فاطمة عبد الحميد: مقطع من الفصل الأول من رواية “الأفق الأعلى”

أنا في طريقِي إليكَ

فاطمة عبد الحميد

ها أنا وراءَكَ تمامًا… أحدّقُ الآن إلى الجزءِ الخلفيِّ مِنْ رأسِكَ وأنتَ تقرأُ هذه الكلماتِ، فتَحَلَّ بالصّبرِ، ولا تلتفِتْ قبْلَ أن أُنهِيَ ما جئتُ لِقَوْلِه! فهذِهِ ليسَتْ قصَّةً مُختلقةً، وإنْ كنتُ أُحَدّثكَ مُباشَرةً بصَوتِكَ أنتَ، فلأنّ صَوتي لنْ يكونَ مُستَساغًا. ستتأكّدُ مِنْ هذا حينَ نلتقِي وَجْهًا لِوَجْهٍ، فنحْنُ سَنلتقِي لا مَحالةَ، مَهْما أَهْدَرْتَ مِنْ وقتٍ بعيدًا عنّي… لا تنظُرْ إلى ساعتِكَ، وكأنّ أمْرَ الوقْتِ يهُمُّكَ إلى هذا الحدِّ، فأنتَ تعيشُ مُعظَمَه حسب العادة… ولم تكُنْ في يومٍ تتحاشَى الخطأَ مِنْ أجْلِ الصَّوابِ، لأنّ الخطأ ببساطةٍ لا يستغرق وقتًا طويلًا كالصّواب، فلا تأْسَ على نفسِكَ الفانِيةِ، إنْ أدْركتُكَ قبْلَ أنْ تُدركه… وهوّنْ عَليْكَ، فالأمْرُ معي أقلُّ تعْقِيدًا، إذ لا أحدَ في السّماءِ يملِكُ دافِعًا لتدْمِيرِكَ، لكنّ الفِطْرَةَ الأرضِيَّةَ هي الّتي رسّختْ فيكَ الظنّ بأنَّ كُلَّ ربحٍ لأحدِهم، هو خسارةٌ لِآخَر.

لا تخفْ… إنّ الوجودَ هناكَ يختلفُ عنِ الوُجودِ هنا. فهناك لا ينمُو الكائنُ عمُوديًّا كحالِكم هنا، بل ينمُو في ذاتِهِ، ولذاتِهِ، بعيدًا عنِ الآخرين. وهُناكَ، تمتدُّ سلالمُ لا نهائيّةُ الطّولِ، مِنَ الأسْفلِ إلى الأعلى… مِنَ الجحيمِ إلى النّعيمِ، ولكلّ فردٍ سُلَّمُه. قد يبدأُ أحدُهم الصُّعودَ مِنْ أسفلِ السّلّمِ، بينما يبدأُ غيرُهُ مِنَ المنتصفِ، ويبدأُ ثالثٌ مِنَ الأعلى، وقد تنزلقُ قدمُ أحدِهم كلّما ارتفعَ درجةً أو درجَتيْنِ، ليظلَّ قريبًا مِنَ القاعِ، ويرتقِي بعضُهم الدّرجاتِ سريعًا في صُعودٍ لا نهايةَ لهُ، وهكذا لا أحدَ يشبهُ أحدًا، ولا أحدَ يلتفتُ إلى أَحَدٍ. ووظِيفَتي الأزليّةُ، تتمثّلُ في نقلِكم مِنْ هُنا إلى هُناك.

نعم! أنا أسوأُ مخاوفِكَ، وأنا كاتمٌ سِرَّ زيارتِي المباغتةِ لكَ، وهذا ما لنْ يحبَّهُ كلُّ مَنْ يهتمُّ بأمْرِك. ولتعلَمْ فحَسْب، أنّه لا فرقَ بيْنَ أن تُولِّيَ وجهَكَ شطْرَ الحائطِ لحظةَ وصُولي أو أن تُولِّيَ  له ظهْركَ، ففي كلتا الحالتينِ لنْ تستطيعَ منِّي إفْلاتًا. لأنّني سأكونُ حِينَها أضْخَمَ نفُوذٍ يسْتَولي عَليْكَ.

ألمْ تقولوا إنّ دفقَ الماءِ، حين يُفْتَحُ الصّنبورُ، يستحيلُ أن يتراجعَ إلى الوراءِ؟ ها أنا وراءَكَ تمامًا، فتَحَلَّ بالصّبرِ، ولا تلتفِتْ!

