للهوى مآربه!

عرف ذلك من نظرتها وضحكتها، أو ذلك ما فهمه ببساطة من تورّدَ خديها تحت أثر فازلين خفيف. أثارها المعتوه الذي مرّ كاشفا عورته وهو يغني في الشارع الخاوي صبيحة أحدى الجمع، عندما دفعت مصراع شبّاك الخشب وأطلّت، أعلى قليلا من غصون شجرة السدر فرأته. رآها المعتوه بثوبها المخرّم فرفع عقيرته. اشتهته حمام مغنية هوتيل ورديّة، بقذارته وأسماله. رآها أستاذ ناجي خضر في مرآة الكوميديون وضحك فارتعشت كل شعرة بوجهه المحمر. للهوى مآربه! لا كما زعم أساتيذ الحب والجمال! قال. لالالا..! آلمتها رغبة حارقة كما يحدث لها مرارا حين ترى شابا وسيما أو تهبّ من حلم مثير، ولم تكن نامت غير ساعة، فلا يكون بطنها سليما بعد ليلة كدٍّ .
” دكتور جَبّور عبد الأحد! ”
أرسلت خادم الفندق نملة للبحث عن عيادة خامل الذكر. نملة العجوز النحيلة مشدودة العصب، فليس واردا أن تجوب بنفسها أسواق العشّار، متجنبة دوما الناس، لأنها تشعر بأنها مكشوفة، نحن مكشوفون، كنت مكشوفا دائما ومعرّضا للأذى، فاليونانيون بذروا في قلبها بذرة الغرور النصراني، حبّة الغار في ارض عدن تفيئها ظلال السعفات من لهب الشمس. فرديتها، لأننا كشرقيين لا نعير فرديتنا اهتماما، نستبدلها بأنانية جشعة أو بتأثير الغير. الفردية الجميلة الصلبة، كما انتصاب قامة الرياضي. هل فهمت؟ حيث لا ميل أو وهن! لأنها عرفت ذلك وتشربته روحها عندما أمضت عاما في مرقص كارلا بأثينا..
وبحسب أستاذ ناجي الذي رافقها أربعة عشرة يوما، الأصح رافقهما إلى أثينا إذ استعان به تاجر السجّاد (تاج أبو عبد) مترجماً في رحلة الحبّ، ولأن المضمد حسين فالح، الثعبان القوي وليع شغفه بسرّ الشباب والانتصاب الدائم، من خلال خلطات الأعشاب، الذي كان وجهه مطويا على أسراره، لم يكن أطل إلا في تلك الساعة، ساحباً ضلع الستارة الخضراء في عيادة الدكتور جَبّور، مشيرا عليه بالجلوس، بشبه انحناءة، فكأنما أحنته نظرته الرمادية الثقيلة، وبرجاء، للحفاظ على جو الهدوء إذ علا صوت نملة الحاد سائلة عن الدكتور.
” ماذا يفعل أستاذ ناجي هنا اليوم؟”
استطرد تاج أبو عبد متسائلا وكأنه يواصل حديثا قاطعه الخيال المارد لمن تلبّث عند مدخل الأوفيز بين دعامتي باب خشب قديم وشعّت لمّة شعره في الضوء، تاجر السجّاد الذي أراد التسمي بالاطرقجي مع أن لا أحد من أسلافه حمل هذا اللقب. لالالا! انتظر طويلا دون اكتسابه بصورة قطعية بعدما تحوّلت الدنيا، وكان الحمّالون ومنظفو ومرممو السجّاد يحيطونه، التفتوا نحو أستاذ ناجي، سحنهم زيتية وعيونهم معتلّة وذقونهم وحشية، وكما لو أن نظرة (تاج أبو عبد) الثاقبة كشفت بلاءه، عرّت التواء حياتي. ليست نظرة بل سهماً انفلت مخترقا الفراغ ونبت في روحه، ما اعتبرها سهاما متتالية لنظراتهم، ففتح عينيه اللتين أثقلهما حاجبان كثيفان. لم يكن بينهم في رأيه ( لا.لا..أبدا!) وجها يساعد على تشجيع روح الشباب وفنون السياحة!
تلقاه التاجر بنظرة الدلّال القديمة الفاحصة، نظرة عينه اليمنى فحسب، فالأخرى الذاهبة يسارا لا يبدو أنها تذعن لأفكاره، إذ اتفقا على السفر جوا إلى أثينا ليلة السبت، رحلة مدفوعة التكاليف بالنسبة لأستاذ ناجي، وقد سبق له زيارة أثينا لكنه أخطا بالحضور قبل الأوان.
