“بلاد بلا سماء” رواية اختفاء الأنوثة والعدل والجمال
من مجتمع يسيطر عليه الكبت والاستبداد.
كاتيا الطويل

يعتبر الطبيب النفسيّ المتخصّص بالطبّ العصبيّ سيغموند فرويد (1856-1939) أنّ المدنيّة الحديثة تحمل معها المشاكل والمخاطر الجسيمة للإنسان وأكبر أخطارها هو المشكلة الجنسيّة. ويضيف فرويد أنّ الكبت وهو أحد أبرز هذه المخاطر إنّما مردّه إلى الضغوط الجنسيّة أو الحرمان الجنسيّ. ويبدو أنّ هذه النظريّة تجد صداها في نصوص الأدب، وها هي تتجسّد في رواية “بلاد بلا سماء” للكاتب اليمنيّ وجدي الأهدل التي تروي بصفحاتها القليلة مأساة امرأة وبلاد ومجتمع بأسره.
ففي نصّ وجدي الأهدل “بلاد بلا سماء” الذي بالكاد يتخطّى الأربعين صفحة والذي يتأرجح بين الرواية البوليسيّة والرواية الواقعيّة والرواية السحريّة يقع القارئ على عواقب الكبت الجنسيّ وعواقب التعتيم القسريّ الذي يمارسه المجتمع حول موضوع الجنس. يخلق الكبت الجنسيّ والظروف المرافقة له ضحايا يكونون عادة من النساء على اختلاف طبقاتهنّ الاجتماعيّة. يخلق الكبت تراجيديا إنسانيّة اجتماعيّة تطال المرأة وتضيّق عليها وتسلبها حرّيّتها وطموحها ومستقبلها وأنوثتها وتمارس عليها عنفًا جسديًّا ونفسيًّا، وقد يكون الثاني هو الأقسى.
مجتمع يلتهم بناته
تدور أحداث رواية “بلاد بلا سماء” التراجي-بوليسيّة في بيئة محافظة مكبِّلة وفي ظلّ تقاليد قبليّة قاسية تأسر المرأة وتجعلها تدفع غاليًا ثمن أنوثتها. فيصوّر وجدي الأهدل ببراعة مذهلة الكبت والحرمان المسيطرين على المجتمع واللذين يشكّلان العدوّ الأبرز للمرأة وذلك عبر التشديد على أفعال “النظر” و”التحديق” بالمرأة. فتقول “سماء” الشخصيّة التي يدور حولها السرد والتي يشكّل اختفاؤها المفاجئ الحبكة الأساسيّة لتقدّم الأحداث: “التحديق المتواصل من عشرات المارّة يُخرجني عن طوري، يضغط على أعصابي، يوتّرني إلى درجة لا تطاق. إنّني أعتبر هذا التحديق المكثّف القادم من كافّة الاتّجاهات، نوعًا من العنف الذكوريّ المؤذي.”

تأتي هذه النظرات من الرجال جميعهم في المجتمع، حتّى من الجار الفتيّ الذي لم يبلغ السادسة عشر بعد والذي كانت “سماء” تحنو عليه وتدرّسه وتساعده في واجباته المدرسيّة. وتقول “سماء” عن رجال مجتمعها بشكل عامّ: “فرجالنا في المساجد يُصلّون بخشوع وتقوى، ويتمثّلون الأخلاق الحميدة كأنّهم ملائكة الرحمن. ولكنّهم ما إن يخرجوا إلى الشارع حتى تنقلب أحوالهم إلى الضدّ، فينسون الله، ويتكشّفون عن شياطين شريرة، تمارس الختل والكذب والغش، والجري وراء المتع المحرمة.”
