كان الجميع قد اعتاد أحياناً على الذهاب إلى مزرعة جدي، الثلاث زوجات والأبناء، يتناولون غداءهم، ويمرحون بين الأشجار، ويسبحون في البركة الممتلئة بالماء.
في المرة الأخيرة التي ذهبتْ فيها العائلة إلى هناك، كان الجميع في الداخل بعد وجبة الغداء، ما عدا جدتي وابن ضرّتها الثالثة الذي كان يبلغ من العمر أربع سنوات.
أصرّ الطفل على جدتي أن ترفعه ليقف على جدار البركة، وكانت ترفض خوفاً عليه من السقوط والغرق في الماء، لكنه كان يزداد في البكاء، ويرفع يديه إليها ويلحّ عليها لتضعه على الجدار، وليكون باستطاعته أن يلمس الماء ويلعب.
بعد أن نفد صبرها من بكائه، وتمرغه في الأرض غير المزروعة، حملته من تحت إبطيه، وجعلته يقف على حافة البركة التي كان صوت الماء المتدفق فيها يصدر ضجيجاً عالياً.
كان الطفل مسروراً جداً، لا يصدّق فسحة اللعب التي أُتيحت له. ثنى ركبتيه، ومال بجسده الصغير على الماء، وقبل أن تنتبه جدتي إلى ما يحصل، كان الطفل قد سقط في البركة، ولم يفهم أنه كان يغرق، لكنه بغريزة حب البقاء التي نملكها جميعاً أدرك أنه يتعرض إلى الخطر، فمد ذراعيه الصغيرتين يستنجد بجدتي التي توقفت عن الحراك والتنفس لبرهة من الوقت، بسبب المفاجأة والرعب، ثم خلّصت قدميها من شللهما المؤقت، وهرعت إليه كي تحاول إنقاذه، لكن الأوان قد فات، وشرب الصغير قدراً من الماء يملأ رئتيه، وطفح على سطح البركة مثل ورقة شجر كبيرة شاحبة.
دفعها جدي بعنف فسقطتْ على الأرض، وقفز في البركة، وهو يكاد يكون قد فقد عقله، وأخرج صغيره منها. جاءت الزوجتان تهرعان والأبناء كذلك. وضع جدي الطفل على الأرض، وحاول إنقاذه. ضغط على صدره ليُخرِج الماء الذي احتبس في بطنه، لكنه فشل.
عرفوا أنه قد مات، فأخذت أمه تضرب على وجهها، وفخذيها، وتشد شعرها، تريد الهروب من شعورها بالألم، لكن لا تعرف كيف؟ قالت كل الكلام الذي أمكنها قوله كي تعبّر عن فجيعتها، ثم نظرتْ إلى جدتي التي كانت ما زالت واقعة على الأرض، وكأنها قد فارقت روحها أيضاً، فهي مجرد جسد ينظر إلى كل هذا الذي يجري أمامه بلا حيلة. هجمتْ على جدتي، وكادت أن تغتالها، نكشت وجهها بأظافر يديها الطويلة، وغرزت أسنانها القوية في كل مكان طالته من جسدها، ولولا أن جدي أبعدها عنها لكانت قد قطّعت جدتي قطعاً صغيرة، ورمتها إلى الكلاب.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد اشتكت أم الطفل الميت على جدتي عند مركز الشرطة، واتهمتها بقتل ابنها.
اقتادوا جدتي مُقيدة بالأصفاد إلى السجن، وبقيتْ هناك عدة أسابيع، وعندما لم يجدوا دليلا على تقصّدها قتله أخرجوها من الحبس، وعادتْ إلى البيت مرة ثانية.
ما إن قدمت جدتي إلى البيت، واجتازت قدماها العتبة حتى انهالت عليها قطع الحجارة الصغيرة الصلبة المختارة بعناية لتكون حادة الأطراف.
قام الأولاد بجمعها من الحواري، والطرقات، بنيّة استعمالها كأداة حرب.
ضربوا بها وجهها، فغطته بكلتا يديها، فاتجهت الحجارة إلى كتفيها، وبطنها، ورجليها، وكل أنحاء جسمها، حتى لم تستطع أن تتغلب عليها، فانهارت على الأرض.
حاولت والدتي وقد كانت في الرابعة عشر من عمرها آنذاك أن تصد عن أمها اندفاع الحجارة، الذي كان كقذائف الهاون المدوية في ساحة الحرب، وكانت تُصاب أيضاً بجروح في راحتي يديها، وحين كانت تحمي رأسها كانت الحجارة تضرب ساعديها، فأبعدها جدي بقوة، ووقعت على مجموعة من السلال المصنوعة من سعف النخيل كانت مكومة على الجدار.
وقف جدي أمام جدتي يحاول حمايتها، صارخاً في زوجتيه وأبنائه الذين وقفوا مثل صفّ من الجنود الأشاوس وهم يؤدون خدمة جليلة للوطن.
اندفع جدي نحوهم مشوّحاً بكلتا يديه، وقد امتقع لون وجهه، وكأنه سينفجر في أية لحظة، فانسل الجنود، وقائدتاهم، إلى داخل حجرتيهم، مغلقين بابيها خلفهم.
مسحت جدتي الدماء عن وجهها ويديها بكمّ ثوبها، وقد زاغت عيناها فكأنها لم تكن في بيتها، ولا تعرف أين هي؟ قد تكون في أحد البراري وحدها، والريح تدفعها بقوة إلى الأمام، لكن تلك لم تكن الريح، وإنما جدي يسحبها من قدميها، فوقع رأسها على الأرض، وصار يجرّها فوق التراب كما يفعل بالخروف، ثم دفعها بقوة إلى داخل الغرفة، وأغلق الباب بالمفتاح، وقال لزوجتيه وأبنائه يهددهم أن أحداً منهم تعرّض لجدتي بالأذى فسيكون آخر يوم له في هذا البيت.
لم يكن يدري ما سيفعل بأيّ منهم لو أنه خرق ذلك الوعيد، غير أنه وجد نفسه يقول ذلك مُرغماً كي يسيطر على الوضع المشوّش حد الجنون.
كاتبة من السعودية
[email protected]