أما أنه كان يبتسم أو ألقى التحية في تلك اللحظة، فلا! لم يتلبث انتباهه عند معرض الانتيكات الزجاجي، وعيناه، وهو كما يبدو سبب آخر لانزعاج التاجر، لم تريا، خلف إطار الوجوه والأجساد المتعبة، إلا شابا جميلا تأرجح مميلا كرسيه على قائمتيه الخلفيتين، شاب (good looking ) وعليك تمعنه بعين الفاحص الخبير، فستكتشف ما خسرته إلى الأبد أو ربما ما لم تملكه يوما، شاب ممشوق منتصب العنق! وللتو اسماه “عارض الأزياء!” وأعلن ذلك على الجميع الذين لم يعيروا أجسامهم العناية، ولم يكتف بل همس الاسم للمغنية مفكرا برحلاته السابقة في بحار العالم عابراً بظله سواحل يتشمس فيها أمثاله، ماس يقطع ماساً! انتهى همسه وسط اللغط الذي تشرّبه باب الخشب والحيطان التي تكدّست جنبها السجاد واللوحات الزيتية. وعندما تجاوز فكرة وجود الباب الذي له صلة بحرّ البصرة القديمة البالية والأصوات والغرباء، لم يجد نفسه في الأوفيز الجانبي المزجّج الظاهر للعالم ولا في يوم الأربعاء أو السبت ولا في قوافل طرق الحرير المرسومة بألوان تيبست ولا بين حيطان السجّاد والرائحة الوبرية. لا..! كان مستودعا أجوف معقود السقف، تنحني أضلاعه العالية وقد أضاءته كوى ثلاث تسكب نوراً صفّره الغبار السماوي، وهناك اسلم التاجر رأسه وهو يقتعد كرسيا صغيراً لحلاق بصدرية مضمد، حسين المضمد نفسه في عيادة الدكتور جبّور، لكنه بدا متحفظاً في حضرة (تاج أبو عبد) منهمكاً بإزالة شعر أذنيه على الطريقة التركية القديمة! قال أستاذ ناجي “خفّـة يدّ!” وسأله التاجر أن كان يعرف شيئا عن حَمام؟ لم يكن يصدق أنها هجرته واختبأت في مكان ما بأثينا، فأجابه بصوته الجهير أنه لا يعرف كل مكان في اليونان، لالالا! مع أنه زار أثينا مرتين بحثا عن أكسير الشباب! فابتسم حسين المضمد، وهو يصغي للعجوز الخرف دون تصديق، ملهباً فتيلة القطن، كأنه يؤدي طقسا سرّيا، نار زرقاء ضئيلة تزهر في العتمة وتلمع في عينيه، ثم كان يبرم الفتيلة في صيوان أذن التاجر الذي لم يبد رد فعل مع أن رائحة شاطت في الجو، وبخفّة نفخ الأذن ومشّط الشعر الذي عدّله وصبغه وحدّده. ربما سمع التاجر يقول، أنا اسأل شخصا يعيش في عالم آخر! ماذا قلنا؟ فنون الدجل وخفّـة اليد ولا صلة لها بالحلّاقين الاسطنبوليين وفنون السياحة وروح الشباب!
لأن (تاج أبو عبد) رأسمالي من السقطة وقمامة الانقلابات والحروب، تخيّل الأستاذ أنه سيهجم عليه بحقد الهائم المحبّ، لكنه لم يفعل أكثر من القهقهة موقظاً وجوه أتباعه الكسالى، ولن يكون لك بوجوده عذرا مهما أوتيت من سعة الخيال لإثارة انتباه عارض الأزياء الجميل، فهو من أملاكه ولم يكن في كرسيه، لم يكن حاضراً إلا في خيالك، وتاج أبو عبد قادر على استبطانك ببصيرته. رحل أبوه عيسى الدلّال من مدينة العمارة إلى الكاظمية وتاجر هناك بالسجّاد وأغرم بهتلر، أما هو فأحبّ عندما كان في السادسة عشره الوصي عبد الإله، استهواه وجهه النحيف الناعم وعيناه الشركسيتان في مقابل مقته الشيوعيين على غرار أبيه، الشيوعيون مقتوا الوصي كما فهم حينها، وكما حلم فيما بعد بسجاجيد القصر الملكي وتمنى سلبها والاحتفاظ بها في تموز الدبابات، وقد اكتفى بصورة للوصي يحشرها في محفظته حين ورث تجارة أبيه ثم أنه أضاع الصورة ونسي شغفه بالعينين الشركسيتين، لكنه لم يزل يجمّل تجارته ومعارضه في البصرة وبغداد بالشباب الأصحاء الأقوياء وإشباع نهمه بأحضان راقصات الملاهي.
