
تنطلق أصوات الصراخ متتابعة. ينهشني الانقباض. صوت المُرتل يتناهى إليّ متماوجا. “وجاء ربك والملك صفا صفا”. صوت إحداهن تولول:
– يا صغير يا خويا.. كان بدري عليك يا غالي.
أنصت للصوت. أُدقق. إنها شقيقتي. من يكون هذا الذي تقصده؟! ضحكة أنثوية مجلجلة تخترق طبلتي أذنيّ. كانت كالطلقة المُدّوية. أسمع صاحبتها تتمنع:
– لا.. ليس هكذا.. انتظر عليّ حتى أخلع ملابسي.
يسود الصمت فترة. أتلصص بأذنيّ فأسمع فحيحها وتأوهاتها الملتذة. أسمعها تصرخ متضجرة بعد فترة خلتها قرنا من الزمان لتقول:
– كفاك مضاجعة؛ لقد أفنيتني.
أندهش من اللفظ الذي استخدمته. كيف أفناها؟ أوتكون قد قصدت أماتها؟ أحاول الوصول إلى مقصدها فأتخيل الوضع الذي لابد وأن تكون فيه؛ لتنطلق ذكورتي من عالم الصمت المستكين. أداعب نفسي مُمنيا ذاتي بصديقتي الفائرة النهدين. أحاول الصبر قائلا:
– عندما أنهض سأضاجع صاحبة الردفين.
تتردد أصداء الكلمات في أذني. ولكن من تكون تلك صاحبة الشيئين؟ أذكر أني كنت قد سمعت شقيقتي تصرخ. أجل، هاهو صوتها بالفعل. إنها تولول على شخص ما. لابد أن أنهض لأرى ما الأمر، ولكن كيف أنهض؟ أرد على نفسي:
– أنهض كما ينهض الناس.. يا له من سؤال ساذج.
أحاول فأفشل. لست أدري لِمَ أشعر وكأنني لا شيء. وكأن جسدي المادي قد تحول إلى موجات من الأثير أو أني مجرد طاقة ليس لها وجود مادي. ولكن أتفكر الطاقة ويكون لها إرادة؟ أتذكر آراءً فلسفية لابن سينا تتصل بهذه الحالة التي أعايشها، وإن كنت لا أستطيع تذكرها جيدا. أيأس من النهوض فأستسلم للأمر عندما يتناهى إلى أذني صوت المؤذن. “الصلاة خير من النوم”. أندهش. إننا ما زلنا فجرا، ولكن كيف هذا وأنا أسمع صوت الناس يملؤون الشارع ضجيجا؟ ها هو صوت عم رمضان بائع الطماطم:
– مجنونة قوي يا قوطة.
ينطلق أحدهم صارخا:
– امسك حرامي… حرامي.
يحدث هرج ومرج في الشارع. أسمع صوت ارتطام قوي. أذكر أنني لم أنته بعد من البحث العلمي الذي أعده. أجل، لقد غشيتني فجأة سنة من نوم بينما كنت أتابعه. لا بأس، عندما أنهض سوف أتمه. أرى أعدادا غفيرة من الخلق يقتحمون غرفتي. الكآبة تعلو وجوههم. إنهم يمشون ببطء وكأنهم لا يدرون بي. إنها جنازة. ولكن جنازة من يا ترى؟ وما الذي جعلها تمشي من غرفتي؟ العديد من الأصدقاء يمشون مطأطئي الرؤوس. أليس هذا صديقي العزيز؟ أحاول نداءه فلا يلتفت نحوي. ينتهي المشهد الجليل فأرى زوجتي أمامي. لست أدري من أين انبثقت. إنها تنظر لي بإغواء. تستعرض نفسها أمامي. تتجرد من ملابسها قطعة قطعة بطريقة غاية في العهر لست أدري من أين اكتسبتها. عندما تتعرى تماما أرى شخصا ما يقترب منها. أقول بغل:
– آه لو أرى وجه ذلك الوغد.
إنه يقبلها متحسسا جلدها الناعم الذي يثيرني. أرى يديه على نهديها. ينبثق الدم مندفعا بقوة إلى رأسي فتكاد شراييني أن تتفجر من فرط الغضب. ألا يعرف ذلك الوغد كم أعشق هذين النهدين؟ ولكن الخطأ ليس خطأه؛ فهي تدري مدى تأثير نهديها عليّ، ومدى عشقي لهما، وكم أنا ضعيف أمامهما. إنه يتجرد من ملابسه ويضاجعها. يمتزجان، يتبادلان الأوضاع فألمح وجهه. أيمكن هذا؟ إنه أنا!! ولكن كيف لا أشعر بما أفعله، وكيف أراقب نفسي هكذا وكأني غريب عن ذاتي؟ أغمض عينيّ فأرى زوجتي قد اتشحت بالسواد باكية. ها هم أطفالي جانبها يبكون. ما الأمر؟ أجل، لابد أنه بسبب ذلك الشخص الذي توفي. ولكن لمَ لمْ يوقظني أحدهم؟ أتذكر زجاجة الخمر التي كنت قد تجرعت نصفها بالأمس. وقتها كنت أقرأ بحثا فلسفيا عن وجود الله وعدمه فتجرعتها، ودخنت علبتين من السجائر. أذكر أيضا أن أحدا ما زارني. ولقد كانت أنثي فضاجعتها. ولكن أين كانت زوجتي؟ لقد خرجت مع الأطفال للنزهة. صوت صديقتي ذات النهدين تبكي. صديقي الذي لا أذكر اسمه يهدئها:
– كل من عليها فان.
صديقتي ذات الردفين تزداد بكاءً فيأخذها صديقي في أحضانه. إنهما يمارسان طقوسا جنسية جنائزية. ولكن أتبكي على هذا الفقيد؟ تأخذ زوجتي ذات الشيئين بعيدا وتتشاركان البكاء. أحاول النهوض فأعجز. أقاوم الخدر المُسيطر عليّ فلا أقوى. يا لها من حالة. أزعق من أعماقي ولكن يبدو أنه لا أحد يسمعني. أغمض عينيّ لأستسلم لهواجسي ذات الخدر اللذيذ.
محمود الغيطاني
من المجموعة القصصية “اللامنتمي”
تصدر في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن دار “فضاءات” الأردنية، يناير، كانون الثاني 2018