
الفصل الأول
حك مأمون الجزار أنفه بظاهر كفه متحاشياً أن يلطخه ببقايا دم الثور اليافع الذي طرحه أرضاً وذبحه، وظل يراقب انتفاضاته الأخيرة بشفقة لا تشاهد عند غيره من الجزارين، وانتظر خروج جيرانه ليساعدوه في رفع الحيوان إلى أعلى العتبة الخشبية القابعة عند المدخل، وهؤلاء ينالون رطل أو رطلين من اللحم نظير خدمتهم، وفي الغالب يكون زين المقهوي وحمود البقال هما اللذان يساعدانه، لأنهما يخرجان دائماً قبل شروق الشمس. وبعد أن ساعداه على تعليق الحيوان على العتبة بواسطة الحبال الحيسية1 المتينة، سلخ جلده بيدين ماهرتين، وتخلص من الأشياء القذرة الكامنة في الكرش والأمعاء، ورمى الذيل بحركة عصبية إلى داخل الحانوت، لأنه يحتاجه طوال اليوم لزجر الحشرات المقيتة عن اللحم المكشوف، ولم يغفل عن وضع رأس الثور المقطوع بمكان بارز في الخارج ليرى المتسوقون نوع الذبيحة التي سيبتاعون لحمها، فقد راجت مؤخراً إشاعات عن جزارين يقدمون لحوم الحمير والكلاب، على أنها لعجول وخرفان. ولهذا السبب ألزمه المتسوقون على إبراز الرأس أمام الأنظار.
كانت آخر خطوة قام بها هي قذف المخلفات في الأرضية الخلفية لمنزله، وهي وجبة دسمة لما لا يحصى من حيوانات السوق الضالة، وحين عاد أرجع ظهره المتصلب العريض إلى جدار حانوته الطيني المتماسك، وتنفس الصعداء مطلقاً زفيراً متعباً يطلقه على الدوام في مثل هذه اللحظة، ويظل بعض الوقت ينتظر قدوم إفطاره، تجلبه له زوجته زعفران، تضعه على الأرض دون كلام، فتة دخن حارة، أو خبز أبيض ساخن وقهوة قشر وفول أو عدس في آنية معدنية متفحمة، وتكون امرأته هادئة سادرة كطفلة أفاقت لتوها من النوم، فيأكل في الخارج، وهي تقوم بكنس وتنظيف الحانوت، ثم تنسحب دون تعليق، هكذا تفعل كل أربعاء، فيهز رأسه بأسف ويكلم نفسه متأوهاً: ليتها تظل صامتة بقية اليوم، لكن الجمر يختبئ تحت الرماد.
أثناء تناوله الطعام، يبدأ جسده الضخم المنهك العضلات بالاسترخاء، ويستقبل تيارات الهواء الباردة، فيجف العرق فوق بشرته السمراء مكوناً طبقة مصقولة لامعة تشبه ودك شحوم الحيوانات، بحيث تظهر وامضة بوضوح على جبينه حين يغمر جسده ضوء النهار.
***
بدا السوق مكسواً بفيض دافئ من أشعة الشمس الشارقة، وهو منتصب بموضعه المخصص إلى جانب حيوانه المسلوخ، الميزان ذو الكفتين النحاسيتين يظهر على سطح المصطبة الخشبية، والمقطعة الحادة قريبة من كفه ممددة على الخشب المصقول، وهكذا يبقى متأهباً ليلبي طلبات أي زبون بسرعة قياسية، مع ذلك لم يقترب منه أي متسوق، استرخي قليلاً من وقفته المتحفزة، وأخذ يسري عن نفسه مفكراً باطمئنان، مازال الوقت مبكراً، من ذا الذي يحتمل رؤية اللحم أو شم رائحته في مطلع الصباح! مازالت البطون متخمة بالفطور، ولن يفكر رجال القبائل في ابتياع مئونة الغداء إلا حين تفتك بهم حرارة الشمس والجوع، وعندئذٍ يهبون إلى الحانوت زرافات، ويتزاحمون بلا نظام عند المدخل، وقد تحدث منازعات وشجارات لاسيما إن كانوا من قبيلتي آل طعيم وآل شهوان. لكن هنالك من يفضلون ابتياع اللحم في مثل هذا الوقت، وأولئك أصحاب القرى البعيدة أو الأشخاص الذين يكرهون الزحام والضجيج، أين هؤلاء الرجال الطيبون؟ أين هم اليوم؟ لا أحد..
نفخ مأمون الهواء المحبوس في صدره بضيق، وشغل نفسه بالنظر في وجوه المتسوقين المتوافدين إلى السوق بسياراتهم التايوتا العتيقة، انتبه باهتمام إلى سيارة مكشوفة بيضاء ذات دفع رباعي تتقدم ببطء وحذر حتى توقفت في ركن مترب موارب من الباحة. ظهر على صندوقها الخلفي عدد من رجال القبائل مقرفصين، رؤوسهم منكوشة ملبدة، وأيديهم متصلبة على مقابض بنادقهم الكلاشنكوف، وسرعان ما قفزوا بعجل إلى الأرض ساترين أسلحتهم بأطراف ثيابهم، واختفوا وراء هيكل السيارة البيضاء.
لم يكن لديه قدر من الكياسة لكي ينتبه إلى أن حمل السلاح في السوق ظاهرة مستهجنة في أعراف القبائل القاطنة في تلك المنطقة، ولهذا السبب بدا الأمر مريباً وغريباً، دفعه الفضول إلى مراقبتها، كانت ببساطة تحت مرمى نظره، أمامه تماماً، واقفة بالعرض بشكل يوحي أنها متأهبة للمغادرة، زجاج مقدم السيارة موصد، وخلفه شخصان أو ثلاثة لم يتزحزحوا من أماكنهم، وأزعجه بقاؤهم ثابتين متوارين عن الأنظار، وكلم نفسه بأن أمثال هؤلاء المسلحين المزعجين لا يبغون التسوق، ولا أمل في الاستفادة منهم في هذا اليوم.
كان يقف قرب المدخل خلف الثور اليافع المسلوخ المقلوب للأسفل، لا يزعجه شيء سوى الذباب الطنان ذي الأجنحة الزرقاء، الذي يحوم على اللحم العاري القرمزي اللون، فأمسى يهشه بواسطة ذيل الثور المسلوخ بحركات عصبية مألوفة من كفه الثخين النافر العروق. مع ذلك لم يصرف عينيه عن السيارة المكشوفة، ومازال كذلك ينتظر قدوم الزبون الأول، وهو فاتحة الرزق، وطالما يحظى بقطعة كبيرة تشجيعية من لحم الفخذ. أخيراً رأى رجلاً يقترب نحوه بمثابرة، فاستقبله بنظرة ناعمة متملقة، ومد كفه وتناول المقطعة وتأهب، ولكن وقبل أن ينطق الزبون اقتربت سيارة أخرى مقفصة، وتوقفت بمكان غير بعيد من السيارة البيضاء.
ترجل منها نقيب قبيلة آل طعيم وانضم إليه فتى صغير بدا يحدق إلى ما حوله باهتمام وتهيب، وكأنه يزور السوق لأول مرة، وهبط وراءهما تابعان قبليان مرافقان همسا للنقيب شيئاً، وبادلهما بعض الكلمات، وهز رأسه موافقاً فغادرا المكان بهدوء، وغاصا في زحام السوق.
ظل نقيب القبيلة بموضعه قرب السيارة يرد على تحيات المتسوقين رافعاً صوته المبحوح، وكأنما لا يوجد لديه عمل آخر سوى لفت الأنظار إلى شخصه المرموق، وجذب صوته المميز المتسوقين، وحظي بالانتباه، وسرى الاهتمام إلى مأمون، فالنقيب أرحب آل طعيم زبون ميسور يبتاع كمية كبيرة من اللحم، ويدفع بسخاء. تهلل وجهه حين خطر هذا في ذهنه، وفي نفس الوقت أحس بشيء من التوتر، نظر بقلق إلى حيث كانت السيارة البيضاء واقفة، وسأل نفسه: أين اختفى أولئك الرجال يا ترى؟ وما يدعوهم إلى حمل أسلحتهم والحرص على إخفائها خلف أثوابهم؟
بدا على زبونه الأول الغضب بفعل تقاعسه عن خدمته، وانشغاله بالنظر إلى الخارج، وصرخ في وجهه طالباً اللحم، فرد مأمون بصره إليه بضيق واضح، ثم مد ذراعه إلى الفخذ ليقطع، وعند هذه الوهلة دوى صوت إطلاق نار كثيف، اتجهت عيناه على نحو غريزي إلى حيث كان نقيب القبيلة واقفاً، فرآه يهوي أرضاً، بينما ركض الفتى الصغير، وغاص بين الجموع المتدافعة. كان المتسوقون يفرون في كل اتجاه بلا هدي أو صواب، واختفى زبونه أيضاً من أمام الحانوت، وأتاح له موقعه المتفرد أن يرى ما يحدث.