وتظهر حنكة الأهدل الروائيّة منذ العنوان وقبل الغوص حتّى في حبكة الرواية وخيوط السرد. فـ”بلاد بلا سماء” كناية ذو معنيين. هناك المعنى الأوّل وهو معنى غياب الفتاة التي تُدعى “سماء ناشر النعم” والتي تختفي في الرواية من دون أيّ دليل أو تحضير للقارئ ويشكّل اختفاؤها محور الكلام. وهناك المعنى الثاني وهو غياب السماء بمعناها الرمزيّ الذي يرتبط بمعاني الحرّيّة والفرح والأمل والانطلاق والطموح وإلى ما هنالك من معانٍ إيجابيّة. وكأنّ الكاتب يربط غياب المرأة بغياب المتنفّس والحرّيّة وهو ما يحوّل البلاد إلى مجرّد أرض معتمة قاحلة لا خصوبة فيها ولا مستقبل ولا حياة.
تقنيّة تعدّد الأصوات
يعتمد وجدي الأهدل في روايته هذه تقنيّة تعدّد الأصوات السرديّة. فهذا النصّ المقسوم إلى ستّة فصول يندرج أيضًا تحت ستّة أصوات روائيّة، فيختلف الراوي وتختلف وجهة النظر باختلاف الفصل. ويمكن أن يلاحظ القارئ أنّ الساردين المختارين للإمساك بزمام السرد إنّما هم جميعهم ضحايا هذه البلاد البلا سماء.
ففي البداية تروي “سماء” بصيغة المتكلّم “أنا” مأساتها والتحرّش الذي تتعرّض له كلّ يوم من الرجال المحيطين بها فتكتب في يوميّاتها: “حياتي معاناة لا نهاية لها، بسبب الأنظار المسلطة عليّ طوال الوقت، سواءً داخل البيت أو خارجه. أنا تحت المراقبة ليلًا ونهارًا.” وتبدو حاسّة النظر هي المسيطرة في هذا الفصل الأوّل فهي سبب حزن الراوية “سماء” وتوتّرها وقلقها. تخشى “سماء” كلّ رجل تلتقي به وخشيتها في محلّها فجميع الرجال يحدّقون بها ويريدون قطعة منها: الأستاذ في الجامعة والبقّال في الحيّ والجار في المبنى وسائق الباص وغيرهم.
تروي أحداث الفصل الثاني شخصيّة “عبد ربّه عبيد العديني” وهو ضابط برتبة نقيب في البحث الجنائيّ. وعلى الرغم من أنّ هذا الراوي هو رجل ذو منصب ونفوذ وسلطة، يبدو أنّه عاجز ضعيف، يشبه في عجزه عن إيجاد “سماء” موقف “سماء” نفسها. فهو أضعف من التحقيق مع الأستاذ المدعوم وأضعف من توقيف أحد من عائلة “سماء” لأنّها تنتمي إلى قبيلة كبيرة وأضعف من استدعاء أيّ من المتّهمين إلى التحقيق بشكل جدّيّ لأنّه لا يملك سلطة حقيقيّة تضارع سلطة رجالات القبائل والعشائر، ليتحوّل هذا الضابط إلى ضحيّة المجتمع هو الآخر.

أمّا الفصل الثالث فيرويه “ناصر سالم العتمي” صاحب الكافيتيريا داخل الجامعة. وبينما تكون “سماء” ضحيّة المجتمع الذكوريّ و”عبد ربّه” ضحيّة القبائل وبطشها، يكون “ناصر” ضحيّة الطبقيّة الاجتماعيّة وظروفه الاقتصاديّة التي تجعله إنسانًا وحيدًا عاجزًا عن استقدام عائلته من الريف لتعيش معه لغلاء الأسعار. ويبدو “ناصر” إلى جانب “عبد ربّه” حليف “سماء” هو الذي يحاول حمايتها قبل أن تختفي. إنّما عبثًا.
قد يكون الراوي الرابع في هذه الرواية القصيرة الضحيّة الأكثر إثارة للحزن فهو صبيّ لم يتخطَّ السادسة عشر من عمره اسمه “علي” وشاءت الظروف أن يكون جار سماء وصديقها والمعجب الأوّل بها الذي يحاول أن يجدها بصدق عندما تختفي فيدفع الثمن غاليًا. يتحوّل علي هذا الصبي الغارق في حبّ “سماء” إلى ضحيّة العادات والتقاليد وبطش القبائل.
