فصل من “مدينة أبي” الرواية الجديدة للكاتبة الأردنية كفى الزعبي، تصدر قريبا عن دار الآداب

كفى الزعبي

جئت إلى المضارب قبل عام كي أدفن فيها أبي. كان أثناء مرضه المفاجئ والقاتل قد ألحّ طويلا، بأن ندفنه في أرض تلك المدينة، مدينته. رفضت أمي ذلك. ليس فقط لأنها لم تصدق أنه سيموت، بل أيضا لأنها في لحظات وقوفها أمام الحقيقة كانت تقول إنها لن تسمح له بأن يُدفن في قبر بعيد، في مدينة قصية. أما أنا فقد تهربت من تقديم أي وعد له كما لو أن هذا الوعد سيكون إيذانا بموته. بالمحصلة مات، وكان يجب عليّ أن أقدم له الوعد وهو يحتضر.

دفناه في مقبرة على أطراف المضارب. مساحة جرداء، تنتشر فيها بين القبور أعشاب شوكية جافة، تعلق بها أكياس بلاستيكية سوداء، وبقايا أكياس اسمنت، ولا يعزف فيها سوى الصمت الكئيب، وأنين الحزن. لا أعرف إن كانت روح أبي، الرجل الذي كان على الدوام حزينا، ستحظى بالطمأنينة في هذه العزلة النائية. لكنني عزيت نفسي، كما عزيت أمي، بأن تلك كانت رغبته العميقة. فها هو أخيرا يعود ليقيم إقامته الأبدية في المدينة التي هاجر منها قبل خمسة وثلاثين عاما، وظل يحنّ إليها.

في الحقيقة لا أعرف إن كان هاجر منها أو هرب أو ربما أُبعد أو نُفي. لست أدري ما هي الكلمة الصحيحة. يبدو لي أن توصيف الطريقة التي خرج فيها ليس مهما، لأن كل تلك المفردات أفضت في نهاية المطاف إلى المعنى الوحيد الذي ظل يشعر به طوال سنين غربته: إنه انتزع انتزاعا منها.

كانوا سجنوه في شبابه لأسباب سياسية، وعذبوه كثيرا فلم يقوَ على الصمود. « كثيرون صمدوا تحت هذا التعذيب، أما أنا فقد تبين أنني جبان». باح لي ذات مرة وهو يجلس قبالتي ويشيح بوجهه عني خجلا. وقّع التعهد الذي طلبوه منه آنذاك، بعدم ممارسة أي نشاط حزبي أو سياسي، ونجا من الضرب المبرح. نجا من الآم التعليق في السقف وتمزق المفاصل. من انفجار بؤر الألم حينما يطفئون سجائرهم في جسده. نجا من وسائل تعذيب وحشية كثيرة، كان بوده أن يتحملها وأن يخرج من السجن مرفوع الرأس. لكنه خرج متهدل الكتفين، يطأطأ رأسه وفي داخله إحساس بالعار لا يحتمل. لم يكن يشعر ـ كما قال لي ـ أنه خذل رفاقه وحسب، بل خذل كل شخص كان يصادفه في الطريق. خذل الوطن. لهذا سافر إلى بلاد بعيدة، حطت به سريعا في مدينة غاربيا، الواقعة في شمال غربي الأرض، فأقام فيها. تزوج وأنجبني وانخرط في العمل. أسس متجرا ليس كبيرا يبيع المواد التموينية، وانخرط في هموم ليس لها غاية سوى توفير حياة كريمة لعائلته، وأمل أن يحظى بنعمة النسيان.

غير أن كل تلك الوسائل، وكل تلك السنين لم تخفق وحسب في تخليصه من الإحساس المزمن بالعار، بل وأججت في نفسه إحساسا آخر، ربما أشد وطأة من العار، هو الحنين. الحنين لحياة أخرى كان يمكن أن يعيشها في مدينته، المضارب، برأس مرفوع وليس مكللا بالعار. وكانت مدينته في شرك هذا الحنين تكتسي سحرا لا يمكن العثور عليه في طرقات غاربيا المعتمة والباردة، والغريبة التي ظلت على الدوام بالنسبة إليه غريبة ومعتمة وباردة.