لمح ثلاثة أشقاء من وجهاء آل شهوان يعرفهم من قبل، تلوح على رأس أحدهم كدمة بارزة لا تنكرها العين. كانوا شاهرين أسلحتهم النارية بأيديهم ويدوسون بأحذيتهم جسد النقيب أرحب بحقد وتشفٍ غريبين. شُلَّ مأمون عن الحركة وهو يرى ذلك، ووقف ينظر ببلادة، ظهرت الباحة خالية من البشر، ماعدا الفتى الصغير الذي ظل يتخبط بوضوح أمام الحوانيت الجانبية الموصدة، بدت شفتاه منفرجتين جافتين والخوف يسيل من تقاسيم وجهه الضئيل الشاحب، أخذ يتلفت حوله باحثاً عن ملاذ للنجاة، كان مازال هنالك حانوت واحد مفتوح، فانطلق يركض صوبه بيأس حتى توقف على بعد بضع خطوات، وراح يتأمل ذلك الرجل الضخم المذعور باستجداء، وأخرجت النظرات المسترحمة الرجل من جموده، كان جلياً أن الفتى يطلب المساعدة، لكنه حبذ ألا يفعل شيئاً يثير غضب الرجال المسلحين، فقد كانوا في الطرف الآخر يتحركون بهياج، تمنى أن يلوذ بحانوته من تلقاء نفسه، واستغرب لبقاء الفتى بلا حراك رغم الخطر الذي يتعقبه، لم يدرك مأمون أن جسده الضخم كان يسد المدخل، وأتت أصوات المسلحين التحذيرية كأنها تصدر من مكان بعيد، “أيها الجزار، أوصد حانوتك، لا شأن لك، دع الفتى..”.
هرعوا صوبهما صارخين، فتراجع إلى الوراء بخوف تلقائي، وقفز الفتى إلى الداخل، فسحب مأمون باب الحانوت وأوصده بسرعة، وسمعهم يصيحون من الخارج.
ـ افتح أيها الجزار اللعين.
ثم أمطروا الباب الخشبي بوابل من الرصاص، في محاولة مستميتة لتحطيمه أو إصابة الشخصين المختبئين، لكنهما لم يتحركا أو يتفوها بحرف واحد. ظلا منبطحين حاشرين جسديهما خلف خشب التقطيع المتين القذر، وبعد لحظات قصيرة قاسية سمعا صوت هدير قوي لمحرك سيارة أخذ يتلاشى حتى اختفى، وعقب ذلك انبعثت أصوات الغضب والاستغاثة من هنا وهناك، واستطاع مأمون الجزار أن يميز أصوات جيرانه البَيَع (أصحاب الحوانيت)، ففتح الباب ببطء وتسلل والفتى إلى الخارج دون أن يلاحظه أحد.
كان المتسوقون والبَيَع يشكلون دائرة كثيفة حول جثة نقيب القبيلة، وأراد الفتى الاقتراب من الحشد المتجمهر، لكن مأمون الجزار جذبه قسراً، ثم صارا يجريان كمجنونين صوب أحد المنازل الطينية الوضيعة التي تخص فئة البَيَع، وبمجرد أن دخل منزله، ووقعت عيناه على زوجته حتى ارتد إليه وعيه، كان صدره يعلو وينخفض بأنفاسه المتقطعة، ولم يستطع الكلام.
أنتبه فقط إلى نظراتها الحادة المرتابة المصوبة ناحية جانبه الأيمن، إلى حيث يقف الفتى الغريب، كانت ملامحها المصفرَّة -إضافة إلى أطرافها الراجفة- تؤكد فزعها المسبق إثر إطلاق النار في السوق، أما وقد أتى في غير موعد أوبته لاهثاً ، وبمعيته فتى غريب فذلك لا ريب ينبئ عن وقوع كارثة، أو ضلوعه في أمر خطير، قرأ ذلك في عينيها الزائغتين.
ظل فمها مفتوحاً للحظات، ثم شرعت تجاهد لتحرك شفتيها بطريقة توحي بإصرارها على قول شيء ما، لكنها عجزت عن التعبير، واكتفت بالتحديق إلى الفتى بعينين متسعتين مفعمتين بالدهشة. ولم يجد كلمات تخفف من حدة آلامها. فانفجر قائلاً بصراحة غير معهودة:
ـ لقد أنقذت الفتى من رجال آل شهوان.
لحسن الحظ، لم تستطع أن تعبر عما يتأجج داخلها من انفعال، إذ سقطت في نوبة طويلة من التبلد استمرت بعض الوقت، ما أتاح له أن يهدأ ويسترد أنفاسه قليلاً، وما إن أفاقت حتى أبعدت ابنها جابر عن الفتى الغريب، وكأنه حيوانٌ مريض، ورمقت زوجها بنظرة مأساوية قائلة بإحباط:
ـ قضي علينا بسببك، ماذا تنتظر؟ اذهب لتسلم نفسك لآل شهوان، لا أريد أن يتأذى أحد في منزلي.
أجاب بنبرات مضطربة:
ـ لا أظنك جادة.
ـ لن تبيت في المنزل حتى تصلح ما أفسدته.
ـ آح، ماذا أصلح يا زعفران!
ـ لا أدري، عليك أن تطلب صفح أولئك الرجال.
ـ لن أخلد إلى النوم حتى يستقر المسكين في منزله أولاً.
ـ ليس هناك مسكين أجدر بالشفقة منك، أما الفتى سوف تهب قبيلته لنجدته في أسرع وقت ممكن، وسنرى المئات من الرجال…
قاطعها صوت خبط قوي على الباب المعدني، وتقدم رب المنزل بخوف وفكّ مزلاج الباب بحذر، ولكن أجساداً بشرية مندفعة قذفته إلى الداخل رغم ضخامته حتى ارتطم بجدار المدخل، ولما أفاق من دهشته كان الفتى قد اختفى. لم يكن لديه وقت للتفكير أو المناورة، ولم يعد يجهل ما يجب أن يقوم به. امرأته رغم قسوتها لا تبتعد كثيرا عن الحقيقة، لكنها تخلق حوله ضوضاء عارمة، ولا تترك له فسحة للتفكير أو بصيص أمل، إنها متشائمة ومتبرمة بطبيعتها، وقد عرف ذلك قبل أعوام في ليلة الدخلة، إذ صرخت حتى أيقظت الجيران، وأغمي عليها عندما رأت دماء البكارة، وقالت له يوم ذاك بحنق:
ـ يطيب لك أن ترى الدماء أيها الجزار.
حدث ذلك قبل أعوام انقضت كأنها يوم واحد، والده اختار له ابنة جزار من نفس فئته. كان ذلك الزواج خبط عشواء، مثل الكثيرين من أبناء الأرياف الذين يتزوجون على طريقة الحظ والنصيب، وهذا هو حظه وقسمته من الحياة التي قدرها له الله، ففي أحد الأيام، اجتمع في المديرية عدد كبير من أفراد فئة البيع لإحياء عرس نجل كبير الجزارين، وعند المقيل جعلوا يتباهون بأبنائهم، ويتحدثون عن نوع فريد من التكافل الاجتماعي بين أعضاء هذه الفئة، وعندما تحدثوا عن الزواج وهموم الأولاد والبنات، طلب له والده يد ابنة جزار سوق الأحد. ولما كان المجلس يتحدث عن التكافل والشهامة وافق الرجل على طلب الزواج، واتفقا على جميع الشروط اللازمة لإتمام الزفاف، وكان الولد والبنت آخر من علم بأمر هذا الاتفاق، ومع ذلك تم كل شيء كما خُطِط له، وجاءت العروس تتهادى في مشيتها كالطاووس، وفي قرار نفسها فكرة عميقة بأنها أكثر تفوقاً على فتيات سوق الربوع2 في كل شيء. ولعلها كانت يومئذٍ جميلة أكثر مما توقع، ولكنها من داخلها كانت خشنة وقاسية ومتفاخرة، وهو لم يكن وسيماً حسب مقياس الجمال السائد آنذاك، بل أسمر بشفتين منتفختين، ذو جسد عملاق، ظريف طيب النفس خفيف على العين، ويمكن القول إنه مقبول، ومن النوع الهادئ الذي يلقى حظوة لدى النساء المضطرات للزواج، واللواتي لا يولين الشكل أو المال أي اهتمام، وبمجرد أن رأته أحست إنها خُدِعت وغرر بها. لهذا السبب أمست حزينة وعصبية، وظلت تتربص بالأخطاء التي تحدث من حولها مهما كانت تافهة، وإذا وجدتها أفرغت ما في نفسها من غيظ على رأسه. وكلما نفثت غضبها في وجهه، يتذكر أن هناك نوع من العسل لاذع المذاق يجرح الحلق حين نبتلعه، وهو رغم ذلك الأجود والأكثر طلباً، إذ يظن الناس إن فيه شفاء لبعض العلل…
أغلق مأمون ملف الذكريات، واستدعى زعفران بنظرة منكسرة، ووضع راحته بحنان على رأس ابنه الوحيد”جابر”، و قال بحزم من يقدم على شيء رهيب:
ـ إن لم أعُد يا بني، ابحث لك عن مهنة أخرى في السوق لتعيل بها أمك.
تعلق جابر بثياب والده وهو يقول بإصرار:
ـ أرجوك يا أبي، لا تذهب، لا تذهب.
أبعده والده برفق وقال بيقين:
ـ نحن من فئة البَيَع يا بني، ومن حسن حظنا أننا كذلك، لأنهم يتعالون عن إلحاق الأذى بمن هم أقل منهم شأناً.
ثم ضمه إلى صدره كشخص لن يعود، وودع زعفران بنظرة كئيبة متوسلة، ولكنها اكتفت بالتلميح إلى قلقها قائلة :
ـ لا أدري كيف سيكون حالنا من بعدك ؟
سقطت هذه العبارة على مسمعه كالعسل الصافي واعتبرها دعوة للمبادرة، فتقدم إليها واحتواها بذراعيه الثقيلتين، ولكنها صدته قائلة بخشونة مخففة:
ـ ألا تحتشم يا رجل أمام الولد؟ إننا في انتظارك.