وفي هذه الساعة ربما صعب عليّ اكتشاف ما اسميه بروح الذكرى. لالالا! صعب! كان بعض الصعاليك والرأسماليين المتديّنين على السواء يرون رأيا مخالفا ويستلهمون أملا بقوى الغيب التي تحميهم، فالتاجر محبّ النساء وسّع ثروته من تهريب الأفيون الإيراني في السفن الآسيوية الرخيصة، وعندما التقى حماما وفتنته كان بلغ الرابعة والخمسين فأغواها برحلة اليونان.
قال أستاذ ناجي خضر ربما كانت روح الذكرى لفظا فنّيّا أكثر منه وضعيا يناسب إطماع هؤلاء ويرتبط بحياتنا القصيرة، مع أني التقيت في أحيان كثيرة، نعم نعم، بأشخاص بقوا أمناءً لروح الذكرى، التقيت ريتشارد الأمريكي الغامض الذي أزعم أنه يحمل ميولا يسارية وقد حلّلنا في فندق الأخوية المسيحية في شارع السعدون عام 1967، بُعيد النكسة بأيام، وكان هناك فراغا وغضبا يتآكلان الأنفس، وكنا رافقنا تاجرا عراقياً مسلماً لم تعنه النكسة ولا الحروب والهزائم، يسكر وببذخ ليلا ويصلي نهاراً، رأسمالي تذهب عينه يساراً، قال بصدده” أنه يصلي من أجل أرباحه الدنيوية. سأخلد ذكراه بصورة” كانت صورة لـمن دعى نفسه حينذاك تاج الأطرقجي وكان لم يزل يحتفظ في جيب جاكيته بصورة الوصي.
أما غاية أستاذ ناجي فالمثابرة على إيقاظ بعض الأرواح الضائعة والتذكّر حتى وان لم يكن فهَمَ معنى أو أصالة المقاصد البعيدة.
لعل الأمر كله إن حماما أرادت البقاء في أثينا، ما أن بلغوا ميناء بيريه. أحبتها، استهواها الشباب وأنخاب النبيذ والموسيقى في الليالي، لم تكن رحلة حبّ، فهي أقرب للخطف والافتراس، المغنية من جانبها لم تحبّ إلا محفظة التاجر، أما تاج أبو عبد فجنَّ بمنابع جمالها. كان يوقظها فجرا للصلاة ويضاجعها، يدميها عضاً. كان يرفع صوته بتكبيرات أذان الفجر فتردد حياطين الفندق تكبيراته متلقياً الشتائم من كل صوب، ما دعاها للفرار منه في الأسبوع الثاني. رافقها أستاذ ناجي وهو يحمل جنطته الصندوقية الصغيرة، دون أن يتذكّر ما وضع فيها، لأنه هبّ كالأعمى الذي تقلّب في فراشه ليالٍ وهو يشعر بأنفاسهما، والذي فسّر وحشية التاجر بقدرة الأجواء المتوسطية على إثارة الشهوة.
وفي فرارهما ما زال صدى كونه مترجما برفقة ثري تافه يحيطه، فمضى في دروب أثينا باحثا عن أكسير الحبّ والشباب، مع أن (مستأجره) الرأسمالي قرر الاستغناء عن خدماته ما أن هجرته حمام، عاد إليه جائعاً لكنه سكر وطرده، أنه قربان الصورة التقليدية للموانئ يضحى به على مذبح اللقاء والفراق! كان على شفا الإفلاس، لولا علاقة طارئة بـشاب يوناني شاحب اسمه Adras) ) أهو اسمه أم أن اللفظة نبعت من داخله؟ كاسم صمم في الأجواء الأسطورية الغاية منه منحه المتعة والأمل بالنجاة، باستعادة شبابه الذاوي، وبالكاد تدبّر حجزا على السفينة ( اوندايك) المتجهة إلى سورية، على خلاف مهاجري أوائل القرن العشرين الشاميين قاصدي سواحل أمريكا اللاتينية على ظهر الباخرة افتوريا، دون أمل مكتفياً بوجبة معكرونة في العنبر يعدّها طاه طلياني بغيض، لم يحجز مقصورة، سمحوا له بكرسي على سطح السفينة الأبيض، أبيض ومشعّ في النور البحري، كرسي يُمد ويطوى، عرش راحته وتذكّره وغثيانه البحري، والجنطة بين قدميه الكبيرتين تنزلق يمينا وشمالا، كرسي لتصريف شؤون حياته.