حسنًا، كلُّ الأفكارِ المتَداوَلةِ على الأرضِ عن اللّحظة الّتي بدأتُ أزاولُ فيها هذِهِ الوظيفةَ الأبديّةَ غيرُ دقيقةٍ، ثمّ إنّ أمْرَ البدايةِ لا يعْنيكَ، وكُلُّ ما عليكَ أنْ تُدركه هو أنّني اللّمْسَةُ الأخِيرةُ، اللّمسة التي تمرّ على ألمِكَ المزمِنِ، بعْدَ صِراعٍ طويلٍ مع المرضِ، فتَجْعَلك تسأل نفسَكَ: أين ذهبَ فجأةً كلُّ ذاك الوجع؟ إنّني مصْدرُ غَريزةِ الخوفِ بداخِلِك مُذْ كنتَ جنينًا، وأؤكّدُ لكَ أنّ تناسي وجُودي حلٌّ لنْ يُنقِذَك. فعلى نحوٍ لا يُدركهُ مخلوقٌ، تحدّدتْ كلُّ المناصبِ العليا في سريرةِ الخالقِ، ولسوءِ الطّالعِ، كانت وظيفتي أن أتفرّغَ للقَبْض عليك. لم أكُنْ سليلَ أُسْرةٍ من نورٍ خالصٍ كبقيّةِ الملائكةِ، ولم أُخلقْ من نارٍ أُسوةً بالشّياطين… وإنّما خُلقتُ من نورٍ ونارٍ، لذلك أُوكلتْ إليّ هذه المهَمّةُ المهيبَةُ، مَهمّةُ تخفيفِ الأرضِ منْ ثِقلِ مخلوقاتِها. ومِنْ ثمّ، أستحقُّ، مِنْ بابِ الإنصافِ، ألّا تُضيِّقُوا عليَّ بكلِّ هذا الأسى الدّنيويِّ، فأنا أخلّصُكم مِنْ طُغاةٍ كثيرينَ، ومِنْ بعْضِ الأثرياءِ أصْحابِ الطّائِراتِ الخاصَّةِ الممِلّينَ، وأخلّصُ بعضَكم مِنْ حياةٍ عليلةٍ مُزمِنَةٍ تُرهِقُهُ، وتُرهِقُ مَنْ حوْلَه.

وعلى أيِّ حالٍ، مهما يَكُنْ ما أخبرتُكم بهِ سيّئًا، فإنّه ليس أسْوأَ ممّا تظنّونهُ بِي منذُ الأزل. هذا هُو قدَري وقَدرُكم، ولا أحَدَ يستطيعُ اقتِطاعِي مِنْ سِياقِ حِكايتِهِ، حتّى في حالةِ سليمان عليّ الرّيس، الّذي سكنَ العمارةَ السّابعةَ والثّلاثين، فوقَ بقالةِ المسرّاتِ في «حيّ بَدّار»، على بُعدِ بنايتيْنِ من حِراجِ السّيّارات… وعلى الرّغمِ من كلِّ ما أحيطُ به عِلْمًا، لا يُخجلني البتّة الاعتراف بأنّني وجدتُ الأمرَ هُناك مختلفًا. فما إنِ اقتربتُ منهُ، ودخلتُ الحكايةَ منَ البابِ الخلفِيِّ، حتّى دارتِ الأرضُ دورةً جدِيدةً جَعَلَتْني في حاجةٍ إلى بعضِ الوقتِ لأُصَحِّحَ ذاكَ المسار.