نفضت عن يدي بقايا التراب الذي هلته فوق أبي، كي أصافح المعزين. ثم بقيت واقفا عند القبر. كم يعز عليّ أن أتركه هنا وحيدا، عند حافة الصحراء، قبل أن يفيق من صدمة الموت ويألف غربته الجديدة في هذا القبر.

أتت أمي ووقفت إلى جانبي، وقالت أشياء لا أدري ما هي، وهي تبكي. فقاطعتها قائلا إنني أنوي، زراعة شجرة صنوبر، بجانب القبر كي تضلله، وتكسر حدة الجفاف والصفار من حوله. أجابتني بسؤال:

ـ لكن من سيعتني بها في هذا الحر والجفاف؟ ستموت سريعا.

ـ أنا. أنا سأعتني بها.

ولم تجد من شدة صدمتها ما ترد به.

بعد انتهاء طقوس العزاء صرّحتُ لها بالسبب الأكثر وجاهة لبقائي في المضارب، من الاعتناء بشجرة عند قبر أبي، أو من صعوبة تركه فورا في هذا القبر، أو من رغبتي الكامنة في البقاء في المدينة التي تأجج في داخلي فجأة الأحساس بواجب الإنتماء إليها، وفاءً لأبي. بيت جدي الذي مات أبي من دون أن يحل النزاع عليه مع عمي. لم يجرؤ قبل مرضه أن يطلب مني مساندته في هذه النزاع، ليقينه أنني لا أنا ولا أحد آخر في هذا العالم معنيّ بالدفاع عن هذا البيت مثله هو. بيت طفولته وشبابه، الذي شكّل مخزنا لذكرياته، واختمر وانخبز فيه معنى الوطن. ورغم أنه كان يزور المضارب كلما أتيحت له الظروف، زيارات قصيرة، غير أن ذكرياته الأولى كانت تشف في الغربة، وتصبح مع تقدم الزمن، مثل أغنية تصدح بها ليال بعيدة، تلفحه بشجنها وتجعل منه إنسانا حزينا.

لكنه مع ذلك، وبأسلوب ملتو، حاول أن يدفعني للإهتمام بالبيت أثناء مرضه. شعرت بالضيق حينما راح يحدثني عنه:

ـ وما المطلوب الآن يا أبي؟ ـ سألته وأنا مندهش من تمسكه ببيت قديم في مدينة هجرها ولن يعود إليها ولن يعيش فيها أبدا.

ـ إذا آل هذا البيت لعمك، فسيموت. إنه ينوي هدمه وبناء عمارة سكنية مكانه. عمارة يشتري شققها ويعيش فيها غرباء. أناس يشبهونه. لا أطيق تصور المشهد. أشعر بالاختناق كلما تخيلته.

لم أقل له لحظتذاك إن ما يهمني الآن هو موتك أنت، ولتذهب كل البيوت إلى الجحيم يا أبي، لأنني لم أكن أريد الإشارة إلى موته كما لو أنه أمر محقق ولا مفر منه. كان لدي أمل عنيد أنه سيشفى. قلت:

ـ وهل يحيا هذا البيت الآن؟ أنت نفسك قلت أنه بعد موت جدي صار خرابة.

ـ لم أتوقع أن الموت سيأتي بهذه السرعة. كنت آمل أن أعود إليه وأحييه. أن أعيش فيه آخر سنين عمري. ثم أورثه لك.

ـ أكنت تنوي هجر أمي؟ ـ سألته ساخرا.

ـ كنت سآخذها معي.

ـ ما كانت ستذهب معك!

ـ بلى. كانت ستذهب. لقد عشت معها طويلا هنا في غاربيا، فلم لا تعيش معي بعض السنين في المضارب؟! أنت تفهمني جيدا.

كان محقا، فقد كنت أفهم أنه يتحدث عن حلم.

اقترحت أمي، وكي لا يطول بقائي في المضارب أن يُعرض البيت للمزاد العلني، كحل للمشكلة، «بما إن الإتقاق مع عمك يبدو صعبا». وكان من غير الممكن أن ألجأ إلى هذا الخيار، لا لأنني وعدت أبي ببذل جهدي من أجل استرداد البيت والاعتناء به، بل لأنني رفضت أن أقدم له أية وعود بهذا الشأن. كان يحتضر وكنت حزينا جدا ولا أريد له أن يموت، ولا أريد أن آخذ مكانه في الصراع مع عمي، من أجل بيت لا أشعر على ذلك النحو العميق أنه يعنيني. أظن أنني تركت في قلب أبي تلك الغصة إذ لم أقدم له ذلك الوعد. غصة عبّر عنها بابتسامة مخذولة ويائسة، وهو يقول لي:

ـ لا بأس. المهم أن تعدني بأن تدفنني هناك.

