عدنان عادل: آماركي في موسم قطاف المطر

Adnan Adil

الشمس كلب أحدب.

بين ضحايا الضوء مخلوق جميل لا يكترث للخطيئة والنهار ولا ينحن أبدا في حضرة يوح2، مع قطرة الفجر ينحدر، هو والحياة في أوداجه عائمة، بلا حدود يسكنه الاتساع، متوهج يرتدي الظهيرة قبعة، قلب العتمة منبعه، على قامة الأشياء يهرول، يترك وراءه أثارا لماموث يَسّخر من الانقراض. يمضغ الضوء وأحشائه خالية من الأيام، رفيع يتشبث بأرض هزيلة، في بهجة الإشراقة يبحث: عن وجوه مُتصَحِّرة، عن مركز يستقطب عناصر مُحتجة، يزاوج الماء بالنار، ويبصق على الأبعاد الأربعة بحرا مُرمَّدا. ودون أن يسقط، يغمر نفسه بالفضيلة، يزيح من ملكوته قصورا من الرمال ويتربع على الهواء.

من جنبه تتبرعم لوعة، في جيبه ماض يتقولب ومفاتيح الطفولة تدغدغه. يرتعش لحظة، يولد البدء حين تطأ ارتعاشاته مراسيم المسيرة، ويهيم بالتقاط أعقاب السجائر من منفضات المدينة.
في أحضان زمن مخصيّ، الناس أعقاب سجائر والنهار منفضة تئن من فرط الامتلاء.

المادة سؤاله المعلق والروح جوابه الطفولي، إنه يفيض دون مُنقذ أو مُقَدَس، الفرح يرقص انتشاءا بالخلود، فيض العقل يسكره والقلب ينتعل العالم .

ولدتُ في ميتازئبق، جلستُ على عتبة القلق على أمل أن أكون أو أن أتبخر. ضجيج الفجر يبعد ذاكرتي عن حضور الأشياء، سكينة قاتلة تتناسل بين فكيَّ محاربة إمبراطورية الفوضى بأسنان تطحن كل ما يصادفها. أتذكر فقط ذلك الظلام وكيف أن أنثى خفاش أرضعتني فبتُ أتبعُ الليل أينما مضى.

النوم يخشاكَ والمدينة خالية. كلما فكرتَ ببياض الجسد وبياض الحقيقة، زادَ الفجر شحوبا ومالت الشمس عن مقعدها لتصيح:
– لقد باض الديك!
ها هنا تلتصق الفراشة بالعاصفة قربانا لنسيم مجهول، يختبئ الليل في حضني، للحديد طعم خبز محروق.

لكَ أن تشتتَ البياض أكثر لتتغذى بقوس قزح، بمقدوركَ أن تفطر بالوهم وتزين المائدة بخيالات مروضة، لكَ أن تقتسم الجنة مع من يملكها وتمتطى نورساَ أو لكَ أن تبقى هكذا، غير قابل للاحتراق، فاقد الشكل مبهور الملامح، طفل متسخ يداعب آليته وهو يراقب التحولات، حوله يحوم طنين أزمنة سامة، قرب قدميه الكبيرتين ببساطة تنتحر المفاهيم.

كذاك اللاشيء أنت، بعيد في العمق، سريع وصميمي في السقوط وأكثر نبلا من الموت. قرون وأنت تمضغ أقراصا زمنية: تَبّيَض، تَخّضَر، تَزّرَق وتَصّفَر مع وحشة العشب ودائرية القلق وتَحّمَر غيظا حين يُقَبلكَ الله.

