنطق بندقيته التي يعلقها على كتفه، بانتظار أن يفرغ رصاصها في رأس سلمى.
ربما الشخصية الوحيدة في القبيلة، التي حاولت التمرد هي شخصية شهلا ـ جدة سلمى. إنها تهرب مع حبيبها. تتزوجه وتنصح سلمى لاحقا، أن تتبع قلبها. لكنه تمرد محدود، ومرهون بقرار الرجل، لا بقرار المرأة. لا نعرف ماذا كان سيحدث لشهلا لو تخلى عنها حبيبها ـ جد سلمى ـ ولم يختطفها من قبيلتها ويهرب بها. ماذا كان سيحدث لها لو لم يتخلَّ عنها، كما فعل حمدان الذي احبته سلمى، فتنكر لها ولحملها، وهرب. لكننا نعرف أن شهلا ماتت ما إن تزوج زوجها من امرأة أخرى. ماتت وحسب بفعل خيبتها وخذلانها. ماذا يمكن لها أن تفعل لو لم تمت؟ لا شيء. إنها ثنائية معادلة حياة سلمى: إما السجن أو القبر. الثنائية التي يغيب عنها الصراع غيابا تاما.
لكن، وفي سياق التكثيف العالي للشخصيات، فإننا نلمح هنا وهناك وميض ضوء إنساني في وجوهها: تتذكر سلمى أخاها حينما كان يشتري لها حلوى الحلقوم وهي طفلة، وكيف صار يشد شعرها حينما كبرت وكبر هو. ومن بعد كيف حمل البندقية، وراح شبحه يطاردها، حتى في منفاها. إنها إشارات مختزلة جدا تفيد بتحول أخيها، من أخ إلى المفهوم الاجتماعي للرجل في سياق تلك المنظومة القبلية. وهذا الأمر ينسحب أيضا على ابيها، الذي كان أب ببساطة هذا المفهوم الإنساني، يفرح عندما تعود من المدرسة سعيدة بنجاحها في القراءة والكتابة. أو حين يمرر يده الخشنة على رأسها، ويقبّل جبهتها قائلا: « أنت محظوظة لأنك ولدت مسلمة» فتجيبه «حمدا لله» وهي غارقة في حضنه تمتص دفئه. إنه أب تومض انسانيته وطيبته في سياق اليومي المندرج تحت سقف الثوابت والمسلمات. لكن ما إن يتناقض هذا اليومي مع الثوابت حتى ينقلب إلى شبح، كما تنقلب باقي الشخصيات إلى اشباح تطاردها. كلها تتماهى مع بعضها البعض وتصب في شبح واحد هو شبح القبيلة المعفرة برمال الصحراء، المطأطأة الرأس، التي لن يكون بوسعها رفعه إلا إذا سفكت دماء سلمى.
في سياق هذا التناقض ما بين الوجه الإنساني للشخصيات وبين وجه القبيلة، تنظر سلمى إلى هناك، إنما دون إدانة. إنها تتفهمهم على نحو عميق بل تشتاق وتحن إليهم، كأسرى لمنظومة هي ذاتها أسيرة لها. وهنا يتبدى نقد الرواية العميق للقبيلة بنسائها ورجالها، بعيدا عن الرؤية النسوية التي طالما رأت في الرجل لبا للمشكلة. إنه ضحية هذه المنظومة أيضا حتى لو كان هو الذي يوجه الطلقة إلى رأس سلمى.
هذا فيما يخص ال «هناك». أما ال «هنا» الراهنة لسلمى، فهي بريطانيا، التي ترمز إليها الرواية «بقصر البجع». الاسم الذي اختارته اليزابيث لمنزلها المتواضع. إنه بيت قديم تستأجر سلمى غرفة من غرفه. وتعجز ليز ـ صاحبة البيت ـ أو الملكة اليزابيث الأولى ـ كما تدعوها سلمى بتهكم ـ أثناء إقامة سلمى معها فيه، عن تحديد علاقتها بسلمى: اهي صديقة، أم خادمة أم مربية؟ في كل الأحوال، ستكشف لنا الرواية عن الإجابة عبر العلاقة اليومية بين ليز وسلمى: علاقة فوقية تشبه إلى حد بعيد العلاقة بالخدم. لا تطيق ليز رؤية شعر سلمى الأسود في بيتها. لهذا تنظفه سلمى جيدا من كل مكان في البيت بعد أن تستعمله، كأنما تنظف أثرها كي يبقى المكان نظيفا منها. كي تبقى طارئة فيه، وليس ثمة ما يشير إلى انتمائها إليه. مثلما تتعامل سلمى أيضا بحذر مع الأثاث القديم التي تمنعها ليز من لمسه.
