
في استوديو بارقوني
ماذا لو كان المسند الخشبي الذي وضعتُ عليه مرفقي ذات صباح في وسط طرابلس،
قد جاء من شجرة سِدر، كانت تقف مطمئنة على جبل نفوسة؟!
هل كنتُ سأشعر برعشات الأوراق تحزها الريح الغربية القاسية؟
هل كنتُ سأشعر بدفء الحكايات التى تفيأتْ ظلّها سنين طويلة؟
حين نظرتُ في عين الكاميرا التي
يقف خلفها العجوز الإيطالي (بارقوني) بكامل أناقته،
طالباً مني الابتسام، كنتُ –حينها- طائرأ
يحلّق فوق تلك الشجرة التي قضت حياتها
تملأ الخلاء الموحش بالفرح!
أنا وابنة عمي في العيد
في ذلك العيد، البعيد،
وقفنا، أنا وابنة عمي، ولم نبلغ بعد سنّ العاشرة،
أمام واجهة البيت المصبوغ بالجير الحيّ.
في يدي فرّارة صفراء ترتعش في الهواء.
في يدها، دمية برأس كبير وعينين جاحظتين تتحركان يميناً ويساراً.
قال لنا الرجل: هذه صورة للذكرى.
ما أذكره الآن
هو كيف كان الحذاء البني ضيقاً
وكيف أن البذلة الجديدة تفوح
برائحة التين الناضج.
الأب وابنه
على الطاولة الخشبية
باقة ورد اصطناعية غطّاها الغبار والملل.
بجانبها يقف الأب في معطف كتّان أزرق واضعاً
يده اليمنى على كتف ابنه الذي يحدّق في الفراغ.
بعض الذين رحلوا
الصورة على حائط المربوعة، خالية من النساء؛
فقط رجل بشارب كثّ،
وولد جالس على صندوق صغير في ملابس شتوية.
مجاورة لها وأعلى قليلاً،
تطلّ صورة الجدّ في جرده الأبيض الباهت،
وهو يتطلّع إلى الجالسين بعينين ضيّقتين.
على الحائط المقابل صورة للكعبة،
في إطار خشبي يكاد يسقط من الإعياء.
عنترة بن شدّاد
في طفولته،
غالباً ما كان يقف أمام صورة عنترة
وهو رافعاً سيفه المقوس ليطعن به عدوه الذي يخرج الشرر من عينيه.
يفكّر:
كيف لهذا الحصان الرشيق
أن يحمل ثقل الحرب وثقل العبودية، ولا يتعب؟
كيف لهؤلاء لرجال ممتطي الخيل، الراكضين خلفه، بظهورهم المحنيّة
والهواء يلسع وجوههم، يعجزون عن اللحاق به
وهو الذي لا يترك لهم سوى الصراخ الغاضب؟
ثم يرفع رأسه قليلاً ليطمئنّ على أن السماء
ما تزال هادئة وصافية.
ذكرى العرس
على حائط غرفة النوم،
الضوء الساقط على جانب وجه العريس،
لم يأت من نافذة، بل من مصباح كبير في ركن الحجرة.
حبّات عرق صغيرة بيّنت ذلك.
كانت العروس قد ملأت جيوبه بالحلوى والجوز المحمّص.
الحرب
الجندي الذي ذهب إلى الحرب،
انتهى واقفاً في إطار مذهب.
عينان فارغتان، يحيط بهما عقد زهور بلاستيكية،
يتدلّى منها نوط الشجاعة المتّسخ.
الجندي الذي قضى المصوّرُ وقتاً طويلاً في إزالة شحوب وجهه،
تحته تجلس الأمّ والجدّة
في صمت وعيونهن مليئة بالخيبات.
الملاكم في شبابه
قبالة وسط الحوش تماماً،
صورة الملاكم في شبابه، المائلة دائماً جهة اليسار.
الجهة التي فيها يلوّح بقبضته إلى أسفل.
بعد رحيله،
لم يعد أحد من عائلته ينظر إليها أو
يزيل من على سطحها مخلفات الذباب.
في ميدان الشهداء
في سبعينيات القرن الماضي،
تحت أقواس المباني المطلّة على ساحة الشهداء،
كانت عيون الفنانين والفنانات شهونية لامعة،
بعضها يتكىء على الجدار السميك لبنك روما، ينصت إلى
أصوات الخارجين من سينما الرويال وسينما الحمراء.
الآن،
ليس سوى
مسابح مصنوعة في الصين وكتب للرقية الشرعية
وأعلام لثورة فبراير.
شاعر ومترجم من ليبيا،
[email protected]