وفعلت. دفنته «هناك». أقصد «هنا». لست أدري كم هو طول المسافة الذي يجعل من هذا المكان أو ذاك «هنا» أو «هناك». لكنني كنت حزينا للغاية، لأنني فقدته، ولأنه عاد إلى المضارب في نعش من دون أن يتسنى له العيش فيها ثانية. كان يوفر النقود كي يستطيع شراء حصة عمي، متأملا أن يعود إلى هنا حيا. يعيش في البيت، ولا أدري أية أفعال أخرى كان يطمح لتحقيقها أيضا، كي يتعافى من شعوره المزمن بالعار لأنه خذل هذه المدينة ذات يوم.

لم أدر وقتها ما هو القربان الذي أقدمه لهذه المدينة، كي أكفّر به عن خطيئة أبي، وأمنح روحه بعض السلام. حينما سمعتني أمي أقول ذلك، نظرت لي باستغراب مجيبة أن الروح لا تشعر بالعذاب ولا تحظى بالسلام إلا إذا كان المرء حيا، «وأبوك مات». فأجبتها:

ـ لنقل إذن إنني أريد لروحي أنا أن تحظى بالسلام. ما أود فعله سيريحني أنا لأنه يجعلني أعتقد أنني أريح به أبي.

ـ لطالما كنت تشبهه، ليس بشكلك وحسب بل بعاطفيتك وتصديقك للأوهام أيضا.

ـ الأوهام تجعل الحقيقة أكثر احتمالا.

فبحلقت بي بعينين مندهشتين، كأنها تراني للمرة الأولى:

ـ إنك تكرر كلماته وأفكاره!

قالت لي ذلك وأنا أودعها في المطار، بعد انتهاء العزاء.

إنها المرة الأولى التي أبقى فيها في المضارب وحيدا.

جزع بارد يسري في عروقي، ويلفحني هواء آب الجاف. لم أشأ أغلاق نافذة سيارة الأجرة، التي عادت بي من المطار إلى المدينة. تركتُ تلك السخونة تهب عليّ من سهول وهضاب تلوحها الشمس ويعذبها العطش، ويخاتلك سكونها «يا أبي» بأن ثمة سلاما يعمّها. كنت أصغي لصفير الرياح والسيارة تعبر الطريق مسرعة. وكان يصعُب عليّ تحديد كنه مشاعري. مشاعر غامضة لا أعرف اسما محددا لها، ولا أدري كيف أعبّر عنها. كأن داخلي يعوم في قطعة من الضباب.

كنت استأجرت على وجه السرعة شقة لأقيم فيها فترة قدّرت إنها لن تتجاوز الشهرين، ودفعت أجرتهما مقدما. لكنني مددت فترة إقامتي لشهرين آخرين. ثم لم أعد إلى غاربيا إلا بعد مرور عام. عدت إليها لأحيي مع أمي الذكرى السنوية الأولى لوفاة أبي.

كان المطر، وكما هو متوقع، يهطل بغزارة، في اليوم الذي وصلت فيه إلى «هناك». انطلقت أمي بالسيارة من المطار إلى البيت، ولم يبدُ وجهها سعيدا وهي تقول لي بعد صمت:

ـ للوهلة الأولى وأنا أراك خارجا إلى قاعة الاستقبال، خال لي أن القادم من هناك هو أبوك. كأنه قادم من الماضي. لقد ازددت سمرة ونحولا حتى أصبحت نسخة عنه في شبابه.

إن شبهي بك، «يا أبي»، يحيلها إلى خطورة بقائي في المضارب. يخيّل إليها أنك الآن، بعد موتك، تتلبسني. وأنك ستدفعني للإقدام على الخطوة التي لم تجرؤ أنت نفسك على الإقدام عليها: العودة إلى المضارب والإقامة الدائمة فيها.