* * *

تقولُ العبرةُ: «عندما تهمّ بالتقاطِ حجرٍ من الأرضِ، فعليكَ أن تستعدّ لما ستجده تحتَهُ، وإذا لم تكن مستعدًّا لذلك، فلا تفكّر في التقاطه منذُ البَدْء». وعلى الرّغمِ مِنْ أنّ هذِهِ القاعدةَ الأرضيّةَ مألوفةٌ لدى الكثيرينَ، فإنّها تبقَى مُغيَّبةً عَنْ بعضِهم. وكذلكَ كانَ حالُ أمِّ سليمانَ، السيّدة حمدة، حينَ التقطتِ الحجَرَ المعنيَّ، وزوّجتْ ابنَها الوحيدَ واليتيمَ في سِنِّ الثّالثةَ عشْرةَ مِنْ فتاةٍ تكبُره بأحدَ عشر عامًا، وفي ظَنِّها أنّها جاهزةٌ لما ستجدُهُ تحتَ ذاكَ الحجرِ، إلّا أنّها نالتْ من سُخريةِ الأقاربِ والجيرانِ قِسْمَتَها، وتحديدًا مِنْ آباءِ الفتياتِ الصّغيراتِ الّذين امتنعُوا عنْ مُصاهرتِها، بنِظرةٍ متعاليةٍ، جعلتْها تعلمُ عِلْمَ اليقينِ، أنّ صِغَرَ الفتياتِ ما كان ليُشَكِّلَ سببًا يمنعُهم مِنْ تزويجِهِنَّ، لو أنّ لابنِها الوحيدِ جاهًا أو مالًا يُسانِدانِه. لقد أرادتِ المحافظةَ على السُّلالةِ، بتسْريعِ عَجَلةِ الزّمنِ، لكنّها، بعْدَ خمسةِ أشهرٍ فقط مِنْ تزويجِ ابنِها بابنةِ خالِها نبيلة، أُحْبِطتْ تمامًا، وخارتْ قُواها مِنْ تكرارِ مُحاولاتِها اليائِسَةِ كلَّ مساءٍ، لإعادَةِ العريسِ الهاربِ مِنْ عَروسِهِ كيْ يلعَبَ كُرةَ القدَمِ معَ رفاقِه… إذْ ظلّتْ تجرُّهُ جرًّا ممسِكةً بأذْنهِ وكتِفهِ، وهي تُوبّخهُ بصَوْتٍ يلتفِتُ إليهِ العابِرون. في البدْءِ، يتبعُهُما أصدِقاؤُه القِصَارُ القامَةِ، وهم في الغالبِ مِنْ رفاقِ صَفِّهِ، غيْرَ أنَّ الحشُودَ تظلُّ في تزايُدٍ كلّما اقتربَ مِنْ بيتهِ، لتشْمَلَ طلبَةَ صُفُوفِ المدرسَةِ كلِّها، فضْلًا عَنْ إِخوتِهم الّذِينَ لم يلتَحِقُوا بالمدْرسَةِ بعْدُ، صارخِينَ خلفَهُ بهُتافٍ واحِدٍ: «سليمانْ، سليمانْ… يحردْ مِنْ بيتِ العِرسانْ». وحالما يصِلان، تقذِفُ بهِ أمُّهُ فَوْرًا تُجاهَ غُرْفَةِ نوْمِهِ الّتي تتوسَّطُ البيتَ، وتفصِلُها عَنْ غُرفتِها غُرفةٌ ثانِيةٌ، أُعِدّتْ لاسْتِقبالِ الأحْفادِ، تَقذِفُهُ نَحْوَ الغُرفةِ وتَقذفُ في أُذنيْهِ الجملةَ المعهودةَ ذاتَها: «افْعَلْ ما يفْعَلُهُ الرِّجالُ… أفهِمْتني؟»، ولطالما كرّرَتْ على سَمْعِه تلك الجُملةَ بوجهٍ كامِلِ الاسْتِدارةِ، وافِرِ التّجاعيدِ. قالتْها لهُ بأساليبَ كثيرةٍ، منها السّاخِطُ، ومنها الحاني، ومنها ما هو مخلوطٌ بخبثٍ نسائيٍّ مُحرِّضٍ، مختومٍ بغمزةٍ حاكاها سُليمان بغمزةٍ مماثلةٍ، دون أن يعِيَ السّببَ على وجْهِ الدِّقَّة. ولا يشُكُّ أحدٌ في أنّها طرقَتْ كُلَّ الأبوابِ، حامِلةً معها تلكَ الجملةَ العصِيّةَ على فهْمِهِ: «افعلْ ما يفعلُهُ الرِّجالُ…». وفي أشَدِّ حالاتِ اليأسِ، كانتْ تقولُها وهي تربِّتُ على ظهْرِهِ، وتئنُّ ببكاءٍ محبوسٍ في صدْرِها، متأرْجِحَةً في مكانِها، بينما يجلسُ سليمان على ارتفاعِ درجتينِ عنِ الأرضِ، طاويًا إحدى قَدَميْهِ قريبًا من صدره، أمّا قدمُه الأخرى فكان يُحرّكها وسط التُّراب، وينتقي حصاةً يضعُها بين إصْبَعينِ، ثمّ يقذِفُ بها بعيدًا، كما تفعلُ أمُّهُ بحبّاتِ الأرُزِّ السّوداءِ قبْلَ طبخِهِ. ولمّا يصرُخُ غاضِبًا، وهو يمدُّ قدمَهُ إلى جوارِ قرينتِها، لتُثيرا معًا سحابةَ غبارٍ مفاجئةً، تُغمضُ أمُّهُ عينيْها، وتسْمَعُهُ يقولُ كمنْ توصّلَ إلى الحلِّ السِّحريِّ: «سأفعلُ ما يفعلُهُ الرِّجالُ، إذا سمَحْتِ لي بأنْ ألعبَ الكُرَة!!».