فاقد الصوت ثمل وسط إضراب العاطفة، أحكم قبضتكَ على باقة الإنسان، زدّ سعة أحضانكَ، وجودكَ ثمرة تُعصر بين يدي ملاك، أنتَ والقشرة تتخطيان الألم، الانكماش، إنه التحول ! لكم أود أن اعشق الأرض مرتين ! كل مساء تقول لي : تفيض منكَ رائحة الحديد، هل أنبتَ الشجعان الزائفون الشوك في حديدكَ المتقد ؟! أيها المضروب بالحياة سلفاَ، لا تتحسر، أنصتْ لقهقهة الطبيعة وطبل الفجيعة، لا شفقة في كروش تحجب الخصيتين عن رؤية الهلال. لا مكان للنعومة، الدروب مشبعة بعقل الكون وأفخاذ النساء والصافرة تنبئ بهشاشة الحديد. كل مساء أقول لها: أحبكِ، وأحتوي الأماكن بفراغي العظيم.

هوذا قُوُته معلق في السقف، كثيرا ما ينقض على الجدار ويهز مدينة التين، لا شيء يتساقط، لقد استنفذت المدينة بياضها، تهالك آماركى وقربه انسابت الأطفال، أطفال ناصعي البياض، ناصعي البياض جدا كتين اسود.

مؤخرة الضوء قَبّلتَها راجيا، تساقطت السماء في عرس نمال ضالة تحمل النهار على أكتافها وتمضى، انفلقت الحقيقة تحت أقدام الراقصين، ومُلئَت الجيوب بقطع الأمنيات. لأول مرة يشعر هذا الجسد المتقطع بالدفء.

اشتعلتُ بالصدفة، قبل مضاجعة أبى لهمهمة النرجس في الثكنات، قبل بزوغ العالم، اشتعلتُ هكذا قبل المسميات، لامستُ السراب.

ضوء ما أنتشل توهجي، جعلني أشهق متنفسا الفضاء كالبحر، وآخر تجلى في هيئة قتل، أقام لغرائزي مأتماَ، أراني حيوات لا تحصى: ذاتي وقد أرعبها سكون الضفادع، أراني هلوسة تمتعض ووطناَ كـ (الثقب الأسود)، ضوء ما حَمَّلني طبائع التراب. أدنو من منتصفي، مدن مُغَبَّرة تتساقط من أطرافي عاوية تنفض عن قامتها زغبها القتيل، على طول المسافة تُكدِّس خرابا مصدأ بالورود. لم أعلم أن الرقص بأطراف ناقصة يوحي بالحرب.

أعدو، وفى كأسى فقاعات تصير مدنا ثم تنفلق. لم أكن أدرك أن للحظة رائحة الوردة كما للوردة رائحة تعفن اللحظة ذاتها.

تشابك ازدهاري الخافت بأنثى الربيع وولادة الكلمة. النهارات تنقذف من فوهة المدينة كنطف تحتضر على جنبيّ سكك الحديدية لقطارات تَستَعبد الزمن، تناسلَ الجسد بالأوطان وفى أطرافي طيور تُرضع أرق المكان. كان هذا حين امتصت المدن النعاس من الخرائب وراحت تطفو في حلم ماجن.
لا حاجة لموت أتهجاه في تجاعيد رغيف الله. أنا تفاحة سقطت للتو لتثبت أن للجاذبية مذاق الانفلات وأن القلب مشعوذ مغرم بعادته السرية. أنضجني أيها الكلب الأحدب لأُغري الضوء لأتلوى على الأرصفة أتناسل هناك حيث طلَّقت الأرض فرجها المبعثر.

شفتاي شهاب يلثم لعاب الكون، مكان يتبندل كحلمة في فمي، فصول خلف هواجسي تتوارى، خريف يتجذر، ينفجر، يثمر دما، عشق يُقَبّل أوراقه العائمة والسماء نعل لمارد مفقود.

الكل يعوم في محيطكَ وأنتَ بجوعكَ تغذي آماركى وهو مسجّى، بين كفيه يأسر موسما ويُحرّض السواقي أن تقطف المطر، مرة ساير الجمال: “النسمة لكَ وظهيرة المقابر الموحية لي، إنه تضاريس الوعي، أن تكونَ قُبّلة تتمسح بشراع، وأن أكون سكونا يتفاقم، أطوقُ القمر كثيران وحشية”.

