
“لستُ يتيمًا في هذا العالم، مادام يسكنه هذا الرجل”.
هكذا عبر جوركي عن مشاعره تجاه تولستوي … اليتم هو الذي يسود هذا العالم، اليتم والوحشة خاصة في هذا الجزء من العالم، الذي أنجز فيه مخطط تسميم الروح وإنسانيّة الإنسان وتسميم الجمال بسموّه ورفعته، أنجز مهماته بضراوة لا مثيل لها حتى في مجازر الحروب الصاخبة.
من هنا تبحث الأرواح والأفئدة الخاصة عن ما يشبهها ويتواشج معها في عمق الحلم والأمل المكسور.. النبي سليمان حين أراد عقاب الهدهد أقصاه إلى جنس من الطيور غير جنسه. الطيور وليس كواسر البشر.. “أضحت يباباً وأضحى أهلها ارتحلوا”.
هكذا عبر الشاعر القديم عن مشاعره في وقفة طللية حارقة ..
وبمنحى آخر، هناك القصيدة الخالدة (الأرض اليباب) لإليوت، التي تتحدث أو تعبّر عن وضع مأساوي للحضارة الأقوى والأعظم في التاريخ، الاوروبيّة، الأمريكية.. وَيرِد فيها جسْر لندن. والحشود المندفعة لا محالة الى حتفها، أو أن الموت طواها أصلاً منذ زمن بعيد، والشاعر الأمريكي الأصل الإنجليزي الإقامة، لا يرى الخلاص إلا في اعتناق المسيحية الكاثوليكيّة. أفق خلاصهِ ربما لا يعنينا ما يعنينا تلك التراجيديا المدوّخة في الارتطام بعالم الحضارة.. وتلك المناخات المقفرة والمفردات التي تحمل قسوة الصحراء، نباتاتها الجافة وأجواءها المدلهمّة، وكأنما يتحدث عن الجزيرة العربيّة أو بصورة أدق، الربع الخالي…
لطالما بحثتُ في ظلّ حشدنا القطيعي المندفع في المعالف والاسطبلات والمجمّعات التجاريّة، علامة الاستهلاك الباهظة، بحثت عن فرديات تشبه الروح العطشى الى الصدق، العدالة والجمال، لكن التسميم المنهجيّ قد أحكم قبضته… لكنا لا نعدم عشبة متفتحة هنا، فسيلة خضراء هناك. وحين نلتقي خطفاً بهذه الروح المفارقة خيالاً ورهافة، بذلك الحضور المفرد، الذي يكاد يطغى بضوئه الجماليّ على ثقل القطيع الكاسر وعلى غائية المنفعة والغريزة.. يقيناً نكون سعداء بهذه اللقيّة التي تبدد شيئاً من اليتم والوحشة والاغتراب بكل أنواعه ومراجعه..
هذه القطعة الصباحيّة، وددتُ مُشاركتك فيها، وأنت تُحدقين في الأنهار والجسور والأشجار الباذخة.
الطقس هنا ما زال حاراً وثمة أخبار فلكيّة عن إعصار أو عاصفة مداريّة، على الأرجح هنا، في العاصمة لن نرى من آثارها غيمةً شاردة؛ أتمنى أن أكون مخطئاً وتغمرنا الغيوم كما تغمرنا صيحات أطفالنا المرِحة والعصافير..
شاعر عُماني، رئيس تحرير مجلة “نزوى” الفصلية الثقافية