ولئنْ كانَ هُناكَ القليلُ مِنَ المعجبينَ بجسارةِ السّيّدة حمدة في تأسيسِ عائِلتِها، فإنّ عددَ النّاقدِينَ لها كانَ أكثَر. إذ تضَخّمتْ أذنا سليمان من شدّة المسك والجذب، وصارتا بعِيدَتيْنِ عَنْ رأسِهِ بشَكلٍ ملحُوظٍ… صارتا أذُنيْنِ وطواطيّتيْنِ كما يشخِّصُ الأطبّاءُ هذه الظّاهرة، ولعلّ ذلكَ ما دفعَ الأُمَّ إلى التّوقّفِ عنْ إعادتِهِ إلى البيتِ مسحُوبًا مِنْ إحداهما، والاكتفاءِ بجرِّهِ منْ عُنُقِه. حِينَها بدأَ سُليمان يُعاني فُواقًا شَدِيدًا، حتّى وهو نائمٌ، ولم تكفَّ عروسُهُ عنْ سماعِ تلكَ الرّكلاتِ الّتي تكادُ تقْفِزُ مِنْ صدْرِه.

وقدِ اسْتَغْرقَ الأمْرُ مِنْ نبيلة عامًا وثلاثةَ أشهرٍ، لتُفهِّمَهُ بشكلٍ كاملٍ، ما يفعلُهُ الرِّجالُ مع زوجاتِهم في خَلواتِهم.

* * *

ورِثَ سُليمان عَنْ أمِّهِ جهْلَها بخُطُورةِ ما يختبِئُ تحتَ الأحْجارِ. لذا اسْتيقَظَ مذعُورًا، في ذلك اليوم، والسّاعَةُ تُقارِبُ الثّالثةَ فجْرًا، وعلاماتُ الوسادةِ مَطبُوعَةٌ على خدِّه. نهَضَ مِنْ سَريرِهِ يُعاني فُواقًا سيُعالجِهُ بشُربِ الماءِ، وجذَبَ أغْطِيَةَ الفِراشِ، ثمّ رمَى بها أرضًا، وخرجَ مِنْ غرفتِهِ على رؤُوسِ أصابِعِهِ، مُحاولًا أن يتحاشَى الأرضِيّةَ البارِدَةَ، إذْ لا يعرفُ أين أخفَى حفيداهُ خُفّهُ المنزليَّ، وجاهلًا بالوجهةِ الّتي سيمضي إليها بعيدًا عنِ الأرقِ، وبعيدًا عنِ السّريرِ. فباستثناءِ الأيّامِ التّسعةِ الماضيةِ، الّتي مرَّ الوقتُ في أثنائِها ثقيلًا كأنّهُ يعبُر حاجزًا مِنْ إسمنتٍ، لم تبتعدِ السّيّدة نبيلة مُدّةً كهذه عَنْ بيتِها، طَوالَ ثمانِيةٍ وثلاثينَ عامًا. ومِنْ ثمَّ، وجَدَ نفسَهُ عالِقًا في المطبَخِ، لا يعْرِفُ مِنْ أينَ يبدأُ ليلَهُ. وعلى الرّغمِ مِنْ أنّ وسائِلَ تخفِيفِ الأرقِ مرّتْ أمامَ ناظِريْهِ في شَكْلِ رسائِلَ قرأَها على شاشَةِ هاتفِهِ مُنْذُ سَنواتٍ، فإنّه لا يتذكّرُ مِنْها الآنَ شيئًا. لذلكَ قالَ لنفسِهِ مُواسِيًا، وقد وقفَ مُولّيًا وجهَهُ شطْرَ الدّولابِ، تحتَ مِصْباحٍ دائِريٍّ يتدلّى مِنْ سقْفِ مطبخِهِ، فينعَكِسُ ضَوؤُهُ فوقَ طاولةِ المطبخِ على شَكلِ طبقٍ مِنْ ظلالٍ: «إنّ طُرقَ تخفِيفِ الأرَقِ كطُرقِ الثَّراءِ السَّريعِ، لا يمكنُ أنْ تنجَحَ إلّا في حالاتٍ نادِرَة».

