فصل من رواية “أرض المؤامرات السعيدة” للكاتب اليمني وجدي الأهدل

الأحد (52)

ظل هاتفي يرن مدة ثلث ساعة دون توقف. كنت كشخص في حالة غيبوبة، أُدركُ ما حولي ولكن جسدي مشلول. وجدتُ صعوبة في فتح عينيّ، كان ضوء النهار يجهر بصري ويُسببُ لي الألم. آخر ما أتذكره أنني أمضيتُ ساعات وساعات وأنا أتقلّبُ على السرير دون قطرة نوم. كان المتصل اللجوج هو المحامي (حمود شنطة) الذي أخبرني بآخر التطورات. قال إن محامي جليلة (شعيب العجيل) قد استصدر مذكرة استدعاء من النيابة للتحقيق معي بشأن التهم المنسوبة إليّ، وهي تحريف كلام الطفلة جليلة بقصد تضليل العدالة في الحوار الذي أجريته معها ونشرته جريدة الشعب. طمأنني بأن في إمكاني التجول أنّى أشاء، ولكن عليّ تجنب وضع قدميّ في مبنى نيابة الجروم. قال أيضاً إن هذا المحامي الصفيق قد رفع مذكرة إلى المحكمة مُطالباً بإصدار أمر قضائي بمنع الشيخ (بكري حسن) من السفر إلى الخارج. سألته مُغتاظاً: “وأنت ماذا تفعل؟ تكتفي بالفرجة عليهم وهم يضربوننا؟!”. أجاب بأن جهوده مُنصبة على تأخير إحالة ملف القضية من النيابة إلى المحكمة، قال إن قاضي محكمة الجروم شيبة خرف، من مُخلفات الغزو الحبشي لليمن ويفتقر للمرونة وليس “مُتعاوناً”. طلب مقابلتي، قال إنه سيتواجد في مدينة الحُديدة عصراً لقضاء أشغاله، وبعد ذلك سيكون مُتفرغاً، اعتذرت وقلت له إنني سأكون مشغولاً بكتابة مقالات لعمودي اليومي في جريدة الشعب. طلب موعداً، فقلتُ له: “نتركها للظروف”. رمى بتلميح لم أفهم مغزاه: “البلاش يجيب العمى والطراش”. قلت له: “ماذا تقصد؟”. قال: “أنظر حولك وستفهم.. مع السلامة”.

اتجهتُ للمطبخ وفتحتُ الثلاجة، وأكلتُ ما صادفته في أدراجها واقفاً وأنا أرتجفُ من الجوع، إذ لم أذق لقمة منذ صباح الأمس. شعرتُ بالنفور من بقائي في الشقة، قضيتُ حاجتي ولم أحلق ذقني أو حتى أغسل وجهي وخرجت.

انطلقتُ بسيارتي إلى مكتبة قريبة في شارع الميناء واشتريت منها جرائد اليوم. توجهتُ إلى الكورنيش ووقفتُ عند الشاطئ، أغلقتُ المكيف، وفتحتُ نوافذ السيارة ليلفحني نسيم البحر الحار الرطب ويُعيد الحياة إلى دورتي الدموية.

نشرت الصحف الحكومية جميعها خبر تعيين المدير الجديد لقسم شرطة باب المنجل مرفقاً بصورته، وفي ذيل الخبر إشارة خاطفة إلى إحالة سلفه للتقاعد المبكر بسبب تقاعسه في أداء عمله. أعدتُ التدقيق في ملامحه، لم يكن وسيماً ولا قبيحاً، ولكن فيه شيئاً لا يُريح العين ولا يطمئن القلب.. فكرتُ أنهم اختاروه لتمتعه ببشرة سمراء غامقة للإيحاء بأنه من أهالي الساحل. تنهدتُ عندما مرتْ بخيالي صورة العقيد أحمد فتيني، لاشك أنني قد دمرت حياته، ولكن لا مفر، لقد وضعتنا الظروف في مواجهة بعضنا.

صحيفة (الأيام) المعارضة أعادت نشر خبر الوكالة الدولية، ونشرتْ ملفاً عن التكفير في اليمن. صحيفة (النضال) الحُديدية نشرتْ تغطية صحفية واسعة حول سير التحقيق في قضية جليلة. ووجدتُ هجوماً لاذعاً على الشيخ (بكري حسن) مكتوباً باسم مستعار(وردة الحُديدة):

“.. حول منزل الشيخ ومزرعته تحوم بنات صغيرات أعمارهن ما بين 8-14 سنة، وجوههن مصبوغة بمكياج تبييض البشرة، وشفاههن ملونة بأحمر زاعق، وبأيديهن حقائب صغيرة، هاته البنات الصغيرات يُرسلهن أهاليهن الفقراء جداً فريسة سهلة للشيخ بكري حسن الذي يهوى مُعاشرة البنات الصغيرات، ويهبهن مبالغ مالية كبيرة مقابل فضه لبكارتهن..”. 