ـ هاه ، نعم، لا داعي للقلق، لن أمكث طويلاً عند آل شهوان.
مضى بهذا الانتصار وهو في غاية الفرح والزهو، استيقظت داخله أحاسيس كانت دوماً نائمة، وجعلته لا يبالي بأي شيء آخر عدا ذلك التطور المذهل في علاقته وزعفران، ماذا يعني أن يقلق عليك شخص ما عند رحيلك؟ إنها بلا شك تشتاق إليه. إنها تنتظر عودته سالماً. إنها تشتهيه وإن لم تبُح بذلك علانية، إنها …..
أخذ يسلك الطريق الجبلي الوعر، بهيكله الضخم الطويل وكأنه أحد أعمدة معبد “أوام” في مأرب، وأثناء مشيته ينثر الحصى ويفتتها بعقبي حذائه القوي المصنوع من الجلد المدبوغ، ومن فينة لأخرى، يرمي بصره إلى القرى المتناثرة حوله على قمم الهضاب وبطون القيعان. تخالجه تهويمات وأفكار لم تخطر في باله من قبل، وتلح عليه رغبة شديدة في الغناء بموال حزين عالٍ، فأطلق لحنجرته العنان وأدى لحناً عفوياً كئيباً من صناعته. سار على عجل كأن هنالك من ينتظره خلف الجبال البعيدة.
يقابل في طريقه أشخاصاً يعرفهم، وعندما يحيونه يرفع راحته بتكاسل ويرد تحيتهم بأحسن منها، وحين يسألونه عن وجهته، يجيب بصراحة إنه سيسلم نفسه لآل شهوان، لكنهم لا يصدقون، ويظنون إنه في طريقه ليبتاع ماشية من أحد الفلاحين، وهو في العادة يسعى إلى توفير الذبيحة اللائقة بزبائنه المعتادين، فيبتاع ثوراً يافعاً قبل يومين من انعقاد السوق، وبالحجم الذي لا يفيض أو ينقص عن حاجتهم، ثم يبيعه بالتجزئة، حتى لا يبقى منه آخر النهار سوى فخذ يعود به إلى منزله، وفي أول يوم لمزاولته العمل وهو في العاشرة من العمر، كان مرغماً على ذبح دجاجة ثم خروف ثم عجل.
يوم ذاك حضر لفيف من أصدقاء العائلة للاحتفال بالمناسبة، وأغلبهم من الجزارين والبَيَع. ووقف أبوه فوق رأسه بشاربه الضخم ونظراته القاسية ممسكاً مقطعة اللحم الحادة، كان الفتى يعلم إن الأداة سوف تبتر جزءاً من جسده إن لم يفعل، ليس هناك في عُرْف الجزارين شيئاً أسوأ من كراهية المهنة، أو عدم الحفاظ على التقاليد. جده تصرف مع والده على هذا النحو، وهو نفسه ربما سيجبر ولده أن يفعل ذلك، ولعل جابر بعد اليوم لن يحمل مقطعة أو مدية، بل سيختار مهنته في السوق بنفسه، من يدري ما سيحدث؟
دار كل ذلك في ذهنه، وهو يمشي بانفعال لا يدري إن كان على الطريق الصحيح، والسبب يعود إلى أنه لم يغادر مجزارته في سوق الربوع منذ وقت طويل، لأن (الجلابين)3 كانوا يوفرون له حاجته، لذلك راح يسأل عن مركز قبيلة آل شهوان الرعاة والمارة الذين يصادفهم في طريقه المتعرج. وكان لابد له من التوقف لالتقاط أنفاسه بعد نهار مضنٍ من السير الدءوب.
ارتاح قليلاً تحت حائط مهدم في قرية مهجورة تقع بحدود القبيلة التي يقصدها، أخذ يتأمل الشمس الغارقة وسط شفقها الأصفر، وفكر في مكان يأوي إليه. ثم أسرع في مشيه مخلفاً وراءه عدداً من البيوت الخربة، آملاً أن يعثر على مكان آمن صالح للمبيت. وعند منزل صغير عامر هو الوحيد الآهل بالحياة، سمع نباح كلب يحذره من الاقتراب، ولمح بالقرب من ملجأ مكتمل البناء بقرة بيضاء تحرك خطمها وتهز أذنيها في الفراغ، فاقترب أكثر، وارتفع نباح الكلب أيضاً، وازدادت خطورته. وأثناء ذلك خرجت امرأة تستطلع، وطردت الكلب بعيداً، ثم فحصته بعينيها وتبادلت معه بعض العبارات القصيرة، كان ذلك كافياً لتطمئن وتدعوه إلى الداخل بهزة عصبية من رأسها.
استقر أخيراً وسط غرفة كئيبة هادئة، وأخذ يتبسم بتملق كما ينبغي لغريب أن يفعل تعبيراً عن امتنانه، وبعد قليل من الوقت استبشر بعودة المرأة مرتدية جلباباً محتشماً، وتحمل قنينة لبن وقدح قهوة يمنية، وضعتها أمامه وانصرفت دون كلام، ثم عادت سريعاً وهي تسند عجوزاً تبدو عمياء، صغيرة الجسد، محدبة الظهر، ترتدي بزة قديمة مخططة وتزين عنقها حلية فضية بدت وكأنها خرجت للتو من متحف الموروث الشعبي، وبعد أن اتخذت موضعها المعهود الذي تستقبل به عابري السبيل، أشعلت المرأة فانوساً فضياً يتدلى من السقف بواسطة قضيب معدني ينتهي بخطاف معقوف، وانطلق ضوء مبهر أصفر يميل إلى البياض، وعرف مأمون إن عليه أن يتكلم، ولم يجد في ذهنه سوى هذا السؤال المُلِح:
ـ هل لديكم متسع لعابر سبيل لليلة واحدة؟
علا صوت العجوز قائلة:
ـ يمكنك المبيت في مأوى الأجراء، لكن اسمع ما أقول لك …
أفصحت إنها لا ترغب في أن تتعرف على كل عابر سبيل، لكنها ترغب حقاً أن تتحدث إلى أي شخص يصغي إليها بانتباه. أنبأته إنها تعيش منذ سنوات طويلة في هذا المكان الخطير الفاصل بين القبيلتين، وتملك وادياً خصيباً يكسبها الغلال والمال، ويعمل لديها عدد من الأجراء، وتعيش ها هنا في دعة وسلام، ولا تريد شيئاً من الله سوى مساعدتها على الحفاظ على هذا الوضع الآمن من العيش، وتكلمت عن نفسها كثيراً، إنها “سودة ” حكيمة الأعراف في آل شهوان، وأكبر الناس سناً في تلك الأصقاع، وليس هناك من يستطيع تقدير عمرها، لأن جيلها قد اندثر، ولا يعرفها الناس إلا على هذه الهيأة، عجوز غابرة عمياء تدير شئونها وتعيل نفسها رغم ضعفها، وغرقت في الحديث عن انجازاتها وعراقة أرومتها ونفوذها الممتد إلى العشائر المحيطة بها، فهي الأم الكبرى لعائلات كثيرة، وكل شخص فيها ينتمي إليها بنسب معلوم، كانتساب الورق والأغصان إلى ساق شجرة عتيقة، لهذا لم تعد تذكر عدد أحفادها وأقاربها، وصارت تجهل الأجيال الصغيرة الناشئة، ما يدفعها إلى اعتبار كل شخص يصادفها يمت إليها بصلة ما، ومازالت رغم شيخوختها تتذكر أشياء كثيرة من تفاصيل الطبيعة المحيطة بهم، وتعرف الكثير من القرى والعشائر والطرق والأحداث الصغيرة والكبيرة، ويقول بعض الأهالي على سبيل المبالغة بأنها تعرف البحر عندما كان جزءاً من اليابسة قبل أن يسكن فيه الماء والكائنات البحرية.
كانت قريتها تعج بالناس، ولكن نيران الحرب التهمتها، ولجأ أهاليها إلى أقارب لهم في عمق قبيلة آل شهوان، غادر عشرة من أحفادها – الذين غدوا أجداداً – بصحبة أبناء وأحفاد لهم يحاربون في صف القبيلة، كلهم هجروا القرية وواديها مستجيبين لنداء الحرب، وبقيت معها ابنة أحد أحفادها الموتى، وقد خابت مساعي القبيلتين اللتين حاولتا التأثير على قرارها، أحفادها في آل شهوان حاولوا إخافتها من الخطر المحدق بها قبل أن يفروا من القرية، وآل طعيم قصفوا البيوت بنيران كثيفة قبل أن يقتحموها، لكنها خرجت إليهم من تحت أنقاض حائط مهدم، شاهرة في وجوههم عكازها، أو بالأصح سلاحها الوحيد، وأخذت تصيح بلا وعي:
ـ الأعراف لا تجيز لكم مهاجمة المساكن، وترويع الأهالي العزل والحيوانات، هيا اذهبوا لتنفضوا ضغائنكم على قمم الجبال كما يفعل الرجال الشرفاء حين يجبرون على ذلك.
ثم تنفست عميقاً واستجمعت أقصى قوتها لتضيف:
ـ اخرجوا من قريتي، أنا سيدة هذا المكان، أنا امرأة هرمة لا أرى شيئاً ولكني سأقاتلكم.
وأخذت تهش عكازها في الهواء بضعف شديد، وسمعت من القرب قهقهة المحاربين وسخريتهم، وعلا صوت رجل صارم ينهرهم عن الضحك، وبعد ذلك سمعت اسمها يتردد بوقار وتبجيل في أفواه المهاجمين، وازداد الأمر حيرة والتباساً، ولم تفهم شيئاً مما يدور حولها بسبب انطفاء بصرها واندهاش بصيرتها.
ـ ماذا تريدون من جدتكم حكيمة الأعراف “سودة” آل شهوان؟
ـ لا شيء أيتها الجدة، لا شيء، ليعلم القاصي والداني في آل طعيم أنك في أمان، ولن أتقدم ورجالي خطوة واحدة تقديراً للأعراف.
وانسحبوا تاركين المكان خالياً منهم، وبعد ذلك صرخت في الفراغ طالبة المساعدة، وجاءها صوت حفيدتها اليافعة، كانتا شبه مخدرتين وكأنهما تحلمان أثناء النوم، حيث لا يصاب الحالم بأذى رغم فداحة ما يحلم به، مازالت تتذكر عندما قالت الفتاة:
ـ جدتي ، ماذا يحدث ؟
ـ لا أدري يا بنيتي، لديك عينان مضيئتان، لكن الأعراف بخير، وهذا هو نقيب آل طعيم يعطينا الأمان.
وجاء من أعانهما على ترميم جزء من دارهما الخرب، وأولئك هم مجموعة عمال لا يتجاوزون أصابع اليدين، وقد بعثهم النقيب قادري آل طعيم، أما هي فمازالت محتارة، لا تعرف بعد لِمَ فعل النقيب قادري ذلك، أحياناً يشفق الأقوياء على ضحاياهم، وفي أحايين أخرى يكون الدافع الكرم أو الكبرياء أو الخوف من لوم الآخرين واستهجانهم، لكنها تعلم جيداً إن مبعث كل تصرف نبيل لأي محارب هو احترام الأعراف.
ـ حدث هذا قبل أعوام.
ختمت العجوز كلامها بهذه العبارة، وها قد أصبحت الفتاة اليافعة امرأة عانس في الثلاثينات من العمر، كانت تقف عند قدمي جدتها تحك باطنهما، وقد زالت آثار القسوة عن وجهها الريفي وافر النضج، وبدت محايدة ومبالغة في صمتها ووقورة كمتدينة تخشى فتنة الكلام. ومن حين إلى آخر تهز رأسها حتى لا يخبو حماس الزائر، ومن ثم يغادر قبل أن تفضفض جدتها ما في حوصلتها من حديث، ستكتئب عندئذٍ عدة أيام.
استخرج مأمون من مخلاته قرصين من كعك الشعير أكلهما باللبن وشرب قهوته على وقع حديثها المتسلسل …
ثم قاطع حديثها قائلاً فجأة :
ـ النقيب”أرحب” قُتل وسط السوق يوم أمس.
ارتعش جسد العجوز وضربت عكازها في الأرض بضعف شديد، وهتفت بفجيعة:
ـ من انتهك الأعراف يا بني؟
أتيحت له الفرصة ليتحدث رغم اعتقاده أن لا أهمية تُذكر من سرد أحداث مرهقة على مسمع امرأة عجوز معمّرة.
ولما انتهى خاطبته بصوت متهدج :
ـ إذا كان يجب أن تموت دع الموت يبحث عنك.
ـ أنا جزار ليس إلا.
ـ بل أنت تبحث عن ثور تبتاعه، يمكنك قول ذلك، ليس لك هدف آخر، وإن افتضح أمرك، لا تنكر أنك من فئة البَيَع.
وأخيراً بددت حيرته وخففت من إحباطه حين أردفت وهي تمسح دموعها :
ـ لن يدعك الكلب وشأنك ما لم ترافقك حفيدتي إلى المأوى.
سار وراء المرأة مستعيناً بضوء فانوس صغير، إلى أن وصل إلى بناء خلفي كبير، وعند باب واسع توقفت قليلاً، ثم مضت بعصبية دون أن تمهله حتى يهيئ نفسه للنوم، وصار عليه أن يتدبر أمر فراشه بنفسه. ألقى نظرة ضبابية عابرة إلى الداخل، بالكاد لمح خيال آدميين ممدودين مكدسين في مجال مظلم. هيئ له إنه رأى طيفاً أسود من البطانيات مكوماَ في إحدى الزوايا. كانت الأطلال المهجورة بالخارج مخيفة، والليل شديد الظلام، ولكن أنفاس الرجال القوية أيقظت في روحه الإحساس بالأمان، فأخذ يتلمس طريقه مهتدياً بشخير أنفاسهم، حتى استطاع أن يعثر على موضع فارغ صالح للنوم.
أفاق في جزء من الليل على صوت فظ يرتل القرآن، ثم لمح خيال آدمي يصلي ويهتز بشكل فجائي غريب وهو يردد أكثر من مرّة الآية من القرآن ( قلنا اخرج منها فإنك رجيم..) لم يدرك هل ذلك الارتعاش الفظيع مبعثه الخشوع والتأثر، أم الحقد على الشيطان. في الجوار صدح صوت الديك معلناً عن الفجر، عندئذٍ جفا النوم عينيه، ففي مثل هذا الوقت يكون في منزله منزوياً قرب الموقد الفخاري، منتظراً استواء قهوة البن داخل جرة الفخار الصغيرة، يجلس وامرأته بالقرب من النافذة المفتوحة يتأملان إلى الخارج بصمت تام، لحظات جميلة من الصفاء والوئام بينهما، هو يشرب قهوته ويدخن في غليونه المحلي، وهي مخدرة مكومة بجانبه كأنها عروس مازالت خجلة مما حدث في المساء، ولكن لا تلبث تلك الوداعة أن تزول حين تشرق الشمس ويفيق أطفال البَيَع المشاكسين وتحل الضوضاء محل السكون.
شرع الرجل يتحرك بجواره بخشونة، وكان قد نسي وجوده، وأوشك أن يدوسه على بطنه، ثم تنحى جانباً رافعاً صوته الأجش، وسمعه يترنم بأهزوجة غدو الفلاح.
يا الله بارك لنا هذا الصباح .. أنا أسألك قدر علينا بالفلاح.. اصلح لنا الزرع يا رب الصلاح.. (احنا) طلبناك اسمع يا مجيب.. (نيسان) على الأبواب يصيح.. هاتوا (الذري) كما الموسم مليح.. والرعد يضرب (قرَّح) الدنيا (قريح).. هل المطر (شل) نفسك يا غريب.. ما أقدر أقدح ولا اخبز لك ولا.. ضيفي الصيف نازل ب(الهلا).. وبعد نيسان إذا الدنيا (حلا).. لو دقيت باب اطرش يجيب.. شل نفسك لا بلادك شلها.. وازرع ارضك و(العدامة) خلّها.. الأرض إن ماتت تقاتلت أهلها.. ويبكي عليها البعيد قبل القريب …………..
وهكذا أدرك إن فصل الصيف على الأبواب، أكد له ذلك صوت الحادي المزعج الذي لا يخلو في نفس الوقت من الأمل والحكمة، ومازال يقف عند باب المنزل يباشر حداءه المنتظم، غير شاعر بأي ذنب يقترفه في تلك اللحظة المبكرة من الصباح.
تحرك مأمون بتململ، وتمطى متثائباً في حشرجة حادة، ولكن الحادي لم يعره انتباهه، وكأن وجوده أمر لا يخرج عما اعتاد عليه المنزل، بدا واضحاً إن موقع القرية المتطرف يجلب إليها عابرو السبيل، أولئك الذين لا يجرؤون على التوغل عمق الجبال في الليالي السوداء، لتصبح القرية – حسب التصور الحديث – كأنها محطة ترانزيت أو مركز جمرك بين قطرين جارين، وأخيراً تحرك أحد رفاقه بتثاقل، وصاح متكوراً في اللحاف :
ـ تترنم هكذا كلما حل في كوخنا ضيف.
حبس الحادي صوته، وأجاب بجذل محاولاً احتواء الموقف:
ـ أي ضيف أزهى من الصيف، إنه قادم، إنه قادم.
ـ كثير من الناس يدركون ذلك، أنا نفسي بشرتك بكوكب نيسان الذي يختبئ وراء الزهرة.
ـ أظن هذا الصيف مختلف عما سواه، ليس لديك خبرتي في فهم الإشارات التي تحدث الآن. رياح الغرب الخفيفة المبشرة، وميض أشعة الشمس وشدتها، حتى سماع أصوات السحالي في جنبات الدور القديمة، وعلامات أخرى أحتفظ بها لنفسي.
ـ وأنا لدي علامة، عندما تكف عن الصياح…
قاطعه قائلاً بيأس :
ـ أعرف أنك لا تؤمن بفراستي، ولكني سأريك أن حصاد الموسم القادم لن تتسع له المخازن، وسنضطر إلى إيجاد أماكن أخرى نخزن فيها الحبوب.
بعد قليل من الوقت كشفت أضواء الصبح الخافتة وجوه الأجراء، فلاحون سمر ذو ملامح قاتمة وأجساد كادحة، وأقبلت الجدة وحفيدتها تمشيان ببطء وقالت تخاطب الأجراء الخمسة بحزم:
ـ ما ترونه يلمع من بعيد هي قذائف المحاربين، وليس برق الصيف، وما تسمعونه ليس الرعد، بل دوي الحرب، تأهبوا للرحيل في أية لحظة. وأنا سأرحل وهذا الرجل السيئ الحظ.