أوّلُ ما يلفِتُكَ في رأسِ سليمانَ هو أذناه، أذنان تبدُوانِ لخفّاشٍ، لا لكائِنٍ بشَرِيٍّ، ومَنْ لدَيْهِ مِثلهما فسَيُعاقَبُ، حَتْمًا، بسَماعِ أخْفَضِ الأصْواتِ وأبْعَدِها. ثمَّ تشُدُّكَ فيهِ بَشَرةٌ صَلصالِيَّةُ اللّوْنِ، ورجفَةٌ طفِيفَةٌ على خدِّهِ الأيسَرِ، وكفٌّ ظاهِرُها مُغطًّى بشَعْرٍ كثيفٍ يتخلّلُهُ بعضُ البياضِ، أشعلَ بها الموقدَ، وهو يتَظاهرُ أمامَ نفْسِهِ بأنّهُ يعْرفُ ما يفْعَل. لكنّ الحقيقةَ هيَ أنَّ طريقتَهُ في تفْتِيشِ العُلبِ الصّغِيرةِ المتشابِهةِ في اللّوْنِ والحجْمِ بحثًا عنِ البُنِّ، لا يمكنُ أنْ توصفَ بالماهِرة، إذ يبْدُو أنّهُ كرّرَ فتْحَ بعْضِ العُلَبِ أكثَرَ مِنْ مرّةٍ دونَ أنْ يلحَظَ ذلكَ، بالإضافةِ إلى أنّ الماءَ المغليَّ فاضَ فوْقَ الموقدِ، ما أثارَ غضَبَهُ وفزَعَهُ مَعًا. في إثْرِ ذلكَ، توجَّهَ إلى شُرفَةِ المطبخِ الّتي تُطِلُّ على زقاقٍ يفصِلُهُ عنِ العِمارةِ المقابِلةِ، وسَحبَ البابَ الزّجاجِيَّ، ثمّ خرجَ إلى الشُّرفَةِ، حيثُ يمتدُّ اللّيلُ ببُطءٍ كدُخانٍ كثيفٍ أسْوَد. نظرَ إلى الأسْفلِ قليلًا… لكِنَّ الأمْرَ غيرُ مُهِمٍّ على الإطلاقِ، فتِلكَ مُجرّدُ عادَةٍ بشَريّةٍ، تلي فتْحَ أبوابِ الشُّرفاتِ والنَّوافِذ. حينَ عادَ إلى المطْبخِ، لم تكنْ رائِحةُ الغازِ قدْ تسرّبتْ بشَكلٍ حادٍّ، ومعَ ذلكَ لامَ نفْسَهُ على الابتِعادِ عنِ الرَّكْوَةِ، كما فاجأهُ صَوْتُ أمِّهِ الّذي حضَرَ ليرْصُدَ أخطاءَهُ، ويَنْتقِدَها كعادتِها، فسَمِعَها وهي تعاتبُهُ: «إنّ مراقبةَ البَيْضِ وهو يتقلّبُ في الماءِ المغليِّ لا تُعجِّلُ اسْتواءَه… عليكَ أنْ تفعلَ ما هو أفضلُ، وتبتعِدَ عنْهُ قلِيلًا». هشَّ أذْنَهُ بشَكلٍ أقلّ تأدُّبًا، لا يليقُ بحضْرةِ أصْوات الأمواتِ، ثمّ مسَحَ شيئًا رطبًا شعُرَ بهِ على قفاه، وعادَ إلى البحْثِ عنِ البنِّ بيْنَ العُلبِ المتشابِهة. في تلك اللّحظةِ، عبرتْ أُذنَيْهِ أغنيةٌ وصَلتْهُ مِنَ النّافِذةِ المقابِلةِ لشُرفَةِ مَطْبخِهِ، على بُعدِ ثلاثةِ أمْتارٍ أو أقلّ. وتناهى إلى سمعِهِ صوتٌ شامِيٌّ مَرِحٌ يُغنّي برِفْقةِ فِرْقةٍ كامِلةٍ مِنَ البهْجَةِ: «قدّيشْ حلوة هالشّيبة/ بتنقَّطْ حُسْنْ وهِيبة/ولو كنّا بالعمرْ كبارْ/عنّا قلوبْ أولادْ صغارْ/ من قال الهوى عِيبة». جاءتِ الكلماتُ في صِيغَةِ الجمْعِ، فشعُرَ سليمان بأنّهُ معنيٌّ أيضًا بهذه الأغنية، وطفِقَ ذُو الأذُنيْنِ الكبيرتَيْنِ يبْتَسِمُ، وهو يوشِكُ أنْ يُسْنِدَ الجوْقَةَ بصَوتِهِ الخشِن. ثمّ أخذَ يرتِّبُ شعْرَهُ، ويُراقِبُ انعِكاسَهُ على الغِطاءِ الزُّجاجِيِّ للموقدِ، ويهزُّ رأسَهُ مع الإيقاعِ المبْهِج… حينها، تذكّرَ أين تضعُ زوجتُهُ عُلبَةَ البنِّ، فقد كانتْ تُبعِدُها في ركنٍ قصِيٍّ، حتّى لا يلتقِطَ البنُّ روائحَ البهارِ، كما زعمتْ في يومٍ مِنَ الأيّام. إنّ سِمةَ التّذكُّرِ عندَ البشَرِ مُثِيرةٌ للإعْجابِ، إذ حضرَ المكانُ في ذاكرتِهِ كامِلًا، مع حُجّةٍ لتعليلِ انزواءِ العُلبةِ بصَوْتِ السيّدة نبيلة، ذاك الصّوتِ المتباهي بمعرفةِ كلِّ شيءٍ كالعادَةِ، فهي الأكبرُ عمرًا، والأكثرُ خبرةً، كما كانتْ دائمًا منذُ ليلةِ زواجِهما. توجّهَ مُنْتَشِيًا إلى الجِهةِ الّتي تذكّرَها، وابتسمَ إذ تناهتْ إلى أنفِه رائحةُ السَّوادِ المختبئِ أسفلَ العلبةِ، فوجدَ أنّ الوقتَ قد حانَ للتّرحُّمِ على السيّدة نبيلة. قامَ بذلكَ، فعلًا، وهو عائدٌ إلى الجهةِ، الّتي تنطلقُ مِنْها الأغنية الظّريفةُ، وتحديدًا بعْدَ أنْ وضَعَ مِلعقَةَ بُنٍّ هَرمِيّةَ الشّكلِ في رَكْوَةِ القهْوَة. عندها، فاجأتهُ امرأةٌ تقفُ أمامَهُ مباشرةً، لا يفصِلُ بينهُما إلّا ذاكَ الزّقاقُ الضّيِّق. كانتْ تحمِلُ وعاءً تخفقُ فيهِ شيئًا مّا بتمَهُّلٍ شَديدٍ، وهيَ تنْظُرُ في اتّجاهِه. بينما شَكّلَ لوْنُ المانجو، الّذي طُلِيتْ بهِ جُدْرانُ مَطبَخِها، خَلفِيّةً جعَلتْ إضاءَتَهُ تبدُو في نظرِهِ أكثرَ خفُوتًا مِنْ إضاءَةِ أيِّ مطبَخٍ رآهُ مِنْ قبْلُ، أو ربمّا خُيِّلَ إليهِ ذلكَ، لأنّ مُسْتوى صَوْتِ الأغنية انخفضَ عمّا كانَ عليْهِ، فشُبِّهُ لهُ أنّ الضّوءَ قدْ خفَتَ أيْضًا. لا شكّ في أنّها أربعينيّةٌ، وإنْ بدَتْ في عَينيْهِ أصْغَرَ مِنْ ذلك. حالما رأتْهُ يُحدّقُ إليْها، انسَحبتْ بخِفّةِ ريشَةٍ،  مُخلّفةً ظِلالَ حَركةِ يدِها واضِحَةً خلفَ سِتارةِ مَطبخِها البيْضَاءِ الشّفّافَة. ظلّتْ عيناه مُتَعلِّقتَيْنِ بما خَلْفَ السِّتارةِ، وكأنّهُ ينْتَظِرُ أنْ تُخرِجَ لهُ أرنبًا مِنْ قبَّعةٍ سَوداءَ ليُصفِّقَ لها. فتمكّنَ مِنْ تحديدِ شَكْلِ قوامِها الممتلئِ، وسواعدِها البضَّةِ، وقامَتِها الأشْبَهِ بِقَصْر. بحثَ بشِدّةٍ عَنْ أيِّ شَيْءٍ قدْ يصْلُحُ نواةً لحدِيثٍ مّا، ثمّ حِينَ أخْفَقَ اعْتَذَر وهو لا يعلمُ عَنْ أيِّ شيءٍ اعْتذرَ، لكنّهُ وجَدَ الأمْرَ ضروريًّا مِنْ بابِ اللّباقةِ على الأقلِّ:

–           آسف… آسف.

قالها مرّتينِ، وهو يلتصِقُ بشُرفةِ مطبخِهِ، حتّى ليبدُوَ للرّائي البعِيدِ، أنّهُ يُحاولُ السُّقوطَ في ذلكَ الزُّقاقِ الضّيِّقِ الّذي يفْصِل بينهما. وكان على وشْكِ أنْ يقتنِعَ بأنّهُ ليْسَ لتلكَ المرأةِ الجامِدةِ في مكانِها مَشاعِرُ يمكنُ إيذاؤُها، لولا أنّ قهْوَتَهُ فاضَتْ مُتسَبِّبَةً في تَشْتيتِهِ، فالتفَتَ بارتِباكٍ نحْوَ الرّكْوَة. فكّرَ قليلًا في موقدِهِ الّذي أغْمَضَ عيْنَهُ مرّتينِ في أقلِّ مِنْ سَاعَة. وتبادَرَ إلى ذِهْنِهِ أنّ السيّدة نبيلة كانت ستُشعِلُ البَيْتَ حَرْبًا، مِنْ جَرّاءِ هذا العبَثِ في مَطبَخِها، لو أنّها أبْصَرتْه. عادَ، في إثْرِ ذلكَ، إلى الشُّرفةِ ليُكمِلَ، على الأغلبِ، اعتذاراتِه بـ «آسف» ثالثةٍ، لكنّ ضَوْءَ المطبَخِ وأُغنيَتَهُ وسيِّدتَهُ المخْتبِئةَ، كانتْ قدْ أُطفِئتْ جميعًا، وغادرتْ كحُلْمٍ، بينما ظلّتِ النّافذةُ المغلقةُ الحقيقةَ الوحيدةَ الباقِيَة.

* * *

تُعَدُّ لعْبَةُ دوّامَةِ الخُيولِ، في إحْدَى الإحصائيّاتِ الأرضِيّةِ، أكْثَرَ الأماكنِ أمانًا، إذْ لمْ تُسَجَّلْ حالةُ وفاةٍ واحدة في صُفوفِ مَنْ يركبُونَ حصانًا خشَبِيًّا يظلُّ يلفُّ بهم لفّةً دائريّةً على إيقاعاتِ الموسِيقَى. لذا، فمَنْ يَهابُني عليْهِ أنْ يحْصُرَ نفسَهُ في تلكَ البُقْعَة. لكنّ السيّدة نبيلة بنتِ حسن، حرمَ السّيّدِ سليمانَ، وابنةَ خالِ أمِّه، الّتي كانتْ تبلغُ اثنينِ وستّيَن عامًا، لمْ تلتفِتْ عَصْرَ ذلكَ اليومِ الّذي زُرتُها فيهِ، إلى دَوّامَةِ الخيُولِ، وهي تمشِي في الحديقَةِ العامَّةِ، بحذائِها الرِّياضيِّ ذي الرُّسُوماتِ الخاصَّةِ بالمراهِقات. فقدِ انْشَغلَ ذِهنُها باليومِ الّذي سبِقَهُ، حينَ لمْ تُهوِّنْ، بشَكلٍ جادٍّ، على ابنِها الأصْغَرِ قُصَي، وهو يعتذر لها بحُرقةٍ عنْ نِسْيانِهِ تهنئتَها ووالدَهُ، بعِيدِ زواجِهما الثّامنِ والثّلاثينَ، واكتفتْ بأنْ قالتْ لهُ حَرفِيًّا، بصَوْتٍ يبدُو عليهِ الضّيقُ:

–           كلُّ شيءٍ يجري على ما يُرامُ يا بُنيّ… أنتَ معذورٌ. فلا أحدَ يريدُ أنْ يُفوِّتَ تهنِئةَ والدَيْهِ بمناسبةٍ سعيدة. أعرفُ تمامًا أنَّ الأمْرَ ليْسَ بِيَدِكَ، فضلًا عن أنّ أعوامًا كثيرةً مازالتْ أمامَنا لنكونَ فيها معًا، فلا تأسَفْ ولا تعذِّبْ نفْسَكَ هكذا!