وفي أول نهار إبحاره غطس في ظلمة وعي مشتت، أعمته شمس أثينا المتنائية، كالتناسق والجمال والقوة التي توهمها ساطعة لوهلة من خلال جسم اليوناني الشاب( Adras ) حتى شاء القدر، وهو هنا ببساطة السفينة ومن عليها أن يلتقي بالدكتور جبّور، الشخص النحيف المتناسق الأعضاء في الظاهر، الخاوي في ثيابه، والذي ذكّرته ملامحه بالوصي عبد الإله. صادفه عند حاجز السفينة الحديد، ينظر للأمواج المزبدة في النور، آه افتوريا بذّتك الغوالي، كأنهما مهاجران نحو الأرجنتين، كما حلم هرتزل، وهو يمسّد لحيته، نحو الحياة الجديدة، نحو الشباب والقوة والانفعالات. استماله بصورة جمعته بحمام في مرقص كارلا، فدعاه الدكتور على غداء مخلمة بيض وبطاطا في مطعم السفينة، صورة حمام أربكت حدس الدكتور فظنها عشيقته. أحبط لدى المقارنة بين جمالها وخلقة أستاذ ناجي خضر الذي اضطر للتلويح بيديه طارداً الفكرة. لالالا.. ! لأني عائب ولا يمكنني مبادلة الحبّ! هل فهمت كيف؟ على أن صفحة لقائهما طويت سريعا ما أن مالت بهما الباخرة إلى ساحل الإسكندرية وغادر الدكتور جبّور، في وقت ما برحت فيه آلام جمال عبد الناصر تُبثّ عبر التلفاز الأبيض والأسود بينما نبرته تعصر القلوب، ملوحاً بكفه للا أحد ، لا أحد مطلقا، إذ تملكته الرغبة أن يطأ رمال الشاطئ الأبيض المهجور التي تلهبه الشمس.
أوصله سائق ثمل إلى حلب مجاناً في ظل رفاقية النكسة، وأمضى ليلة بمحطة بغداد، مستجديا أجرة عودته بعربة نيرن، الأحرى أنه حشر بالخلف جوار تواليت العربة واستسلم من فوره للنوم، حتى أيقظه ما يشبه ارتطام الأمطار بالزجاج وكان شهر حزيران والهواء لافح، وعندما نظر للنوافذ إذ ألصق الجميع وجوههم، بدا له ظل أصفر كعاصفة رملية، يهبّ ويلطم العربة التي توقّفت، وفي تلك اللحظة كان الجميع يصرخون : جراد! عاصفة جراد! فأسرع للنزول غير آبه بتحذيرات الركاب، ورأى الأميركي ريتشارد قد سبقه وهو يلتقط الصور. رأى الريح والظلال في لمعان ضوء الكاميرا. كانت سحابة تغطي السماء وتحجب ضوء الشمس، وصارت تمطره، آلاف الجرادات المتساقطة، تلطمه وترتطم ببدن العربة، كان وحده والأميركي فيما وجوه خائفة تنظر من وراء نوافذ العربة، في الامتداد الصحراوي، مكشوفان لقصف حشري أعمى، وكان بإمكانه أن يتذكّر بعد أشهر في منامه تلك القيامة وسجادة الجراد الصحراوي ممتدة، لامعة، زلقة، بامتداد الطريق، حتى شتمه أحدهم، السائق أو مساعده وسحبه نحو العربة.
وكأنه سحبه من صورته مع حمام وزجّه في عالمه الأبيض المعقّم! كأنه ذكرى الضوء البحري على سطح السفينة، الحري أنه ذكرى زبد وجودنا المتناثر. استقبله الدكتور جبّور بداعي الفضول، كما لو أن صورة حَمام الجميلة لم تفارق خاطره، فالمرء لا تجذبه امرأة دون أن يثيره شيء من محاسنها، كما أن لدى الدكتور ما يكفي من الفراغ للتفكير برفيقها التعس الذي لا يقدر على مبادلة الحب، لكنه لم يتوقع أن يزجه في عالمه الخرب، لالالالا! وسيكرهه! بدءاً بمتابعة الرسائل التي استهلها معرّفاً بمشكلته الأبدية (بسم الله الرحمن الرحيم..عزيزي الدكتور العالم جبّور عبد الأحد المحترم..اقتنيت كتابا نشر عن الطب البديل باللغة الانكليزية قبل مُدّة وقرأته بإمعان، ففهمت منه أن هناك أكثر من عيادة في لندن لعلاج الخلايا – تجديد الشباب- أرجو منك مساعدتي في نقل التجربة الانجليزية إلى العراق وخصوصا البصرة لتشجيع السياحة وتجديد الشباب..)