عوى الرجل الحادي عواءً حزيناً، لأنه لا يرغب في هجر الأرض، ونظر بمزيد من الحقد إلى الزائر، والشرر يتطاير من عينيه. بدا واضحاً إن الأجراء يمقتون الزوار، لأنهم في الغالب يأتون بما لا يسر، إما أخبار سيئة، أو نصائح بإتباع طرق عسيرة في الفلاحة والري. أسرع مأمون في الخروج من مأواهم القذر قبل أن تسوء الأمور.
حمل العجوز على كاهله كطفلة صغيرة، وسار والمرأة في طريقهم خارج القرية المدمرة. كانت أشعة الشمس القاسية لامعة ومتعامدة في السماء، وطائر عقاب يحلق فوق البيوت المهجورة باحثاً عن شيء يصطاده، إنها بيئة مناسبة للفئران والهوام والعصافير الصغيرة التي يتغذى عليها هذا الطائر، وفي جزء من الطريق تعثروا بمجموعة من النساء يقودهن شاب ناضج.
كانت رؤية مجموعة من النساء المهاجرات هي إحدى علامات الحرب، فإذا نشبت تنفك للتو عرى الصهار والصداقات بين القبيلتين، على الأقل لبعض الوقت، حتى يعود الوئام بينهما، ومن ثم تؤوب النساء إلى أزواجهن، وتسري المحبة مرة أخرى بين الأصدقاء وكأن شيئاً لم يكن، ويبدو أن هؤلاء النسوة عائدات إلى بيوت آبائهن في آل شهوان. لم يكد أحد منهم يرى العجوز على متنه للوهلة الأولى، وحين لمحوها فرحوا لاسيما النساء، وصرن يقبلن وجهها الناشف بإجلال، وقال الشاب مختلقاً سبباً للحديث:
ـ أسمع دوياً من بعيد، ولا أدري هل هو صوت الرعد أو الحرب!
أجاب مأمون :
ـ إنها الحرب.
صاحت العجوز:
ـ هل أسمع رجلاً آخر يتكلم؟ أم إنها إحدى حريم قبيلتنا؟
ـ إنه عابر سبيل يا جدتي.
ـ أهو عابر سبيل؟
ـ إنه شاب يائس، ولكنه لم يقترف ذنباً جسيماً مثلي.
ـ اطمئن يا بني، سأحميك من شرور الأوغاد.
قال في سره بيأس: ” كيف بوسع عجوز عمياء معمرة أن تنقذني؟ يا للعجب.”
كان دوي الحرب يُسمع عن بُعد، وتناوبت النساء على حمل المرأة المسنة. لأن التأخر في السير ليس من صالحهم. كانت خفيفة جداً كورقة يابسة، والثقل المحسوس منها هو وزن عكّازها وهيكلها العظمي إضافة إلى تبرمها وثرثرتها. فجأة تلطف الجو عندما حجبت الشمس غيمة سوداء عريضة، ودوى صوت رعد حقيقي لا يصعب تمييزه، وكادت إحدى النساء أن ترمي الجدة عن ظهرها من الفزع، لكن الشاب تناولها قبل فوات الأوان، وكلما تقدموا ارتفع دوي الحرب ممتزجاً بأصوات الرعود، وصاروا في رعب شديد، فالحرب لا تجيد أحياناً التمييز بين العدو والصديق، إنها مثل الجدة سودة عمياء، ومثلها قديمة لم تحن بعد نهايتها. وفي ذروة هذا العمر الخرافي تُحمل على ظهورهم كقطعة سلاح متآكلة، وليتها تستطيع النظر إلى الأشياء التي حولها، ولكنها تقاد إلى الفوضى التي يفتعلها أبناؤها، ومع ذلك يظل في نفسها الملتهبة فضول زائد لمعرفة ما تعكسه عيون المسافرين من مناظر، لم تقنع بجواب الشاب:
ـ السماء زرقاء، لا غيوم فيها، والأرض غبراء موحشة.
ـ خير لي أن أحمل على ظهر بغل لو أستطيع الثبات.
ـ لِمَ كل هذا القنوط ؟
ـ هيَّا، أرحني على ظهر امرأة .
حولها إلى رفيقته التي نقلتها بالسرعة نفسها إلى ظهر أخرى، ثم إلى التي تليها، كلهن أجبن بفتور واستهتار. كيف استعصى عليهن فهم مرادها!
في آخر المطاف، حملها مأمون كأنها ريشة طائر، استقرت على ظهره المفرطح، مستمتعة بذلك المقدار الرحب من السعة، سألته قائلة بدلال كبار السن:
ـ هل أنت مأمون الجزار يا بني؟
ـ نعم، أنا هو عاثر الحظ.
ـ أأنت فارع الطول لأني أسمع أصوات النساء تأتي من الأسفل؟
ـ نعم، طويل وعريض، ولكن الرصاص يحصد كل شيء يقع عليه.
ـ نعم، عندك حق في ذلك.
وأضافت بعد هنيهة باهتمام:
ـ هل تستطيع أن تصف لي ما تراه في الطرق والقرى والوديان؟
ـ ما أفظع ما أراه، كأن أسوار القرى مدمرة، وعدد كبير من منازلها محطم، ومازال الطلاء حديثاً على الجدران، وأمتعة الناس مبعثرة بين الحطام، وكأن ثلة من الأطفال ينقبون عن بقايا ملابسهم بذهول.
انفجرت العجوز صارخة وهي تلوِّح بعكازها في الهواء لتلفت انتباههم:
ـ أيها المهاجرون الحمقى، هل اجتزنا عقبة نقيل الحدبة؟ إن أدركنا الليل قبل أن نبلغ مشارف قرية “حازم” هلكنا.
عجز الجميع عن الجواب، فأخذت على عاتقها مهمة إرشادهم إلى الطرق التي تظنها آمنة، استعانت بذاكرتها الثاقبة ومهارة مأمون الفائقة على وصف الأماكن. يخترقون قرى صغيرة تقف على طريقهم، ويهتدون بأسمائها التي لا تتغير بسهولة مع التقادم. ليس فيها غير أطفال ونساء يكدحون في الطرقات والحقول، ألقى إليهم الرجال الأقوياء مهمة إعالة أنفسهم، بينما ذهبوا للقتال في صف قبيلتهم. كان ذلك عُرفا ًشائعاً للتحالف، ومناسبة غير محببة للتعارف بين كم كبير من المحاربين، ولكن الذين يتقابلون في الجبال لا يأملون أن يلتقوا مرَّة أخرى، لأنهم يصبحون عرضة للموت في أية لحظة.
أخذت المجموعة تتحرك بسرعة في محاولة يائسة للوصول قبل حلول الظلام، لا تكف مرشدتهم العمياء عن السؤال عن الأمكنة، أما الأزمنة فهي تهتدي إليها بواسطة إحساسها بوطأة أشعة الشمس على جلدها الجاف، أو بالأصوات التي تأتي من القرى والعزب القريبة، بكاء الأطفال أو نباح الكلاب أو غناء الرعاة أو صراخ النساء، كل هذه الأصوات لها زمن تستطيع تكهنه، فالبكاء والنباح والغناء أصوات تحدث عادة في الظهيرة، حين تنشغل الأمهات بالطهي أو إطعام الحيوانات، وإذ ذاك تحس الكلاب والرعاة والأطفال بالملل والجوع، أما صراخ النساء فإنه يرتفع مع دنو الليل، حين يشعرن باقتراب اللحظات القاتلة التي يقضينها متقلبات على فراشهن البارد، بأجساد ذابلة متعبة تتوق إلى ملامسة أجساد رجالهن الغائبين، لكن أصوات المؤذنين في المساجد هي أبرز العلامات، ومن قرية صغيرة ارتفع صوت المؤذن معلناً عن ميقات صلاة العصر، وقررت المجموعة إقامة الصلاة في ميقاتها تحت ظل شجرة خنس كبيرة، وطفقوا يفرشون الأرضية بالسجاجيد، وصاحت العجوز بقلق :
ـ أين نحن الآن ؟
أجاب مأمون الجزار:
ـ إننا عند شجرة خنس ضخمة على قمة ربوة.
ـ أعرف هذه الشجرة، إنها مثلي معمرة، آه ما كان أجملها. هل مازالت جميلة؟
لم يجب عليها أحد، لأنهم كانوا مشغولين بطقوس العبادة، لكنها لم تلبث أن صرخت:
ـ لماذا توقفتم عن السير إذن؟ هيا، انطلقوا، لسنا في الموضع المريح.
ـ إننا نصلي.
ـ هيا أيها المسافرون، الله باقٍ ويمكنه الانتظار. أسرعوا، حياتكم في خطر.
أفلحت الجدة سودة في جذب اهتمامهم، لأنهم يحبون الحياة وإن تظاهروا بعكس ذلك، وواصلوا السير. سلكوا طريقاً جبلياً وعراً غير واسع بما يكفي. وسرعان ما جذبت أنوفهم روائح نتنة لجيف متفسخة، وتطايرت من أمامهم عشرات النسور. وهناك رأوا جثث المواشي النافقة على المنحدر، وظهرت مواقع المحاربين في الجبل المقابل واضحة للعيان. كانت هناك عين ماء جارية غزيرة تصب في الأسفل، لذا كانت الأرض مبللة زلقة، فصاروا يمشون بحذر شديد.