ثم إن صغر حقيبة ملابسي التي رأتني أجرها إلى جانبي فاقم من توجساتها. حقيبة يد حملتها معي إلى صالون الطائرة. كنت وعدتها وأنا لا أزال في المضارب أنني سأعود نهائيا إلى غاربيا. وكان ذلك يعني أنني وبعد غياب عام اقمته هناك، لابد أن تكون حقيبتي كبيرة. حتى إنها ناقشتني أثناء اتصالنا الأخير، بالأشياء التي من الضروري حملها، والأشياء التي من الممكن الاستغناء عنها. وضعتُ الحقيبة على الأرض، ما إن دخلنا البيت، فعادت تنظر إليها باستغراب متساءلة: « كأنك جئت في زيارة قصيرة وحسب؟!». قلت لها: « دعيني أغيّر ملابس السفر واستحم بداية يا أمي.»

أثناء تناول العشاء، شرحت لأمي تفاصيل الصراع مع عمي، وأساليبه الخبيثة في المماطلة. قلت لها أنني لا أنوي التنازل له واعلان هزيمتي، فلن يذهب البيت له، مهما حدث، ومهما طال الزمن. ولكم أثار هذا الكلام قلقها، لأنها تلمّست فيه تلك الأغلال التي تقيدني بـ «هناك».

لهذا توجب عليّ في ذكرى يوم «وفاتك، يا أبي»، أن أعدها أمام ذاك الجمع من الأصدقاء والمعارف، أنني لن أبقى في المضارب. أخذتْ يومها تؤكد للحضور أنك أنت نفسك، لو كنت حيا، ما كنت ستوافق على الجريمة التي أرتكبُها بحق نفسي ومستقبلي. «فبدل أن ينتظم في دراسته العليا التي انتسب إليها قبل وفاة أبيه بقليل، ها هو يجلس في مدينة بعيدة، محاطة بالحروب والدماء وغارقة في النفايات والعنف. مدينة حارة وجافة، لا يفعل فيها شيئا سوى الصراع مع عمه على بيت خرابة». فقاطعتها قائلا إنه تسنى لي العمل هناك في الترجمة، وأنني أتقاضى أجرا أعيش بفضله على نحو جيد. فلم تلق بالا لكلامي، ولم تشأ الإصغاء لهذه المعلومة، وقالت كأنني لم أقاطعها، موجهة حديثها لي: « فاليفعل به عمك ما يشاء. ليهدمه وليبني مكانه بيت دعارة إن شاء، أو ليجعل منه مكبا للنفايات، المهم أن يدفع ثمن حصتك منه وننتهي من هذه القصة. من غير المعقول أن تضحي بمستقبلك من أجل مشكلة، لم يستطع أبوك نفسه حلها على مدار ثلاث سنين!». واتفق الحضور مع كل كلمة نطقتها، قبل أن يرفعوا كأس النبيذ ليشربوه عن روحك التي ظلت تطفو في المكان «يا أبى».

لم تكف أمي خلال الشهر الذي قضيته في غاربيا عن مواصلة محاولاتها المتوترة والقلقة لإقناعي بعدم العودة إلى المضارب. لكنها في صباح الأمس، وقبل خروجي من البيت متجها إلى المطار من أجل العودة إلى هنا، أخذت تتوسل إليّ باكية، في محاولة اخيرة ويائسة لإقناعي بالبقاء في غاربيا. في البيت الذي ولدت ونشأت فيه. لإقناعي أن أتصالح مع «موتك يا أبي» وأعود إلى حياتي السابقة، فأكمل دراستي العليا، وأنفض الغبار عن طموحاتي التي، «القيتها فجأة في الزبالة، ولم تعد معنيا بها». حينها اضطررت للكذب. وعدتها أنني لن أبقى في المضارب أكثر من أسبوع، أو شهر في أقصى الأحوال. كذبت لأن الأمر لم يكن مرتبطا بعمي وبالبيت وحسب، بل بسناء أيضا. قلت لها: «سأنهي الأمور كيفما اتفق مع عمي وأعود سريعا إلى هنا يا أمي» . فأغرقت وجهي بالقبل كأنني بذلك الوعد منحتها صكا بالأمان، لن تفقدني بموجبه أبدا.

SHARE