لأنه مسكونا بهاجسه، كان خياله يسافر برفقة الدكتور متصفّحاً دليلا لندنيا صادرا في العشرينيات، وهو يؤشر بقلم الرصاص مشفى ما في حي بلندن الكبرى محته فيما بعد قنابل الفوهرر، آملا بزيارته، إي إي! سنغطس في حوض ملائكي ونجدد الخلايا! ولم يكن يعرف أن كان ( تاج أبو عبد) سامحه أو أنه نقم عليه إلى الأبد. بعد عودة حمام من أثينا استعاد الرأسمالي سعادته وتناسى هجرها له، بهره ظل فرديتها وغرورها فاستمالها مجددا بالهدايا، مع أنها عادت سقيمة، ووهبها أستاذ ناجي أملا بالشفاء واستعادة نضارتها، كما يمحّص الذهب بالأسيد الحارق، فالمشكلة تكمن في القدرة على الحبّ! وقد عانيت من ذلك طويلا. ليس هناك أحد مدّ لي يد العون سوى البحث الطبي الناجع السريع وان شاء الله ينقل الدكتور جبّور التجربة في ظرف وجيز وننال الشفاء، سنغطس في حوض تجديد الخلايا! لأنك تعانين من عدم القدرة على الحبّ.
وكان على (تاج أبو عبد) أن يقلها بعربته الدودج 59 الحمراء ذات الزعانف الخلفية إلى عيادة خامل الذكر، في أزقة العشّار الضيقة، ويستطيب معرفته بالمضمد حسين، على أنه خلال زيارته الأولى أيقظه سطوع كالذكرى، أدهشه منظر الوصي جالساً في مقعد دوّار، اهتز كيانه، هو الذي لم يعد شيء في الدنيا يفاجئه، كان شبها غريبا، وقال أن أحدا من جلدة الوصي رحمه الله أن وجد بالحياة لن يحمل ملامحه كما الدكتور، حتى أنه لم يستطع كبح الرغبة بسؤاله أن كانت له صلة قرابة بالعائلة الملكية، فنفى الدكتور مبتسماً فهو مسيحي! من أب وأم .. لكن من يعلم! قال أستاذ ناجي. واستفسر التاجر من المضمد، الذي دخل سرداب أسراره الجنسية، دون بلوغ نتيجة. لكن الشبه فتنه، ووجد ألف سبب لزيارته، كلما أنّت حمام هرع بها إلى عيادته، وكان بحث في أغراضه القديمة عن صورة الوصي القديمة، ولو بحث عن فرّاشة طي كتاب أو طابع ملكي لكان أسهل، لأنه لم يجدها. لن يجدها أبدا.لالالا..! أستاذ ناجي يعلم أنه شخصياً بحث طويلا عن أشياء طالما أهملت في زاوية من حاضره ولم يجدها، فالناس يناقشون كل شيء وينبشون الماضي لكن شيئا واحدا عزيزا يعجزون عن الخوض فيه ألا وهو حاضرنا، لا أحد بإمكانه إدراك الحاضر إلا من خلال جلب الماضي. فاستعان تاج أبو عبد به مجددا في طلب صورة الدكتور الشخصية وحصل عليها. دسّها في محفظته فرحاً، أيقظت صورة الدكتور بالأبيض والأسود ذكرياته، وفي سردابه كان يخرجها ويطيل النظر إليها، صورة الوصي شابا وناعماً ولطيفاً.
ثم أعدم تاج أبو عبد. استيقظ احد القضاة يوما وحكم عليه بالموت. أتّهم بتهريب الحشيشة واستولت السلطات الجديدة في خريف عام 68 على أمواله وأملاكه. زار ريتشارد الأمريكي البصرة وقابل أستاذ ناجي، فاستعادا ملامح الرأسمالي الذي يصلي نهارا ويعربد ليلا. البقاء للأوهام الكبيرة. لم يكن الأميركي (good looking ). كانت عيناه الرماديتان تعرفان الشيء الكثير عن تعاستي ولديه شكوكه. في ساحة عامة، فجراً، كان تاج أبو عبد معلقا يعتصر صورة الدكتور –الوصي- في يده، كان هوى غريباً، ولم يكن الأميركي قدم البصرة لفهم تلك المقاصد الغامضة إلا أن روح الذكرى استوقفته.