كان مقالاً جريئاً جداً، ويحمل بصمة شخص من منطقة باب المنجل نفسها، ويعرف تفاصيل دقيقة عن الحياة السرية للشيخ. خمّنتُ أن الكاتب ربما يكون (سامي قاسم). إن كان هو فإن هذا يعني أنه قد حفر قبره بقلمه. رميتُ الجرائد تحت المقعد، حاولتُ الاتصال بزوجتي – لكي أطمئن على أطفالي- ولكنها رفضتْ أن ترد. أخذتُ كومبيوتري المحمول وتصفحتُ النت، دخلتُ موقع يوتيوب كانت هناك مقابلات تلفزيونية أجرتها عدة قنوات فضائية محلية وأجنبية مع الطفلة جليلة والناشطة الحقوقية (سلام مهدي)، وأرقام المشاهدة كانت أيضاً عالية جداً. تفرجتُ عليها جميعاً، ولاحظتُ أن (سلام مهدي) كانت تتعمد تحريض الرأي العام ضد السلطة. الهجوم في الفيسبوك مستمر، موازين المعركة مالت لصالحهم منذ نشر ذلك الخبر المشؤوم.

مرّ الوقتُ سريعاً، واستوت الشمس على عرشها في وسط السماء، كنت جائعاً وأنتظر حلول الظهيرة منذ مدة، فكرة غبية الشعور بالحرج لو ذهبت مبكراً للمطعم. تحركتُ بسيارتي إلى مطعم يبدو مزدحماً – وهو دليل عملي على جودة طبخه- وطلبتُ نفر لحم حنيذ مع الرز. اتصل بي رقم غريب، مسحتُ أصابعي بمنديل ورقي وأجبت. كان المتصل العقيد (مرتضى عبد الجبار) الذي شكرني على الخبر والصورة الحلوة المنشورين في الصحف. ثم قال إنه يزف لي بشرى سارة: “لقد ألقينا القبض على المدعو عطا المساعدي المتهم باغتصاب الطفلة جليلة”. هنأته على هذا الإنجاز الخطير، وكدتُ أقول له “أنا أشد على يدك” ولكنني رددتُ الكلمة من طرف لساني. سألني إن كنت سأحضر للقسم للحصول على سبق صحفي، سألته: “متى قبضتم عليه؟”. رد مُتفاخراً: “قبل ساعة.. راقبته دوريتنا عندما خرج إلى وادي الدود.. أخرجناه من الماء وهو عارٍ هاها”. قلت له مازحاً: “سأحضر ولكن بشرط أن يكون الولد قد ارتدى ملابسه”. أجاب وطبقة صوته تلين: “جسمه جميل، سيعجبك أن تراه بدون ملابس!”.

أنهيتُ وجبتي، وشربتُ قارورتي مياه غازية لأهضم لحم الكبش الذي تناولته. شغلتُ سيارتي وانطلقتُ صوب بلدة الجروم، ومنها إلى باب المنجل. وصلتُ إلى القسم وأدخلتُ سيارتي إلى الحوش.

كان العقيد (مرتضى عبد الجبار) في غرفة التحقيقات يستجوب الولد المساعدي. رفض الجندي أن يسمح لي بالدخول. توقعتُ أن أسمع صرخات ونداءات استغاثة إن كان يتعرض للتعذيب، ولكن الصمت كان مُطبقاً. صمت مُقبّض يثير الرهبة. أمرني العسكري بلطف أن أنتظر في المكتب.

توجهتُ إلى المكتب ولكنني لم أُطق الجلوس، شعرتُ بالقلق على الولد، خصوصاً وأنني قد لمستُ ميولاً للمثلية عند العقيد. تمشيتُ في ردهات القسم، ورأيت في الحجز الجندي الضخم الجثة الأسود البشرة “الخادم” فاقتربتُ منه وسلمتُ عليه، لم يرد السلام وأشاح بوجهه. يبدو أنه عرفني، تلك المقالة عن العقيد أحمد فتيني أحدثت دوياً هائلاً في هذه المنطقة. سألتُ الجندي المُكلف بالحراسة عن اسمه، فأجابني: “سعد موسى”. أخرجتُ الكاميرا والتقطتُ له صورة، عندما لمع الفلاش انتبه لما أفعل، فاهتاج كالغوريلا وحاول مهاجمتي، ابتعدتُ عن القضبان الحديدية مذعوراً، كان يصرخ بشتائم نابية زلزلت جدران القسم، وشعرتُ أن قلبي يسيح من الرعب. كان يهز القضبان محاولاً خلعها، حتى أن الحارس أحس بالخطر فتناول بندقيته وعمّرها مهدداً في محاولة للسيطرة على غضبه.