أدركُ أن سين لقيط، في الزورق المتمايل بارتجاجات اللذة أصغيتُ لتغنج أمه : ” إن مهبلي صغير لا يعرف الجماع وشفتاي صغيرتان لا تعرفان التقبيل “.3

يشتَد بكاء صوتي المتقطع إليكَ، لتمتد هذه الرقبة طويلاَ، إنني لم أرَ الجحيم بعد. كان ذهابي رجوعاَ ورجوعي ذهاب صاعد، سلكتُ طريقاَ مذبوحاَ، وصلتُ إلى رقبة الغروب. في حضرة التسكّع كدتُ أصلبُ نبوتي، على راحتي استلقت الفوضى، نفختْ في هيكلي وأجبرتني على الصهيل. الأرض تفيض بالأنوثة، والزمن بالقصائد، والحب بثاني أوكسيد الكاربون، فأختنقُ بالجمال.

منزوع الخوف ومختنق بالكوارث، أعصر الهواء بفكيّ وأبصقُ على القرميد وروداَ، لا أكترثُ بالعُريّ، جسدي حصان مجنون يسكن زوبعة القلق، يهمز كينونتي كلما همس العقل في أُذنه: “متى تتحطم ؟!”.

تطير البيوت حسب منطق الطير فأمتلئ بالقيء، أحشر هيكلي بين بلاطات الأرصفة:
موقن أن لي حاجة إلى قبح مزدهر وكثير من الشر لأزيح السماء من وقع الهزيمة. هكذا رغم براءتي، ترمقني بدمها كل صباح تلك الشجرة الحائض، على أغصانها تتقافز حيوات فتية. وملتمسا انحدار الملاحم صوب كارثة يسمونها وطنا، أرقص مع لحظة عمياء، ألتصق بنعومتها وهي تتلمس فحولتي، أزداد التصاقا بها وتزداد ذوبانا بي، أتحول الى لحظة عمياء وتصير هي كائنا يلتمس انحدار الملاحم.
وموقن أيضا أن النطق يُولد المعنى وأن إدراك المعنى والخراب يولَد دائما من تصادم الوعي ببيوت طائرة.

العالم قبح قديم، أتلكأ في مرافقة القبح. كانت قدماي تستمعان لرقصة الكنيسة، هويتُ من العمق بفعل ضحك طائش، سحقتُ حلزونا وانسكبتُ. نقائض قادتني إلى عنق استفهام مقلوب، إلى حب مليء بالكمائن، جرجرتني نقاط وضيعة. كنتُ أتمسك بهدب وحيد مبلل بالفرح، كسيف درويش مكبوت دلف خاصه صو4 بأسراره وبحر الشمال بعريه في جوفي: من عادة الأنهار أن تبيح عذريتها لمناقير المتسولين. طلّقني الموت، الفراشات بعويلها كستني.

سيكون عندي حروفا مشرنقة تفقس بين مسامات الجمال، فِراخا ترضع هول النثر، سأمطرُ كلما تشبعتُ، كلما مُتُ سأغتسل بدم ثورات مومس. إنه نفس البيت الذي يسكنني كل مساء، أنبسط، أتكوّر، من عادتي أن أتحول إلى سلحفاة ضجرة كل مساء.

بين فرحة وأخرى يأخذ العالم شكل الغرفة ويبدأ القلب بقتل تفاصيله.

بين حزن وآخر، يأخذ القلب شكل العالم، يبدأ الموت بتسلق مستنقعات اليعاسيب وأبدأ انا بالتقرفص هازا غابات رأسي والرياح، أنظمُ طابور الأسبوع، يوم ثامن غليظ يسمي نفسه أربِميساَ 5، يحشر كرهه بين يومين كئيبين، يزيد اليوم اللقيط ارتباكي، فأحتج.
لكم هم كريهون، ملتصقون بظلالهم، سفسطائيون، التحول يصيبهم بالأرق، يستبعدون كل ما هو صالح للانفلات، الندى بنعومته الفائقة يحرث لهم الدروب، عجبا !

