
لم يتوقع سامو أن تتحول جلسة العزاء إلي جلسة سمر. لكن هذا ما حدث. إذ بعد أن انتهت القطط من تناول العشاء وتمدد منها من تمدد وتكوّع من تكوّع، ماء أحد القطط بأن في صحبتهم قط ينوي الترشح لرئاسة الجزيرة. اشرأبت بعض الأعناق، وانتصبت بعض الآذان، وشعر سامو بالحرج.
“ إذن لن نراك مجددا يا سامو.” ابتدأ قط مُسن المزاح.
“إطلاقا، من المؤكد أنني سآتي كثيرا، فأنا أحب المكان هنا.”
“إذا أصبحت رئيسا لن نراك سوى علي شاشة التلفزيون.” ماء آخر.
“ الوداع يا سامو.” قهقهت قطة متوسطة العمر من المنسقات مع قطط النظام. انفجر الجميع في القرقرة حتى مونتي الكبير. ضحك سامو أيضا، فهو شخصيا يحب المزاح.
“ هل رأيت القطة الحاكمة في طلّتها الأخيرة؟” سأله أحد القطط.
“لم أشاهد التلفزيون منذ قدمت إلي هنا. بماذا ماءت؟” سأل سامو.
“ ليس ما ماءت به هو المهم، انما شكلها.”
“ كيف سيكون شكلها، قطة؟” استغرب سامو في حين علت قرقرات الضحك مرة أخرى. انتابه الفضول، فماء صائحا،
“ماذا؟ هل تحوّلت إلى قط؟”
“ لا، لا ليس إلى هذا الحد، أو ليس بعد هههههه” ماءت قطة مُسنة ضاحكة.
“ ظهرت بطوق من الشعر المنفوش حول رأسها وعنقها وجلد مرقّط فبدت كلبؤة على وشك التهام فريستها.”
“ غير معقول!” ماء سامو متعجبا.
“ وبهذا الشكل الجديد ماءت بأنها مستعدة للاشراف بنفسها على الانتخابات القادمة.”
“ هههههههه.”
“ أظن أن الرسالة وصلت. هل ما زلت ترغب في خوض هذه المغامرة ومنافسة اللبؤة.” ماء قط في عمر سامو.
“ ما رأيكم؟” ماء سامو.
“ نحن نقدر لك مجيئك إلينا، ونرغب في دعمك، حقيقة. لكننا أيضا نخشى على أنفسنا من بطش تلك المهووسة.” ماءت القطة التي تعمل مع النظام.
“ تحدثي عن نفسك أيتها القطة، لسنا كلنا جبناء مثلك.” ماءت قطة شابة، ثم أضافت،
“ أنتِ تعرفين حق المعرفة كيف هو حالنا هنا، لا اهتمام، لا تعليم، لا صحة، لا عمل، لا شيء، كأننا نعيش في بلد آخر، أو كأننا لاجئين هنا، أو كأننا لسنا موجودين من الأصل على الخريطة.”
أومأ معظم القطط برؤوسهم وندّت الخرخرات عن صدورهم.
“ سنؤيدك وندعمك.” ماءت عدة قطط في نفس واحد، فتهلل الآخرون وأعلنوا تأييدهم لسامو، ما عدا القطة التي تعمل مع النظام التي رمقت سامو بنظرة مخيفة.
أخبرهم سامو كيف بزغت الفكرة في رأسه وكيف كان مترددا في البداية ثم كيف قرر خوض التجربة رغم معرفته بصعوبة نجاحها، “ لكن على الأقل، سأحاول، وإن لم أنجح أنا، سيأتي أحد بعدي ويكمل ما بدأت وينجح. “ تذكّر الباب الذي انفتح في حلمه الأخير، فأضاف، “ سأفتح الباب ليمر هواء جديد.”
“ معك وكل قطط المقاطعة.” ماء كبيرهم. ووزع علب العصير على الموجودين احتفالا بتأييد سامو رئيسا للجزيرة.
استمر المواء بمختلف أنواعه والتسامر حتى ساعة متأخرة من الليل. وقبل بزوغ الشمس، بدأت مجموعات القطط المختلفة في هبوط الجبل والعودة من حيث جاءت. كان سامو متعبا من الكلام والضحك ويفتقد إلى الشعور الملتبس الذي يشعر به تجاه روكا. لم يستطع ترك اهل المقاطعة والذهاب إلى الصخرة النائحة. كما أنه لم يكن متأكدا أن روكا ستكون هناك. لم يرها منذ أن انتهوا من مراسم ذر الرماد. تلفت حوله بحثا عنها وسط هذا الجمع الغفير من القطط لكنها لم تكن موجودة. مع مغادرة آخر مجموعة، دخل مونتي غرفته وأغلق عليه الباب. فنزل سامو إلي الكرم ودخل خيمته. كان هو الآخر في شديد الحاجة إلى النوم.
