«ما زلت أنحني أمام بيرتولوتشي وأنا أفعل ذلك منذ أول فيلم «ما قبل الثورة» عام 1964، ولطالما رغبتُ بعمل مثل هذا الفيلم. وقد فهمت في أكثر من مناسبة بأنني لن أنجح أبدًا في مقارنة معه. فأنا دائما ما قبلت بهذا المخرج بوصفه جزءا من التراث الكبير للفن الايطالي».
مارتن سكورسيزي

أتذكر كنت في رحلة طلابية من القاهرة الى اسبانيا التي طفنا مدُنها، حتى استقر بنا المقام الأخير في العاصمة (مدريد) كانت الرحلة خليطاً من طلبة ينتمي معظمهم الى الخليج والجزيرة العربيّة… وكنتُ في الفترة التي سبقت الرحلة، قد قرأت كثيراً عن (جمعية الفيلم) و(نادي السينما) عبر نشرتهما وكتّابهما، مثل رؤوف توفيق وسامي السلموني وشريف رزق الله… الخ، عن فيلم بيرناردو بيرتولوتشي «التانجو الأخير في باريس» وما أثاره من جدل في السينما والثقافة الأوروبيّة. ولأن الفيلم من الصعب أو المستحيل عرضه في القاهرة حتى في جمعية الفيلم، إن لم تُقتطع مشاهد منه كالعادة… حين رأيت بوسترات الفيلم على الواجهات المدريديّة.. أخبرت بعض الزملاء والزميلات، عن أهمية الفيلم ورمزيته العميقة التي تحدث عنها النقاد في مختلف بلدان العالم، وترجمها النقاد المصريون العتيدون في الفن السينمائي العالمي… ذهبنا مجموعة من الزملاء والزميلات الى دار السينما التي تعرض الفيلم المثير والصادم. لقطات ومشاهد وكادرات تتوالى بغموض على الأرجح، قياساً بما شاهدنا قبلا من أفلام عربيّة أو أوروبيّة، حتى تلك الموسومة بطابع الثقافة والمبادئ الثورية الهادفة حسب رطانة تلك المرحلة. لم يمض وقت طويل حتى شاهدنا بعض الزميلات ينسحبن مهمهمات بكلمات مثل: خدش الحياء ولا أخلاقية الفيلم وانحرافه….
بالفعل كان الفيلم صادماً للذوق والحياء التقليديين حتى لمن هم أكثر وعياً من الزميلات اللواتي ذهبن مثل غيرهن في طيّ الغياب والنسيان. خاصة مشهد (الزبدة الفرنسية) على أرضية الغرفة الغاربة والمعزولة كأنما في صَقع ناءٍ وليس في قلب حاضرة أوروبيّة.
بين (مارلون براندو) وكان في عمر الثامنة والأربعين وبين الفرنسية (ماري شنايدر) وهي بالكاد في مطلع العشرينيات… كان صادماً ومدهشاً على نحو مفارق وغريب غرابة الإبداع الكبير وهو يتجاوز صانعيه إخراجاً وتمثيلاً، الى آفاقٍ شاسعة من الحريّة والخيال.
كل مسار هذه الدراما الاستثنائيّة التي شاهدتها لاحقاً أكثر من مرة، يندرج في هذا السياق من مشهد الاستهلال حيث نرى (بول) مارلون براندو، تحت سكة قطار في المدينة الكبيرة وهو يسدّ أذنيه، صارخاً في بريّة المدينة الصاخبة المتوحشة، مدينة المال والأعمال واللهاث.
المتمرّد المهزوم في تمرده وثورته يعبر بالصراخ من فرط ألم العزلة والهزيمة، ما يلبث أن يدخل بصمت حزين الى شقة مهجورة، حيث اللون الأصفر هو المهيمن، وكأنما قذف خارج الزمان والمكان، حيث يلتقي بالصبيّة (ماري سنايدر)، وتبدأ سيرة الفيلم، بكلام قليل أو لا كلام وحيوانيّة كاسرة. من مشهد الافتتاح الى مشهد الختام حيث أحداث فيلم المكان الواحد، بتمظهراتها وهذياناتها المختلفة، وحتى المشهد الأخير إذ تقوم الصَبيّة، ذات الجمال الفائق والبراءة الفاجرة، بقتل (بول) في شرفة الشقة ليتطلع الى المدينة وهو يترنح في خروجهما الأول ربما من تلك الشقة، أو الصَقعْ المهجور ، إلا من حيوانيّة الجنس وأشباح الموت والغياب، في خروجهما الى ضوء العالم، ليسقط مضرجاً بدمه وانكساره.
توالت أفلام بيرتولوتشي الملحميّة التي تحاول القبض على لحظات التحول الكبرى في النفس البشرية وفي التاريخ (1900) أو القرن العشرين.
«الامبراطور الأخير» تراجيديا آخر امبراطور في الصين لحظة إطباق الشيوعيّة الماويّة على سُدّة السلطة والمجتمع؛ وغيره من الأفلام التي يحفظها تاريخ الفن الرفيع جيداً، مثلما حفظ تاريخ إبداعات أسلافه الكبار. روسليني ديسيكا، بازوليني، انطونيونيتي، فيلليني….الخ.
ومثل أي مخرج كبير، يكثر الجدل والرؤى المتناقضة حول صنيعه السينمائي المديد. لكن ذلك الرأي العجيب حول «التانجو الأخير في باريس» وفيلمه الآخر «الملتزم» الذي مثله الفرنسي (جان لوي يرينتينيان) كمثال على أن بيرتولوتشي، يذهب الى أن «عذرية الطهارة الأوروبية» دائما يكسرها ويهشمها الرجل الأمريكي. أي أن هناك هذه الثنائية: العذريّة الأوروبيّة، وساحقها الأمريكي. غريب هذا الرأي، ففيلم «التانجو» ليس الهويّات وتصادمها، وإنما على العكس تماماً ، حيث خراب الروح المتشظّية، وانخلاع الاسم والهويّة، والمكان والزمان. فيلم تدميري في عدميّته النافية لكل ثوابت الوجود والهويات والتاريخ.. من ناحية أخرى متى كان الأمريكي، على هذا النحو من المانويّة الهويّاتيّة تجاه الأوروبي سواء في الإنجاز الحضاري العظيم، أو في إبادة الآخر المختلف برهة الكشوف أو«الفتوحات» الجغرافيّة. تلك الظاهرة «الغربويّة» كما سماها فيلسوف روسي. ذلك الأصل المشترك لهويّة العرق والحضارة في أطوارها المختلفة. إذ أن الأمريكية ليست إلا طور أعلى ربما، لمسار الحضارة الأوروبيّة؟!
رحيل برناردو بيرتولوتشي عن عالمنا هو رحيل آخر الكبار في السلالة الإيطالية والعالميّة التي أبدعت ذلك الفن العصي على السقوط أمام اختبار الزمن وصروفه المتقلبّة، وربما الخلود.
سيف الرحبي
من افتتاحية العدد المقبل من مجلة “نزوى” الثقافية التي تصدر من عُمان.