بين فرحة وحزن أحمقان، أضحك كسنديانة مُثقّلة بالربيع وأترك البكاء لوليد أفلت عباءة أرضه فصار يتشبث بسواد الليل والفحم والإسفلت.

بين العالم وبيني، خطوة وشعرة مع نصف نبض.

أعرف ما تبقى من البقايا، حزمة من ثقوب وفصول تعصر ذاكرتي المثقوبة بالمطر القديم،
تُقَطرني دمعة على أرض مرفوعة الساقين من فمها تسيل النجوم صرخات.

يولد الجمال حين تمتص أنثى البعوض ألم النهار أو حين يخطف حزنٌ ظهيرة من نهايات الصباح، وأضحكُ بلا خطيئة أو ثوب، السحر يعريني والبلاد تلبسني هذيانها. إنها الأزقة الملطخة بالحقيقة حين تراني يستطيل قلبها وتفتعل الأكاذيب.

كل يوم يسقط قرب عتبة وعيّ فجر يتلعثم تحت عجلاتي الحديدية كأسطوانة ضجرة، كل يوم
أسكنُ سطوح الظهيرات المستوية، أترقبُ انغراس الدهشة عميقا في خاصرة النشوة، كل يوم ألوك حنين القوة.
اعشوشبت حياة في كَفي، إنه كالزئبق هذا الصباح وكل الصباحات الآيلة للسقوط أو الممتدة للأعلى، أين أثداء الدراويش لتسقي هذا المنطق برقصة صوفية ؟

الخطر يكمن في تقيؤ الأشياء، فهذا المكان المنساب قربى ممغنط منذ الطفولة، لا فائدة من زجّ الفراشات في شقوقه أو زرع الفجر في تربته. علمني الانفلات أن احتضن الأرض بتكهرب بائس وأركل معضلة الزوال كي لا أفقد صفاء تمغنطي، فالدوران على محور واحد أصبح غريزتي، ولا احلم بخاصه صو ليروي وريدي، فاللوكيميا داء البلاد البعيدة جدا والمستعبَدة.

اختلطت عندي الزرقة بالرمال والزحف بالطيران، حسبتُ الأرض سماء فطرتُ زاحفا. سلاسل الضوء أحالت جسدي إلى دقائق فوتونات هالكة، نفذتُ إلى النغمة، فقط كانت الأغنية ترتفع هكذا دون مواساة، ولأنني أمارس طقوس الطيران كل لحظة، سحابة في جوفي نبهتني بأنني مطر ولا نهاية لي، أشربُ الغيمة من فم الله، على جبين الأرض اقضي حاجتي وأبول على الكواكب بالتساوي.

هذا المساء غاص الليل في فمي، رقصة مَسّت ذاكرة الأشياء، حيوات في دمى بدأت تتخثر. شراسة الحب تشتت فراغي النبيل، أعيش كالطيف تحت أقدام السماء، لا أتأبطُ لونا أو خراء، الأبيض يؤرقني والليل يتسع بياضا.

ومازال العالم قريب وبعيد، قريب وأنتَ تلمسه كل صباح، وبعيد وأنتَ تلمح انسكاب الجهات على جسدك المنتصب، جهات مجنونة بالحياة: في السابعة صباحا تموت، عند الظهيرة تنكسر، في منتصف الليل تلتئم لتموت من جديد. جهات مُخَمَّرة بالرغبات تنتحر قربي، تتساقط: الجنوب جزيرة مسلحة بالبعوض، الشمال شريط جبلي يتناسل كلما بدا انقراض القَبج وشيكاَ، الغرب شموس صدأة وأناس ملونين والشرق قضية.
منذ صغري وأنا أصطدم بالهواء، أراقبُ على السبورة بكتيريا القتل تزحف على الخارطة الورقية، تجعل من الجهات جغرافية للتسكع وزاوية ميتة لانكسارات التاريخ، تنهي أوجاع الحدود وتحدد مصائر الحقائب. على وتر الطفولة عزف لي المعلم شيئا من هذا القبيل ثم، من فرط الحنين، انفجر فوق سرير في المنفى، وقيل تحت امرأة.