كان النهار قد انتصف عندما أفاق سامو. بحث عن مونتى الكبير فلم يجده. ولا الغنم والماعز كذلك. أكل شيئا خفيفا وقرر أن يتمشي وسط الجبال بمفرده هو أيضا. تذّكر الجبل المقدس الذي لم يزره حتي اللحظة والذي يرى قمته من أعلى البيت الحجري. جهّز حقيبة صغيرة، وضع بها عدّة الشاي وقطعة خبز، وزجاجة ماء، وسار صوب الجبل المقدس. في الطريق انفتح الوادي الضيق على فسحة رمليه كبيرة انتصب في في وسطها جبل مخروم بديع التكوين. وقف سامو قبالة الجبل يتأمل ما أبدعته الطبيعة من نقوش ومنحوتات وأشكال لم ير في مثل جمالها من قبل. ثم أوعزت له روحه الشقية بالقفز من الخرم الكبير إلى الجهة الأخرى. حاول تسلق الجبل عدة مرات لكنه كان ينزلق قبل الوصول إلي الفتحة، فالجزء الذي ينتهي بالخرم أملس تماما. وكان من الممكن تسلق الجهة الجانبية للجبل حتى بداية الفتحة والدخول منها. لكنه أراد القفز الحر. وظل يحاول. فأخذ يبتعد مسافة ويعدو ويحاول القفز مرة واحدة إلي أن استطاع أخيرا العبور إلى الجهة الأخري طائرا، ثم هوى على الأرض الرملية كالقتيل. توّجع سامو قليلا من الهبدة على الرمل، لكنه كان سعيدا، وأخذ يربت علي صدره بيديه الاثنتين كمن يشعر بالفخر لإنجاز حققه، وقد اتسع فمه عن آخره فرحة بذلك. نفض عن شعره الرمال التي علقت به، واستكمل سيره.
لم يصف له أحدا ما سيراه، ولم يكن ليصدق الوصف إذا سمعه. كان الممر الجبلي الذي دخله ضيقا وملتويا ومعتما لا يستطيع رؤية نهايته. إلى أن غشيه الضوء فجأة في اتساعه المفاجئ. تسمّر سامو مكانه مشدوها. كان النحت بديعا وقد سقطت عليه أشعة الشمس فأضاءت تفاصيله في منتصف الجبل الوردي. قط وقطة في حالة عشق. الجسدان متعانقان ومتداخلان تعبر عن شوقهما ولهفتهما ملامح الوجهين، العيون المواربة والفمان المستديران. خفق قلب سامو. فقبع على الأرض مقابل الجبل المقدس وهو يشعر بضآلته أمام الحياة المجسدة أمامه ولو صخرية منحوتة في جبل. لا يعرف أحد من الذي نحت الجبل على هذا الشكل ولا متى. تماما مثلما لا يعرف سامو كيف انقضى عمره دون أن يعيش الحياة هكذا. لم يكن يرغب في الرثاء لحاله، لكن رغما عنه تندّت عيناه بالدموع. تذكّر أين أنت يا سامو ولِم أنت هنا. حلّت روحه الأولى. سكت سامو. لم يهشها ولم يعقّب عليها. كانت حالته الوجدانية مضطربة. لكنه يعلم أنها على حق. استدار إلى الممر الجبلي المعتم وسار فيه قليلا إلي أن ابتعد عن التمثال الذي أثار شجونه. تمدد على ظهره في محاولة للنوم، لكن روحه المشاغبة أطلّت عليه، “مم تهرب؟” تقلّب سامو على جنبه الأيسر ثم جنبه الأيمن. وفي النهاية قام واتخذ طريق العودة.
انحرف قليلا دون أن ينتبه فوجد نفسه أمام قط واقف على باب كرمه بمنظار مكبر. حيآه القط ودعاه إلي الدخول وشرب الشاي.
“هل أتيت من الجبل المقدس؟”
“نعم.”
“ألم تلمح ماعز وخرفان في طريقك.”
“صراحة لم أنتبه. لكن غالبا لا.”
جلس سامو في بقعة مظللة في الكرم الذي امتلأ بأشجار فاكهة مختلفة. أشعل القط الحطب ووضع ابريق الشاي.
“ رأيتك بالأمس وسمعت حديثك عن ترشحك لرئاسة الجزيرة.”
طرطأت أذنا سامو وانتبه إلى محدثه. وانتظر المزيد. لكنه لم يضف. صبّ القط الشاي في كوبين صغيرين، وضع أحدهما أمام سامو. لفّ قليلا من التبغ المحلي في ورقتين رقيقتين، وناول واحدة إليه. أشعلا السيجارتين من الحطب وأخذا يلعقان الشاي في صمت. ثم قام القط المضيف واختفى داخل غرفة حجرية صغيرة. فكّر سامو بأن عليه الانصراف. وبينما هويتأهب لذلك، عاد القط المضيف وطلب منه الجلوس.