ومثلما اختزلت فاديا الفقير الوطن بقرية سمتها «حمى»، نراها تختزل الامبراطورية البريطانية البائدة، بتاريخها الكولونيالي ومستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس. لقد تضائلت هذه الامبراطورية، حتى تحولت إلى بيت صغير متواضع وقذر، سمته قصر البجع. أما صاحبة البيت سليلة العائلة الأرستقراطية التي كانت تحيا في الهند، فلم يبق لها من تلك الأمجاد سوى « تلك الجزر المبعثرة من الحنين». إنها الآن عجوز سكيرة متهالكة، بيتها قذر، وتنظر إلى سلمى باحتقار. غير أن ذلك لا يؤثر على منسوب الطيبة في قلب سلمى، فتظل ترعاها، وتحملها إلى السرير، كلما سقطت ثملة على الأرض. إنها تحاول أيضا تنظيف بيت ليز وفرك حيطانه، بل وتنظيف المرحاض الذي يثير قرفها أثناء استعماله. وسيتجلى موقف ليز من سلمى، في حدث له رمزية عالية، حينما تغرق ليز في السكر وتفقد وعيها ولا تعود ترى في سلمى سوى خادمة، كخدمها في الهند. إذ ذاك تضربها بالسوط وتجرج يدها جرحا عميقا. ترفض سلمى الاعتراف في المستشفى أن الحادثة ناتجة عن اعتداء وتقول إنها ناتجة عن سكين جرحت نفسها به من دون قصد. أجل. سيتوجب على سلمى أن تصمت على الإحتقار والعنف اللذين تعاملها بهما ليز ـ بريطانيا ـ . أن تصمت على الجروح العميقة التي تسببها لها. لأن بريطانيا وفرت لها الملجأ الذي لاذت به هربا من القبيلة ـ من الموت.
إنها في أقل الأحوال حية هنا. والحياة على مدار صفحات هذه الرواية، هي مطلب سلمى الوحيد. لا تريد أن تصارع، بقدر ما تريد أن تحظى بحقها في الحياة التي تعيشها كأنما في الوقت الضائع، بعد أن نجت من القبر بما يشبه المعجزة. تسترسل الرواية في وصف معاناة سلمى، سواء في العمل الذي يحتقرها ويستغلها فيه صاحبه، أو في بيت ليز، أو في العمل الليلي في البار. في التعب والجوع، والصمت والدموع، والحنين إلى هناك، والبحث «عن الضباب الدافئ للنفس البشري».
في غمرة كل ذلك ستحاول سلمى التصالح مع شكل وجودها الجديد عبر تمثّل قيم هذا المكان الجديد. ستحاول أن تصبح سالي، الاسم الجديد الذي منحوه إياها. سالي البريطانية وليس ابنة الحمى.
ستمارس الجنس ذات مرة، مع شاب تتعرف إليه وتنام معه في لقائهما الأول، على أمل أن يبقى معها ويصلح خراب حياتها. لكننا نراها، تتمدد إلى جانبه دون أن تجرؤ على سؤاله إن كان سيبقى معها وإن كانت أعجبته. لا لأنها لا تريد، بل لأن الناس هنا لا يفعلون ذلك. تتمدد إلى جانبه وفي الوقت ذاته تتمنى أن تنهض وتغتسل بالماء والصابون وتتوضأ، وتصلي وتطلب من الله المغفرة!
ستعجز عن الدخول في نسق الشخصية الجديدة التي تتحدث الانجليزية، وتحمل وثيقة مواطنة انجليزية، وتحاول التصرف كالانجليز. ستظل كما تقول ـ نبتة صحراوية انتزعت من أرضها. ستظل سلمى. الأسم الذي منحته إياه أمها: «سميتك سلمى، لأنني عقدت عليك آمالا كبيرة. اردتك أن تتعملي وأن تتزوجي من أحد ابناء شيخ القبيلة ».