ومازالت البوصلة لا تشير إلا إليك، إليكَ غربا مغمى عليه وشرقا لا يصحو من النوم، أعقدُ مناخير الشرق بأذيال الغرب وأطردُ الليل من الملكوت، أيامي بضعة أحجار ألقيها في بحيرة عانس وأستمع للخليقة: المركز يقتل في نفسي الأسماء، الأسماء التي ترطب ذهني بالموسيقى هطلت ذات مرة في موسم قطاف المطر كقطن محصود توا مثل أدمغة حامليها. أنا المشكوك به في صياغة خلقه، قابع في قعر لا يعرف الشك، أُكبّرُ الجمال لألعنه، أنَمّي الأحداق لأغزو الحزن، أُضَيّعُ المواسم وأنتظرُ المطر لأنني فقط بالمطر أزول وليس بالزمان.
الزمان ليس نهرا ونحن لسنا قوارب، كما إن الزمان ليس جدارا ونحن لسنا عربات تئن في ظله، كما إننا لسنا بالتأكيد مسامير حليقة الرؤوس.

هذا المساء، تخر قصيدة من ثدي المدينة، على الأرض ينتصب آدم جديد، آدم يحوم حول القنبلة الذرية ويخشى الاغتراب، آدم مضطرب يجامع الأشياء بهستيرية بدائية ويُجرد اسمه في لائحة الانقراض.

هذا المساء، على الطريق المبلط أرى الكون منفلقا كضفدع، ثورة تجلس على حافة الطريق تمسح حيضها بورق التين، نهار يتوضأ بالشتيمة، امرأة تحبس نفسها في نفسها فتلد الحرب، حرب تتثاءب فنغط نحن في نوم عميق، يتمدد المحارب في حضني منكسرا، أشم رائحة فصول محترقة وأشتم. أخشى أن أكون وليمة لهذا التعفن البرجوازي.

هذا المساء، سلّتْ الأرض نفسها من تحتي، قرضتُ باب سقفي، تعلقت الملائكة بأذيال الخطيئة وسقط الله في حضني. حاجتي في هذه اللحظة إلى معجزة كحاجتي في الجحيم إلى بيرة مثلجة. هذا المساء غاص الليل في فمي، غدا ستشرق الشمس من مؤخرتي .

أيها المخبول، أهكذا تُغيِّر الأقاليم ؟!
أيها الكلب الأحدب، حرصاَ على المبدأ اشرق من اللاجهة.

تحت هذيان السماء وعلى مقربة من عتبة باب يصرّ كلما فُتح: الله وجارتي المربعة ينتظران سيدا فخما ونبيلا كإبليس.

موغلا في البراءة، أولج تفاهتي في فم الأزقة: أقرأُ، أفرزُ، وأرسمُ كلماتا باسم آماركي، أدركُ أن السماء بحر ميت، فيها يعوم كل طائر، الأرض جملة موسيقية فيها تصب الأنامل رعشتها، المدن ضرورة فائضة على أرصفتها تترنح القوارب، في قعرها يتبادل الموت والحياة أدوارهما، في أركانها تجد ذبابة مغمى عليها حولها يندب السكارى.

شَعري حقل، جسدي قارة مفخخة ورأسي محاصر بالربيع، تقصفني السماء بالحالوب والفراشة، أنا الأعزل المعتوه، أحسب الحالوب جيشا من الرصاص، الفراشة نابالم ملون والندى مأتم. هبوب يكنس وجهي، مزروع بأجنة رافضة ولا موت يحصدني، مُتَيم بالوضوح، لا حيلة لي. البياضات بسعة ظهيراتها تئن كعباءة كانت تلاعبها يد طفولتي، إنها الواقعة، يختلط عندي الليل بالأُمهات والحقيقة بالكلاب السائبة.