هربتُ إلى المكتب وقد جف ريقي. لحق بي العقيد (مرتضى عبد الجبار) وهو يتعرق بشدة. فتح ثلاجة صغيرة وأخرج ثلاث قناني مياه معدنية باردة تسبح فيها شطف مُتجلدة. أعطاني واحدة، وواحدة لمساعده، والثالثة له. بعد أن شربنا قال وهو يبتسم ويشبك يديه على المكتب على شكل مثلث: “أبشرك.. المتهم عطا المساعدي اعترف وسجلنا اعترافه في محضر رسمي”. قلت وأنا ألاحظ نظرات المساعد الزائغة غير المستقرة: “بهذه السرعة!”. ضحك العقيد مرتضى: “أنا عندي طريقة مضمونة تجعل أي متهم يعترف بارتكابه أي جريمة أريدها”. قفزتْ في ذهني صور لأساليب تعذيب بشعة، أزحتها وحاولت التماسك حتى لا يظهر عليّ التأثر: “غداً سينشر الخبر في الصحف كلها”. رفع ذراعه نافخاً عضلتها كمصارع يستعرض قوته: “اكتب اسمي بالخط العريض، لأن الفضل يعود لي أولاً وأخيراً في حسم هذه القضية”. نهضتُ وقد بدأتْ معدتي تؤلمني وهي إشارة من جسدي بأنه لا يرتاح لهذا الشخص: “أريد أن ألتقط له صوراً لننشرها مع الخبر”. ضيّق عينيه وأصدر تلك الشخرة المصحوبة بابتسامة خافتة لزجة، وطلب من مساعده أن يُرافقني إلى غرفة التحقيقات.

فتح لنا الجندي الباب ونبضات قلبي تتسارع. دخلتُ ورأيت (عطا) مُلتفاً على نفسه في زاوية كالدودة عندما تشعر بالخطر، ووجهه أصفر لا دم فيه. طلبتُ من المساعد أن يتركنا دقائق لوحدنا. حك كتفه وكأنه يخشى أن تطير رتبته المتواضعة: “هذا يعتبر مخالفاً للقانون”. نهرته مُبحلقاً فيه بعصبية: “يا أخي اخرج، أنت تُعطلني عن عملي”. خفض بصره وتنحنح مُحرجاً: “سأكلم الأفندم”. وخرج.

أخرجتُ الكاميرا وهيأتها للتصوير. كان الولد يُراقبني بعينين مُخضلّتين بالدموع. قلت له إنني أريد أن آخذ له صوراً سوف تنشر في الجريدة. لم يبدر عنه أي رد فعل. طلبتُ منه الوقوف فلم يستجب. قلت له إنني أستطيع أن آخذ له صورة وهو بهذا المنظر البائس المُذل وأنشرها في الجريدة، وستكون النتيجة أن الناس سيأخذون انطباعاً سيئاً عنه، وعن قومه بني مساعد. ظهر شيء من الاهتمام في عينيه، تابعتُ قائلاً: “أريد أن تظهر صورتك في الجريدة وأنت شامخ مُحتفظ بكرامتك”. بدا أنه قد أصغى أخيراً لما أقول. رأى قنينة الماء في حقيبتي فطلبها ليغسل وجهه، أعطيتها له، فلما فرغ، ناولته منديلاً ورقياً ليُجفف وجهه. وقف محاولاً التماسك رغم الإعياء البدني والنفسي الذي كان ظاهراً في حركاته. التقطتُ له أربع صور واكتفيت.

عاد للانكفاء في الزاوية، أقعيتُ قريباً منه وهمست: “هل عذبوك؟”. هز رأسه بالإيجاب. سألته: “ماذا فعلوا؟”. كان مُحتاجاً للبوح لأي أحد بما جرى عليه، تكلم بصوت مشروخ باذلاً جهده ليمنع نفسه من الانتحاب: “قيّدوني وعرّوني من ملابسي وهددوني فأغمي عليّ”. همستُ وأنا أنظر إلى الباب متمنياً أن لا يكون أحد ما يتنصّتُ علينا: “بماذا هددوك؟”. رد بصوت متحشرج بالبكاء: “هددوني بالاغتصاب”. شعرتُ وكأن أحدهم قد ضرب هامتي بمطرقة، بذلتُ جهداً جباراً لأسيطر على مشاعري: “وماذا حصل بعد ذلك؟”. تابع ودموعه تسيل على خديه بغزارة: “رشّوني بالماء فأفقت وكرروا طلبهم بأن أعترف فلم أقبل، وعندما شعرت به أغمي عليّ مرة ثانية.. رشّوني بالماء وأفقت، واعترفتُ على نفسي بأنني اغتصبتُ جليلة”. مسحتُ دموعي التي تجمّعتْ في أطراف عينيّ. قبّلته في جبينه وخرجت. مشيتُ بخطوات مُترنحة وقد فقدتُ توازني. اضطررتُ أكثر من مرة للاستناد بيدي على الجدار لأتفادى السقوط.

 

*صدرت منذ أيام عن دار نوفل- هاشيت أنطوان ببيروت.

 

[email protected]

SHARE