سلمى وسالي. اسمان، يحمل كل منهما أيضا، دلالاته الرمزية، المرتبطة بالبنى الثقافية والاجتماعية والدينية للمكان. ستظل سلمى سلمى، تلك التي تكونت في القبيلة. اسم يحمل هويتها الأصلية. لماذا؟ لأن سالي غريبة عنها. لم تصل أو تتطور إليها في سياق طبيعي، ناتج عن تطور شخصيتها وصراعاتها وتضادها مع سلمى. لقد انتزعوها انتزاعا من بيئتها، من الحمى ومن سلمى، ووضعوها عنوة في بيئة أخرى، احتقروها فيها وقالوا لها كوني سالي.
الخط الآخر الذي يتبدى في الرواية منذ صفحاتها الأولى، هو وجع سلمى على ابنتها التي سلبوها إياها ما إن خرجت من رحمها في السجن. نراها تكتب لها الرسائل، وترسلها إلى الحمى دون أن تحمل عنوانا محددا. تخيط لها الفساتين، وتتخيل شكلها وتعدها بأن تعود ذات يوم لتنقذها. هذا الألم العميق المسمى ليلى، يصاحب سلمى في كل خطواتها، في ليلها ونهارها، في إطار من إحساس آخر بالذنب. فهي لم تخرّب حياتها وحسب بالجريمة التي اقترفتها، بل أورثت هذا الخراب لإنسان آخر. ولسوء حظها جاء أنثى، لتحمل معها بذرة النبذ والأقصاء والدونية، فضلا عن حكم مسبق بالاعدام لأنها ابنة حرام. هي أيضا مطاردة من قبل القبيلة. يظل هاجس إنقاذها يعذب سلمى إلى أن ينتصر عليها ذات يوم فتعود إلى الحمى بحثا عنها.
تشكل هذه الرواية، بلغتها العالية وصدقها الفني الذي يؤول بها أحيانا لتبدو كقصيدة طويلة مؤلمة، صفعة حادة على الوجه. وجهنا نحن العرب. وجه القبيلة ووجه الحمى. صحيح أن الرواية خلت من المحاكمات النقدية المباشرة للحمى وللقبيلة، لكنها بالمحصلة مرغتهما بالعار عبر نقد قاس ستحدثه لدى القارئ دون أن تفصح عنه بكلمات مباشرة. إن كل عذابات سلمى ـ الفتاة البسيطة ـ ستمتد بيد خشنة كيدي أبيها وأمها، لتمزق قلب القارئ. لتنهشه بمخالب حادة، فيجد نفسه في مواجهة نفسه، عاريا من كل الأقنعة التي تغذي وهمه بأنه إنسان حر ومتحضر. سيشعر القارئ، ليس فقط بالتعطاف مع سلمى في عذاباتها، بل سيشعر أيضا بالاختناق من الحمى، وسيدرك، وربما لن يدرك ، لكن إدراكه من عدمه لن يغير شيئا من الحقيقة: أن البندقية المعلقة على كتف محمود الذي وجدته سلمى بانتظارها حينما عادت إلى الوطن، هي في واقع الأمر موجهة إليه ذاته، هو القارئ، الإنسان ابن هذه الحمى، كما هي موجهة إلى الحمى. إلى قلب وجودها، فلن تنجو ولن ينجو الإنسان فيها ما لم يتخلص من هذا الإرث ويثور عليه.
يجب أن يقرأ هذه الرواية كل العرب، كي يقفوا مبللين بهذا الدفق السردي الرائع والمؤلم والعميق، ويقولوا لأنفسهم، وهم يرون شبح محمود يقف خلف ستارة سلمى في منفاها، بصندل جلدي عتيق: رباه كم أن أظافر أقدام إرثنا الثقافي والفكري صفراء وقذرة ومنفرة. كم نحن بحاجة لأن ننفض عنا غبار الصحراء والقبيلة والدماء. كم تعوزنا الشجاعة لأن نطلق النار على هذا الطيف الذي يطاردنا، خارجا في كل لحظة منا.
كاتبة أردنية