في تلك اللحظات تساقطت القذائف عليهم، وتصاعدت أدخنتها عالياً في السماء، إلا أن أحداً منهم لم يصب بأذى، لكنهم أدركوا أنهم في عقبة الحدبة الخطيرة، وهي تشبه مضيقاً خانقاً، وليس هناك من منفذ آخر للعبور، وأحاطوا بالجدة سودة من كل جانب، ليس من أجل حمايتها، ولكن من أجل أن ترشدهم إلى طريق النجاة. وجاء صوتها مفعماً بالحزم والقوة قائلة بثقة:
ـ تفرقوا أيها الحمقى، تخففوا من ملابسكم، دعوا شيئاً للستر، اطلوا أنفسكم بالطين لتصبح أجسادكم أقرب إلى شكل المنحدر، هيا لا تخجلوا.
احتاروا من غرابة الحل وصعوبة الموقف، ورد الشاب بارتباك:
ـ حتى النساء نطليهن بالطين؟
ـ نعم، لا ريب أنهن ناصعات البياض وواضحات للعيان.
تحرر الجميع من بعض ملابسهم تحت ضغط النيران المتساقطة، ثم تلطخوا بالطين، ماعدا العجوز الضئيلة المتوارية خلف الرجل الضخم، وتسللوا – الرجال في المقدمة – عبر المنحدر متعاقبين، ورغم خطواتهم الاحترازية ارتج المكان ثانية، وتصاعدت من حولهم أدخنة كثيفة. مرت لحظات رهيبة أنستهم أسماءهم وصفاتهم، وعللت النسوة سبب تعرضهم للقصف إلى ضخامة جسد مأمون الجزار، وحسدن جدتهن على هدوئها.
انزوين في الأسفل جانباً ليمسحن الطين عن أجسادهن العارية، ثم ارتدين ملابسهن متحاشيات الأنظار غائصات وسط الغروب، والحقيقة إن الرجلين كانا مشغولين بنفسيهما، يفكران فقط في البقاء على قيد الحياة. لم يكن هناك من جهد في جسديهما للشقاوة واختلاس النظر، وأتى صوت الجدة مرتبكاً مبدداً أفكارهم:
ـ هل الجميع بخير؟
ـ نعم..
ـ انتهى الجزء الشاق من الرحلة، والآن إن كان لابد أن نريح أجسادنا. هنالك مغارة مخفية كنا منذ زمن بعيد نأوي إليها.
ثم أشارت إلى أوصاف طريق سلكوها بحذر شديد، وساعدهم على العبور احتجابهم عن الجبل الذي يحتله المحاربون، ولم تخذلهم ذاكرة الجدة سودة هذه المرة أيضاً. لقد وجدوا آثار المغارة حيث أشارت، واستطاعوا بالكاد المروق عبر فوهة مغطاة بتوليفة متنوعة من الشجيرات الشوكية. كان التجويف رطباً بارداً من الداخل، فأخذوا يحفرون بأصابعهم أماكن لأجسادهم المتعبة، ثم افترشوا بعضهم غير مكترثين بالآداب العامة، بل إنهم أكلوا في الظلام مستمتعين بالاستلقاء والراحة. وخرج صوت العجوز ممزوجاً بإرهاق واضح :
ـ نسير مع طلوع الفجر، ففي ذلك الوقت ينام المحاربون وتصحو العصافير.
سقطوا نائمين منهكين كالموتى، ونامت نوماً عميقاً على صدر مأمون. كانت مرهقة بالرغم إنها بقيت طوال الوقت محمولة على كاهله وكاهل الشاب، إلا أن التعب الذي يتملكها كان يأتي من داخلها، من أشجانها ومخاوفها، ومن المجهود الذهني الذي أرهق روحها وذاكرتها القديمة، وللشيخوخة أيضاً إرهاقها الخاص في جسد امرأة معمّرة كفيفة البصر.
عند الفجر استيقظوا، وأخذوا ينفضون الغبار العالق بملابسهم وأطرافهم، ويتحسسون أعضائهم بسرية تامة، لا سيما النسوة، وقطعوا المسافة القصيرة المتبقية إلى قرية “حازم” وسط ضياء داكن يصفو مع مرور الوقت، حتى وصلوا بسلام مع أشعة الشمس الشارقة. صادفوا عند ناصية القرية لفيف من فلاحات فقيرات وفتيان حفاة كانوا في طريقهم إلى الحقول، ولما عرفوا العجوز أخذت حلقة المحتفين بها تتضخم وتتسع، أحاطوا بهيكلها الضعيف متشبثين بردائها القديم، حتى نزعوها عن ظهر مأمون. وحملوها مسرعين صوب الدار الكبير مهللين.
ودوت الزغاريد في أرجاء القرية، وأفاق الأطفال الصغار من نومهم قافزين إلى الأبواب في فضول زائد، وتبادي بعض الشيوخ المقعدين من نوافذ الدور القديمة، تطفر من عيونهم الدموع، لأنهم لا يستطيعون لقاء جدتهم سودة، وبعضهم تمكنوا من العبور مستعينين بعكاكيزهم أو أكتاف ذويهم، والبعض طلب أن يُحمَل على ظهر حيوان إلى الدار الكبير. أرادوا جميعاً أن يقفوا على أخبارها، لأنها لا تأتي من دون أسباب وجيهة، ولكنها قالت بغضب :
ـ أين الرجال الأوغاد منتهكو الأعراف؟
صاحوا بصوت واحد:
ـ إنهم على قمم الجبال البعيدة يحاربون آل طعيم .
ـ أخبروني حين يأتون للطعام والشراب.
عند الظهيرة عبرت أعداد معقولة منهم طرقات القرية بملابس وأسلحة الحرب المغبرة، متباهين ومنهكين، ولحوحين في طلب المؤن الضرورية، رائحة الشواء والطعام المقدد ملأت الفراغ. كان ذلك اليوم مختلفاً عن الأيام العجاف السابقة، فالنساء تطهو طعاماً إضافياً على شرف الجدة سودة. سار طالبو المؤن متباهين وواثقين بأنفسهم، حتى دخلوا الدار الكبير. أطلوا كصقور أرهقها التحليق، وازدحموا على رأس المرأة المسنة ليحظوا بفرصة التحديق فيها، هتفت بصوتٍ مستفهمٍ:
ـ أأنتم طالبو المؤن؟
ـ نعم، وجئنا للطعام .
ـ ستحملون أيضاً (خصلة)4 من رأسي إلى منتهكي الأعراف.
وأخرجت خصلة معقودة في طرف ردائها المخملي العتيق، فارتفعت زفراتهم المتأففة حتى تحولت إلى أصوات تشبه العواء، ثم أشاحوا أنظارهم في جفاء، لكنهم رغم ذلك أخذوا الخصلة البيضاء وعادوا بالمؤن إلى الجبل، وسألت من حولها بتهيب:
ـ هل كانت أفواه أسلحتهم منكسة للأسفل أم مرفوعة للأعلى؟
حل الصمت لوهلة، ثم نطق أحدهم بيقين:
ـ أظنها مرفوعة للأعلى، بل أنا متأكد من ذلك.
حسم الأمر شخص آخر:
ـ نعم، نحو الأعلى.
أدركت بأنها تحاول عبثاً أن تعيد الحياة إلى عروق الأعراف الميتة. في المساء أسرّت إلى مأمون بعض الأسرار والأمارات، وطلبت منه أن يراقب في الغد، فإذا أنكب منتهكو الأعراف قرب قدميها، فإن ذلك مؤشر حسن، وإن وقفوا في أماكنهم جامدين كالأصنام، فينبغي ألا يعول على حمايتها، أو يأبه لمصيرها، لأنها استوفت حياتها، وصارت اللحظات التي تعيشها مملة، ولا تنتظر شيئاً جديداً من الحياة. ينبغي أن يمضي مسرعاً في طريق العودة دون أن يلتفت إلى الوراء. وجاء الغد ولم يحضر منتهكو الأعراف، وهذا بحد ذاته هو أقصى درجات الاستخفاف واللامبالاة، ولا يمكن أن يرجى منهم أي خير، وما كانت تظن أن يصل بهم الحد إلى درجة إهمال دعوتها وتجاهل أمر مجيئها. وطلبت منه الاستيقاظ عند الفجر، والاستعداد للعودة إلى دياره، قائلة:
ـ الجو ينذر بالسوء، أعرف هذا الشعور من قبل، لا أريد أن نتمرغ في الامتهان أكثر من ذلك، مصائرنا الآن أصبحت في أيدي منتهكي الأعراف.
لم يفهم أن كل شيء يصبح مباحاً عند انتهاك الأعراف حتى أجساد الطاعنين في السن، وأصر على تحقيق هدفه. لقد جاء من أجل تسليم نفسه للقبيلة آملاً أن يجد فيها قلباً رحيماً يعفو عن حماقة جزار وضيع، لكنها قاطعت أفكاره مضيفة بصوت خفيض حاد:
ـ لا تتأخر في العودة إلى أطفالك وزوجتك الحمقاء.
كانت الكلمات مؤثرة، ورغم ذلك ظل يفكر في العنف الذي سوف تلقاه به زعفران عندما تعلم إنه لم يطلب الصفح. لن يعود خائباً بعد كل ما كابده من عناء السفر. وقال بتأكيد:
ـ لن أعود خالي الوفاض، لابد أن أقابل آل شهوان.
ـ افعل ما تشاء.
وعقب صوتها الحزين، ساد الصمت.