أيها الحالمون بالورود، الجذور تطلب العلو، هي ذي الكلمات حبلى يسير على مداها آماركى صوب مدينة مترهلة كآخر النهار. أفرغْ ما في جوفك من صهيل وصخور، صُبّْ نقيقكَ في لهفتي وأعلنْ: صارم كصمت الكنائس، أسخرُ من الزمن ولا يعتريني أي ضجيج، ذاكرتي تحتفل ببساطة الأشياء، أسميها كيفما أشتهى: الثلاثاء خريف يستمنى الغصن، الروح فصل خامس لسنة معقوفة، الحروف فضلات الله.

إنه كالزئبق هذا الصباح وكل الصباحات الآيلة للسقوط أو الممتدة إلى الأعلى، قد ترتد وتنفلق في وجهي كالعادة منذ آلاف السنين أو قد تنفذ من ذاكرة الأشياء، ثاقبة ستائر الطمأنينة لتتحطم هناك على جبين الشمس تتكسر، إنها شظايا صباحاتي ! سأبتلع النار مثلما كان أجدادي يفعلون، لا لأقتل الجسد بل لأطفئ الفيضان الذي غزا هيكله. إن الضياء لقاتل ! لنقضم المصابيح إذن.

لا هدنة مع هذا الواقع الشاحب شحوب السلام الزائف، الحرب هي ما يجب أن تكون عليه الوردة.

تحت قيء السماء، القمر زورق يعاود الانقلاب، تحته الأَسرَّة نائمة في بيوت لا تفصح عن معنى. كان حلمه يهرول والجسد تاريخ مُضَمَخ بالفراش، في رأسه قَدَم تنطق بالخطوة وعيناه صباح دائم، أبدا لم يضجر من ترويض المسافة.

وأنتَ تقطف المطر في ذلك الموسم، أحصيتَ رواميس مقبرة مصلى6 كلها ولم تبقِ شيئا للموت، تفَلّتَ عليهم وقبلتهم واحدا واحدا ولم تبق شيئا للملائكة، قتلتَ ثرثرة العظام في مفاصل التاريخ، أجدادكَ جفلوا، كان لجدكَ ألف عام من الفرح، يسمى الحياة صفيحاَ ويبول فيه باكيا، كانت السلاحف تحسده وأنثى الديناصور تفرك له عظامه.

أمسي ممتلئ، غدي يفيض افتعالا، يومي عربة تجرها سلحفاة مناضلة والحوذي ذو الشفة الأرنبية نائم يحلم بسرعة الضوء وآماركى فوق الضوء نقطة.

دون أن يسقط غمرَ نفسه بالفضيلة، أزاحَ من ملكوته قصورا من الرخام وتربع على الهواء، شبيه بخالق جالس على رصيف ممتلكاته، ومثله يوازن نبض الأرض بإيقاع الفراغ.

للذين لم يقطفوا المطر، قولوا: إن الأرض قطرة تضحك ساقطة والناس يوغلينا تقتلها كآبة الانقسام.

هناك بشري ينحدر عموديا، أيها المعلم الغارق في الطباشير، أيتها اللحظة لا تلتفتي: إنها السقطة !

1- ـأماركي ، مفردة باللغة السومرية وتعني الحرية
2- اسم من أسماء الشمس
3- أسطورة ولادة الاله القمر “سين”
4- خاصه صو: نهر يقسم مدينة كركوك إلى قسمين
5- مفردة مركبة من الأربعاء والخميس
6- مقبرة في كركوك

شتاء 2009
بروكسل

عدنان عادل : شاعر وكاتب عراقي مقيم في بروكسل.
[email protected]

SHARE