الراوي الخامس هو أيضًا رجل وهو “مطيع ردما”، شرطيّ تابع للضابط “عبد ربّه”، شرطيّ مأمور يفيد السرد بتقديمه معلومات عن تقدّم التحقيق في قضيّة اختفاء “سماء”. يفضح هذا الشرطيّ الضغوطات التي تعرّض لها الضابط والتي مارستها القبيلة التي تنتمي لها “سماء” فيقول: “كانت قبيلة سماء تضغط علينا وتربك عملنا، ويتوافد العشرات من المسلّحين إلى المقرّ لمعرفة آخر الأخبار.” كما يفضح علاقات الدكتور قبلان التي تمنعهم عن التحقيق معه بشكل جدّيّ على الرغم من أنّه المتّهم الأوّل باختفاء “سماء”، فبحسب الشرطيّ:”الرجل مسنود من فوق، وأية غلطة قد نحاسب عليها حسابًا عسيرًا، فما نحن في نهاية الأمر إلا مجرّد شرطيّين صغيرين لا حول لهما ولا قوّة.”
أمّا الراوي السادس والأخير في هذه الرواية فهو امرأة وهي والدة سماء، “وهيبة”. وما من ضرورة للإشارة إلى مدى انكسار الأمّ وحزنها ووجعها لاختفاء ابنتها وخوفها على مصيرها وعجزها أمام الشائعات الكثيرة التي اختُلقت حولها وحول حياتها وأخلاقها وسلوكها. وكأنّ الكاتب اختار أن يفتتح سرده براوية امرأة ويختتمه براوية امرأة أيضًا، فالبداية والنهاية امرأة وما بينهما بحث أزليّ عن الأنوثة والسماء والحرّيّة.
الجمال دومًا يُعاقَب
تظهر في هذه الرواية قضيّة تكرّرت في مواضع كثيرة من الأدب العربيّ والعالميّ وهي أنّ الجمال دائمًا يُعاقب. الجمال الباهر هو ضحيّة الفساد الأخلاقيّ في المجتمع الذي يجعله مباحًا لكلّ مستبدّ أو متسلّط. فهذه حال “وضّاح” الشديد الوسامة الذي انتهى به الأمر باختيار الموت هربًا من مصيره البائس الذي استجلبه له جماله ووسامته. حتّى الرجل الوسيم نال عقاب جماله هو الذي يصفه صاحب الكافيتيريا قائلًا: “كلّنا كنّا نقول في أنفسنا –نحن الذكور– كم هو محظوظ. ولكنّ الحظّ توقّف عن مساندته، عندما لاحظته عينا الدكتور عقلان، فتحوّلت وسامته وبالًا عليه.”
هذا هو حال الفتاة “سماء” كذلك، الفتاة الجميلة الهادئة المحتشمة التي اختفت بعد الفصل الأوّل من السرد ولم يُعرف عنها شيء. وكأنّ هذه البلاد تكره الجمال وتكره البراءة وتكره الحرّيّة وتعاقب أصحابها شرّ عقاب.
“بلاد بلا سماء” رواية بديعة متوهّجة بمعانيها وسردها وأسلوبها، فاللغة صحيحة سليمة جميلة سلسة فيها تهكّم مبطّن في بعض المواضع وفيها كنايات ورمزيّات تحتوي على نقد لاذع للمجتمع: نقد للمؤسّسة التربويّة والمؤسّسة الحكوميّة والمؤسّسة العسكريّة والمؤسّسة الدينيّة. كما يقع القارئ في هذه الرواية القصيرة الغنيّة على فضح للكبت الجنسيّ وللسلطة القبليّة التي تشرّع الجريمة والفساد وتتيح للظالمين بالاستمرار ببطشهم. يوظّف وجدي الأهدل نصّه ببراعة وحنكة، فهو يُبقي على الاستيطيقا الأدبيّة المتألّقة لكنّه أيضًا يجلد مجتمعه ويعرّيه ويشير إلى عيوبه من دون هوادة أو تردّد.
- هذه المقالة سوف تنشر باللغة الاسبانية في عدد الصيف من مجلة بانيبال الاسبانية. ننشر هنا، النص العربي، بالاتفاق مع الكاتبة.