***
كان صعود الجبل الوعر هو الجزء اليسير من المهمة، وأما الجزء العسير منها هو التفكير بعد ذلك في ما جرى. في الجبل مر بأسوأ ظرف في حياته. حيث اعتقل داخل كهف مظلم يحرسه رجال بشعون لا يرى الإنسان أي أمل في النجاة بمجرد رؤيتهم. كانت تشع من عيونهم نظرات الحقد والإجرام، وتبدو رغبة الأذى واضحة عليهم وهم يقودونه إلى نقيب القبيلة. بعد قليل أجبر على الوقوف بشكل مهين أمام الرجل القوي منتهك الأعراف النقيب حسون. ورغم ذلك وقف معتدلاً بثقة شخص يظن نفسه مدركاً بما يفعل أو يقول، ولكن بمجرد أن وقع نظره على الوجه الصارم ذي الكدمة على الجبين، حتى تذكر أنه رآه يطلق النار على النقيب أرحب، وسأله الرجل بقسوة سؤاله المزدوج:
ـ من أنت وماذا تريد؟
شعر بخدر في ساقيه، ولم يسعفه الوقت والمباغتة ليفكر في جواب زائف فقال:
ـ أنا مأمون الجزار، وأتيت أطلب الصفح.
قهقه الرجل ذو الكدمة بصوت فج، ثم بسط أنامله للسلام قائلاً بسرور ظاهري:
ـ أنت في بالي على الدوام، أهلاً بك في أرضنا أيها الجزار الطيب.
تشجع إثر المديح والترحاب وصافحه وهو لا يدرك حجم السخرية التي تملأ ألفاظه، وتابع الرجل:
ـ ثم أي ذنب اقترفت حتى تطلب الصفح!
ـ كنت أظنكم ناقمين و…
ـ لا، أنت رجل أصيل وشهم، ولا تكذب أبداً، وأظنك رأيتني أطلق النار في السوق.
ـ رأيت السيارة و…
ـ نعم، أنا أصدقك، وبما أنك صعدت إلى مخبئي في الجبل ينبغي أن أستضيفك بعض الوقت. (ونظر إلى أتباعه) أكرموا هذا الرجل الطيب.
تنفس مأمون الصعداء، وظن إنه سينجو، لكنه فوجئ بنفسه يسحب بقسوة، كانت أذرع الأتباع الخشنة تتجاذبه من جميع الاتجاهات. رنا إلى الرجل الذي أكمل معه الحوار للتو، فألفاه منشغلاً بالنظر إلى جهة أخرى، وأحس أن هناك سوء فهم من الرجال الذين يسيئون معاملته. لابد إنهم سوف يدركون خطأهم عما قريب، ثم سيأتون نادمين معتذرين، ولكن عندما لفوا حول جسده الحبال أحس بالارتياب، وندم لأنه لم يسمع نصيحة الجدة سودة ويرحل إلى ولده وامرأته. وهكذا ظل معتقلاً في كهف كبير مظلم، يحرسه حارس يظل يدخل طيلة الوقت، ولا يتبادل معه أي حديث رغم المحاولات المتكررة من طرفه، وكان أحياناً يفارقه ويجلس عند المدخل ليدخن في غليونه بصمت، ولا يدرك الأسير بفعل الظلام متى يطلع النهار ومتى يغرب، إلا من خلال بعض الخفافيش التي تنشط أحياناً وتصول وتجول داخل الكهف، وفي حين آخر يلمحها متدلية بتكاسل على جدرانه وسقوفه المائلة بشدة ناحية المدخل.
وصار يُنقل من كهف إلى آخر، ويتحرك مع المحاربين من جبل إلى جبل، وهذا أضفى على أيامه الرتيبة بعض التغيير، كانت الكهوف مليئة بالزواحف السامة والحشرات المخيفة كالعناكب والخنافس والدبابير، وفي أحد الكهوف ذات الأرضية الرطبة شاهد خيال عقرب بحجم راحة اليد يتجه ناحيته، فأطلق صيحة استغاثة، وأتى الحارس وغرز خنجر الكلاشنكوف في وسط الزاحف، وأخذ يشهره أمام عينيه، مستمتعاً بصراخه وخوفه الفطري من الزواحف، وازداد اليأس في نفسه حين تعرّف على وجهين راسخين في ذهنه، وهما وجها شقيقا النقيب حسّون، وهما الرجلان الآخران اللذان رآهما يطلقان النار على النقيب أرحب آل طعيم في سوق الربوع. كانا في الجبل قائدين ميدانيين يتمتعان بنفوذ وسلطات واسعة، وطالما سمعهما يصرخان في الحرّاس، ويحشران أنفيهما في كل شيء. وسمع آسريه يتحدثون عن الحرب الدائرة بين القبيلتين، وعن وجود أسرى من الخصوم، وعن نوع من المعاملة القاسية التي يتعرضون لها، ولم يصدق ذلك في بادئ الأمر، حتى دخل الشقيقان إلى كهفه، وجعلا يسرفان في شتمه وتوبيخه، ثم وضعا نعالهما في ذقنه ووجهه، وصفعاه في خديه، وهذه أقسى إهانة يمكن أن ينالها إنسان في تلك الأصقاع، ومع ذلك ظل صامتاً حتى فقد معذبوه صبرهم فشتموه وتركوه في حاله وانصرفوا يائسين، إذ كانت لديهم مهام كثيرة وأضرار جسيمة، وقد شاهد بأم عينيه بعض الجرحى ممددين على الأرض، جراحهم بليغة ودماؤهم تنزف بشدة، ومع ذلك يعالجون بطرق تقليدية، وبأساليب يائسة، وسرعان ما يموت معظمهم بين أيديهم، ثم يدفنون داخل الكهوف. وكان يزعجه كثيراً البقاء هناك عاجزاً مصفداً يحيط به الألم والموت والدماء من كل جانب. بعد بضع شهور أطلق سراحه لأنه صار عبئاً عليهم في ظل احتدام وتيرة الحرب، وأرادوا استغلال ضخامته في نقل الذخائر والمؤن كأي بغل من البغال التي تساعدهم على حملها إلى مواقع المحاربين.
كان سعيداً بفعل التحرك والمشي رغم العناء الذي يناله، حيث أمسى يتعرض للقذائف، بينما الرجال يحتمون وراءه وكأنه صخرة أو جدار، وكان من لحظة إلى أخرى يظن أنه سيسقط مثقوباً برصاصة أو شظية، ولما كان يرهقه التعب يتمنى على الرصاصة أن تتجه ناحية قلبه، لكنها في كل مرة تخطئه لتصيب أشخاصاً آخرين لم يتمنوها. رأى أموراً فظيعة فعلها المحاربون، كانوا يخطفون المواشي على الرعاة، ويغتصبون الفلاحات وسط الشعاب والحقول، ويغيرون على القطعان والمحاصيل ويسرقون الحملان وأكواز الذرة ويشوونها في الليالي الباردة، وكانوا دائماً يلقون التهم على الخصوم، وينتقمون من أي شخص يقف في طريقهم، لكنه كان حذراً متكتماً، يحبس ألمه وغيظه في أعماقه، ويفعل ما يؤمر، ويأكل ما يقدم له دون أن يند عنه أي تبرم أو استياء.
أدرك رغم سذاجته أن لا جدوى من التوسل، لذا لم يحاول أن يقترب من ذي الكدمة، أو يلقي إلى وجهه نظرة عابرة، بينما أخذ الرجل القوي يقترب منه ويعرض نفسه عليه تاركاً له فرصة مناقشته، إلا أن الأسير ظل يتجاهله ويرد طرفه عنه حتى لا تلتقي أعينهما ومن ثم يكون الحديث أمراً محتوماً. ذات مرة اقترب منه وقال بنبرات حادة:
ـ لِمَ لا تتكلم؟ لو كنت في مكانك سأعبر عن تذمري من سوء المعاملة التي ألقاها.
ـ لن يفيد التذمر، لقد جئت إليك بقدمي وأستحق أن أقضي عمري في الجبل.
ضحك الرجل، ولكن قذيفة سقطت بالقرب نثرت التراب والحصى، واختفى الرجال خلف الصخور السوداء. وراح النقيب حسّون يتحسس أعضاءه، ثم ترك موضعه بحنق، وراح يشهر سلاحه ويطلق النار باتجاه العدو، ومرت الأيام والأسابيع دون أن يفكر في المدة التي سيقضيها في الجبال، لقد أمضى كثيراً من الشهور بلا ريب، حتى اعتاد عليه المحاربون، ونسوا أنه أسير لديهم، وفوّت فرصاً كثيرة للفرار.
مع مرور الأيام، تضاءل أمله في الخروج سالماً من الجبل، وفي يوم اكتشف إن الشقيقين وحشد كبير من المحاربين يقيمون طقساً احتفالياً كالمنتصرين، ولم يعد أحد يسمع صوت رصاصة واحدة إلا ما تطلقه بنادقهم في خضم الفرحة والاحتفال. وسمع أن الحرب قد توقفت بصلح طويل الأمد بين القبيلتين، ورغم ذلك لم ينزلوا عن الجبل، وأتى الرجل ذو الكدمة وقال له ببرود:
ـ انتهت الحرب، واسمك من ضمن الأسرى المطلوب إطلاقهم.
ـ …
ـ الأجدر بك أن تفرح، لقد أبليت بلاءً حسناً في الجبل واليوم حانت عودتك.
ـ ماذا! عودتي ؟
ـ أنت رجلٌ ساذج من فئة البَيَع، ولا أظن موتك سيشكل فرقاً في حياتي.
صرخ أحد الشقيقين معترضاً:
ـ أيها النقيب، هذا الجزار أنقذ ابن عدونا، وقد رأى وجوهنا.