وبينما ظلّ قُصَيّ ينتقِلُ مِنْ مبرِّرٍ إلى آخر، وإحساسُهُ بالذّنبِ يتفاقَمُ، لمْ تحاوِلْ أنْ تخفِّفَ الأمْرَ عنْهُ، كأنْ تخبرَهُ بأنّهُ الوحيدُ في العائلةِ، الّذي يصِرُّ على تذكُّرِ هذه المناسبةِ كلَّ عام! وهذه، على الأغلبِ، عادةٌ قديمةٌ لدى الكثيرِ مِنَ الأمّهاتِ، تقتضِي إلقاءَ المزيدِ مِنَ اللّومِ على الابنِ البارِّ أكثرَ مِنْ بقيّةِ إخوتِهِ، للاستزادةِ في طاعتِهِ وعطفِهِ، لا أكْثَر. فحتّى هي نفسُها لم تعُدْ تتذكّرُ ذاكَ اليومَ الّذي زُفّتْ فيهِ إلى طفلٍ في الثّالثة عشْرةَ مِنْ عُمُرِه، قضَّى مُعظَمَ ليلتِهِ الأولى معَها وهو يبكِي إلى جوارِها، ومَنْ يرْغَبُ في تذكُّرِ شيْءٍ كهذا على أيِّ حال؟ لكنَّ آخرَ العُنقُودِ يُصرُّ على الاحتفاءِ بكلِّ المناسباتِ الّتي جدْوَلَ تواريخَها في رأسِه. كانتْ تُصْغِي إليه، وهي تفكِّرُ في الوقتِ الّذي تُضيّعُهُ في الاستماعِ لكلِّ تلكَ المبرّراتِ، بينما يمكنُها أنْ تكونَ أكثرَ جدوًى، فيما لو تُركتْ طَوالَ ذاك الوقتِ لتتفاعلَ مع صديقاتِها، في مجموعاتِ المحادثاتِ المختلفَةِ في هاتفِها، المجموعات الّتي تُشْرِفُ بنفسِها على كلِّ واحدةٍ مِنْها.

في تلكَ اللّحظةِ، لمْ يكنْ بُدٌّ مِنْ وضْعِ حدٍّ لهذه الرّتابةِ العائِليّة. فقمتُ بزيارةٍ عاجلةٍ للسّيّدةِ نبيلة في الممْشى، على بُعْدِ عشرةِ أمتارٍ فقطْ مِنْ لُعْبةِ دوّامةِ الخيولِ الآمِنَة. وليسَ من الصّدفةِ بالمرّة أنْ تتّفقَ هذه الزيارةُ مع توقيتِ مكالمةِ قُصَي لها، في اليومِ الّذي سبقَ مَوْتَها. لكنْ، أيّنا المخادِع حسب رأيكم؟ أنا، أمْ فقّاعةُ الأملِ الهشّةِ، الّتي تُغذِّي وهْمَ الخُلودِ فِيكُم؟ فأنتم لا تكترثونَ إلّا بالّنتِيجَةِ النِّهائيّةِ الّتي آتي بها أنا في النّهايةِ، ولا تنتبهُونَ إلى سُوءِ فِعْلِ الأوْهامِ الكاذِبَة، مثلما هو شأنُ تلكَ اللّحظةِ الّتي قالتْ فيها السيّدة نبيلة لولدِها، على الجهةِ الأخرى من الهاتفِ: «مازالتْ أمامنا أعوامٌ كثيرةٌ سنُكونُ فيها مَعًا».

وقتُ الوفاةِ: (18:6)

مقطع من رواية فاطمة عبد الحميد “الأفق الأعلى” من روايات القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية للعام 2023. يُنشر هنا بالاتفاق مع المؤلفة.

SHARE