“ اقبض على هذا النوى جيدا ثم القه لأعلي.”
“ أنت..” تذكّر سامو فجأة وعد مونتي الكبير بأن يأخذه إلى صديقه قارئ الطالع.
“ نعم لقد أخبرني مونتي عنك، لكن حدث ما حدث. ومع ذلك، ها أنت هنا. هيا.”
كان عدد النوي ثمان. هذا الرقم يتبعني، قال سامو لنفسه. قرأ القط المضيف ما يدور في عقل سامو.
“ لكل كائن رقمه، وأنا عرفت ذلك منذ رأيتك بالأمس.”
قبض سامو على النوى في يده. رفع ذراعه وألقى بالنوى لأعلى فسقط علي الأرض متخذا شكلا ما بدا لعيني سامو شكلا عشوائيا تماما. أطرق قارئ الطالع رأسه إلى الأرض ثم أوصل النوى ببعضه في خطوط رسمها على الأرض وأخذ يتأملها صامتا.
“ لا تيأس.” ماء القط أخيرا وهو يلم النوى ويجمعه على جانب.
“ أهذا كل شيء؟” ماء سامو متسائلا بدهشة وحيرة.
“ بلغ التحيات إلى مونتي الكبير.” ونهض وهو يربت على كتف سامو.
لم يذهب سامو إلي البيت الحجري، بل دخل مباشرة إلى خيمته. أخذ بعضا من الأعشاب وبدأ يلوكها إلى أن غفا. فرأى نفسه يسبح في عمق المحيط الأزرق وعلى مبعدة منه كائنات حية غريبة، تصوّب نحوه نظرات عدائية جدا، سبح مبتعدا فتحلّقت حوله أسماك ضاحكة وسلاحف راقصة. أفاق سامو على صوت خرخرة قلبه وعرق سخي يتصبب من كل جسمه.
أصابته الحمى. وبقى ثلاثة أيام يهذي بمواء غير مفهوم ومونتي الكبير يطببه بمغلي أعشاب جبلية، ينقّطها في فمه ويمسح بها جسده. إلى أن زالت عنه الحمى وأفاق.
“اذهب إليها.” ماء مونتي الكبير متنهدا.
“ من؟”
“ روكا.”
رآها عن بعد تضع الطعام والشراب أمام الصخرة الباكية وتحدثها. ناحت الصخرة لدى اقتراب سامو فطمأنتها روكا.
جلس سامو صامتا أمام الصخرة، فاقتربت منه روكا ولفّت ذراعها حوله.
“ أعلم بما حدث لك.” ماءت بهدوء.
أطرق سامو وجهه للأرض ولم يقل شيئا. ليس لأن لا شيء لديه ليقوله، بل لأنه لم يعرف كيف يقول ما بداخله. وما بداخله كان مرتبكا وغير مرتب وغير مفهوم. يرغبه ويخشاه.
“ أريد منك شيئا.” ماءت روكا بكل هدوء الصحراء.
ارتجف سامو. فعانقته. رفع رأسه إليها حائرا. هو أيضا يعرف.
“ قال لك ألا تيأس. صحيح؟”
أومأ سامو برأسه دون أن يموء.
“ أريد منك بذرة في أحشائي.” ماءت روكا برقة شديدة وحزم أشد.
فاضت مشاعره دموعا، فأمسكت به روكا، “ إن لم تنجح أنت فستثمر بذرتك. تأكد من ذلك.”
تعانقا. يخربشان بعضهما البعض وهما يتلاعقان. تضاجعا وفاضت بذور سامو بداخلها.
وفيما بعد، بعد أن هدأ جسديهما واستراحت مشاعرهما، ماءت له،
“ أكمل رحلتك. وسأظل أنا هنا أتابعك.”
“ سأعود.”
“ لا تعِد بما قد لا تستطيع الوفاء به.”
كانت الشمس قد سطعت حين جمع سامو كل أغراضه وصعد إلى البيت الحجري ليودّع مونتي الكبير.
“ انتبه لنفسك.” ماء مونتي مربتا على كتف سامو.
ولحسن حظه، كان هناك قط شاب، قد أتي مع جمل ليزور مونتي الكبير ويزوده ببعض المؤن. وضع سامو أحماله على الجمل، ونزل الجبل سيرا برفقة القط الشاب إلى البلدة. ذهب إلى هامو الذي قابله في بداية رحلته ليسلم عليه.
ألّح هامو أن يبقى سامو بعض الوقت في البلدة.
“ اكتمل وقتي هنا.”
أوصل هامو صديقه إلى محطة الحافلات. تعانقا.
“ لا تنسانا. سنساعدك.” ماء هامو مودعا.