ـ وإن يكن، لقد انتهت الحرب، ولا أحد يستطيع أن ينال منا في الجبل.
ثم أضاف بصوت آمر:
ـ اذهب أيها الجزار، لا أريد أن ألوث شرف القبيلة بدم فرد من البَيَع، ولا تنس أن تعرج على القرية لتأخذ ميراث جدتنا سودة، فقد أوصت به لك قبل أن تلفظ روحها، ولعلها فعلت ذلك لتنقذ روحك. إن رأيتك مرة أخرى لن تفلت من يدي.
وتذكر مأمون الجدة سودة وأحس بالحزن عليها رغم توقعه موتها في أي لحظة، وتاق إلى معرفة ما خلفته له، هبط من الجبل وهو غير مصدقٍ إنه أفلت من قبضتهم، ودخل القرية سائلاً عن قبرها، وهناك وقف على تربتها باحترام، وجاء أحد أحفادها ممسكاً بالعكاز، وقدّمه إليه بتهيب، وأحس بثقله في يده وبغرابة في شكله وهو يحمله، إنه من خشب الصندل الباهظ الثمن، مزخرف بالرسوم والحروف الغامضة والأشكال الهندسية البديعة، لذا تنعكس على حامله مهابة السحرة وأرباب الكرامات.
راح يفكر في الفائدة التي سيجنيها منه! مازالت قدماه قادرتين على السير، ولكن يبدو إن العكّاز كان رفيقاً عزيزاً للمرأة المسنة، أو لعلها أرادت أن تنقذه فعلاً أو تترك لديه شيئاً للذكرى، وسرعان ما أمسكه بيمينه كالسيف، وراح يعدو كأن هنالك من يطارده، كان في الحقيقة فرحاً بنجاته، ويتمنى أن تنبت بجسده أجنحة ليطير إلى سوق الربوع، ومن حين إلى آخر يرمي على نفسه سؤالاً ساذجاً، هل ستتعرف عليه امرأته وولده؟ ويضحك منتشياً بسعة خياله، ويفكر في فترة غيابه التي لا يدري كم دامت، وهي مدة تبدو كدهر طويل.
كان الطريق آمناً ساكناً لا يسمع فيه أي صوت غريب، وصادف النسوة اللواتي جئن والعجوز في المرة السابقة، كن يمشين بسعادة عائدات إلى عائلاتهن. كانت الفرحة ناقصة بفعل غياب المرأة المسنة، ولكن سيرتها الطويلة حضرت، وأحياها العائدون إلى قراهم بحديث متقطع متناثر، استمع إلى حديث موجز عما جرى لها أثناء غيابه، فقد ظلت تحت الإقامة الجبرية في الدار الكبير، ومنع الزوار من رؤيتها، وهي المعتادة على التحدث والثرثرة لكل من هب ودب، تركوا لمساعدتها امرأة غليظة الطباع خشنة اليدين، تخدمها بصمت تام، وكأنها خرساء، كانت تمارس عملها بإتقان ودقة آلة، تقدم الوجبات في أوقاتها دون تأخير، وتغسلها أربع مرات في الشهر، وتنام في الغرفة المجاورة، وإذا احتاجتها في أي وقت خلال الليل، تهز خيطاً بجانبها موصولاً بين الغرفتين، وينتهي بوصلة معدنية تشبه الجرس تصدر صوتاً منبهاً، فتذهب المرأة إليها، لتسقيها أو تأخذها من جنبها وتقودها بصمت إلى الحمام. عرفت المرأة المسنة إن هذا جزء من العقوبة التي ينبغي أن تنالها، وظلت في عذاب داخلي أليم، وراحت تناجي الموت في أغلب أوقاتها، وقبل شهر هزّت الخيط، ولما أتت المرأة ناولتها العكاز وقالت لها بعبارات واهنة:
ـ هذا العكاز رفيقي منذ زمن طويل ولا أملك شيئاً غيره، ينبغي أن يكون لأسير في الجبل اسمه مأمون الجزار، وهذه أمنيتي الأخيرة.
وفاضت روحها بهدوء وصمت، وأبلغت المرأة عن موت حكيمة الأعراف، وعن وصيتها الأخيرة، وظلت تحتفظ بالعكاز، لحين يطلق الأسير.
كان هذا الحديث مؤثراً، وفي مكان ما انفصل عن مجموعته ليستطيع التفكير والشرود بلا قيود. مر صعوداً عبر طرق لم يعرفها من قبل، وقرى صغيرة صامتة منزوية في بطون الجبال الصغيرة، والتقى ببعض المسافرين، وكان يخاطب من يعرفه ومن لا يعرفه قائلاً بجذل:
ـ أنا خادمكم مأمون الجزار، هل هذه الطريق تؤدي إلى سوق الربوع؟
صارت هذه الكلمات جواز مروره، يفعل ذلك عن طيب خاطر، وبهذا لم يواجه أي مشكلة حتى وصل إلى سوق الربوع. وهناك وجد الخراب والفوضى. وارتاب أن يكون قد أخطأ في تحديد المكان، لكن المعالم الطبيعية المحيطة بالسوق لم تتغير. إنها نفس التلال والشعاب المائلة الشديدة الاغبرار التي يعرفها.
ألقى نظرة بائسة ناحية كوم من الأحجار والتراب في موضع يظن إنه يخص حانوته. كان منزله سابقاً يقف إلى جوار مجموعة تضم ما يربو عن عشرين مسكن شعبي صغير، تخص فئة البَيَع، متجانسة في نمط البناء مع فوارق شكلية وفنية طفيفة، جلبت أحجارها من جبل قريب، وبنيت على طراز محلي خالص، لقد وحدت بينها الأضرار أيضاً، وطمست القذائف معظم ملامحها، حتى بات من الصعب تمييزها، ورغم ذلك استقام قرب بناء خرب يظنه منزله، بابه مخلوع، وسقوفه مهدمة، وجدرانه الداخلية مخربشة وقاعاته عارية من الأثاث.
وفي الداخل استطاع تمييز الأبواب المجدولة والزوايا المهشمة، وبقايا ستار أبيض يتمايل من نافذة إحدى الغرف بتأثير الهواء. لقد تحول مأواه إلى طلل بدا غارقاً في القدم، حتى الموضع الذي يخص الأخدام والشحاذين تحول إلى أرض محروقة سوداء، ينتشر في أجزائها بقايا من الزنج وقطع الطرابيل الزرقاء المهترئة، وكتل صغيرة مفتتة من الطوب الرخيص، وعند هبوب الريح تصدر من ذلك الموضع أصوات شبحية مرعبة، وكأن تلك البقعة مسكونة بالشياطين. خرج من المكان يمشي فوق أرض ميتة خالية من أمارات الحياة، وشعر بحاجته ماسة إلى المواساة.
مد نظره إلى الجهات الأربع آملاً أن يعثر على حس لآدمي، رأى في أحد الشعاب البعيدة نقاطاً صغيرة بيضاء تتحرك ببطء، سار باتجاهها وجسده يرتعش من التأثر، وكلما دنا منها تكبر وتتجلى حتى ظهرت في صورة أغنام ترعى، وبرز الراعي على نحو مفاجئ من تحت صخرة صمَّاء وفي يده كلاشنكوف، وجعل يطلق النار على أغنام شذَّت عن القطيع، فتبعثرت الحيوانات مذعورة في طول وعرض الشعب. واختبأ مأمون خلف صخرة، وبعد لحظات خرج متسللاً رافعاً ذراعيه في الهواء ليرى الراعي أنه لا يشكل خطراً عليه، وجعل يطلب منه الهدوء حتى يجمع شملها بنفسه، لقد قطع مسافة شاسعة وتخطى كثيراً من الأخطار، ولا ينبغي أن يموت في آخر المطاف على يد راعٍ مجنون.
ظهر الغرور وشيء من الرضا على قسمات الراعي، وراح يتأمل ساخراً عابر السبيل الضخم الذي شرع ينادي الأغنام بصفير متناغم ويقذفها بالحصى، وفوجئا معاً بها تعود بحذر إلى أماكنها، وعند هذه الوهلة طفت مسحة من الغضب والتصلب في وجه صاحبها القانط، وأخذ يشتمها لأنها دائماً تكفر بمآثره وجهوده في رعايتها وتذعن للغرباء، ولم يجد الغريب رغبة في إطالة الحديث معه وهو في هذا الحال، لكنه تجرأ وسأله عن مصير سكان السوق، والمدة التي مضت على هذا الخراب. رفع الراعي سبابته بتأفف وأجاب:
ـ مضى عام واحد على مقتل النقيب أرحب.
وحين سأله عن سكان السوق أضاف الراعي بسخط:
ـ هاه، يا لك من فضولي! اذهب إلى كازم وقد تلقى هناك خبراً.
أشار إلى منطقة بعيدة، وعاد إلى الظل تحت الصخرة، ولاحت على بُعد قرية كازم مركز قبيلة آل طعيم بمنازلها البيضاء الصغيرة المبعثرة، ومضى بلا تردد نحوها يفيض قلبه بمشاعر شتى.
الهوامش:
1 نسبة إلى منطقة حيس.
2 الربوع: تعني الأربعاء.
3الجلابين: فئة تجلب الأبقار من القرى لتبيعها في الأسواق..
4عندما تبعث النساء خصلات الشعر إلى الرجال فذلك يعني أقصى حدود العتب واللوم، وعلى الرجال التوقف عن العبث..