سيف الرحبي: ثلاث خيبات كبرى، انتهت بعَطسْة الزعيم المقدس

Saif Alrahbi

الزعامات التي أفرزتها دولة «الاستقلال» بعد حقبة الإستعمار والإنتداب والتي كانت أكثر مرارة على مسار وأحلام الانسان العربي الطامح الى بناء دولته الحرة المدنية، القومية العادلة في حدود ما تمليه معطيات الوقائع والتاريخ.

وهي أكثر مرارة بسبب طبيعة الاستعمار البنيويّة وهيمنته على مقدرات الشعوب وثرواتها. وتزدوج وتتضاعف هذه المرارة كون هذه الحقبة ولدتها وعود كاذبة وخيانات تاريخية ساهم الغرب مساهمة حاسمة في إجهاض أحلام العرب وطموحهم في دولتهم العتيدة، بعد عصر مديد من الهيمنة الامبراطورية العثمانية امتدت لقرون طويلة.

وقف العرب أو بالاحرى قياداتهم الفكرية والسياسية آنذاك الى جانب الدول الغربية ضد العثمانيين الذين بدأت عظمة دولتهم في الأفول. فكانت المكافأة الغربية، الاستعمار والانتداب وكل مظاهر الهيمنة والاقصاء..

أزفت لحظة التحرر وبناء الدولة الوطنية، لحظة الدخول في التاريخ وتحقق أحلام الشعوب المهانة والمُذلة، تحت نير الهيمنة العثمانية والغربية لاحقاً…لم تدم فترة أعياد الاستقلال وكرنفالاتها طويلاً، إذ قفز الى سدة السلطة، زعماء معظمهم تحدّروا من ثكنات العسكر ومن بيئات بسيطة إذا ارتفعت الى «الطبقة المتوسطة» التي افترست نفسها مع الأيام والسنين كما افترسها الآخرون ففقد المجتمع صمام توازن كان ضرورياً..

تحولت الدولة- الزعامة- الى دكتاتورية كمبرادورية تهيمن على فضاء المجتمع والسلطة وكل نوافذ الحياة والأحلام، محتكرة كل شيء لنفسها، وقد اختُزلت هي ورموزها ومؤسساتها إن صحت العبارة، الى شخصية الزعيم الأوحد، وقبضته الحديدية المزاجية والطائفية ان كانت في بلد ينقسم الى طوائف. تلك القبضة اللامحدودة بسقف ودستور وقانون. ومن فرط هيمنته وأجهزته الحامية لسلطته المطلقة، انحصر مفهوم الدولة الواسع والعميق، في شخص الزعيم وتعاليمه وخطاباته التي لا يرقى اليها السؤال والشك، حتى خرج أوكاد، من طوره البشري الى طور إلهي مقدس.. كل كلمة أو إيماءة أو عطسة يعطسها الزعيم المبجل الضرورة، تكون مصدر حكمة ومصدر سر يستعصي على وعي البشر الفانين تحت حكمه… إن عطسته ستكون نفحة من المقدس.

ها هو التاريخ وللمرة الثالثة عبر أقل من قرن من الزمان يمارس مكره التدميري على أحلام هذه الشعوب وبأكثر رعبٍ وقسوةٍ هذه المرة بعد رحيل الاستعمار المباشر وحضور الدولة الوطنية المحلوم بها، وحضور الزعيم الوطني المطلق المحارب الشرس ضد امبرياليات العالم، أبي الشعب الحنون ورب العائلة المتماسكة التي لا تنطلي عليها مؤمرات المتكالبين ضد حكمه العادل النزيه، كما تهذي وسائطه الاعلامية وخدمه.

هل بقي من مبرر لسؤالٍ، بعد هذا المسار من الفظاعات الوطنية والاذلال، أن تندفع الجماعات او الشعوب الى هذا الدْرك من جحيم الحروب، التي أسس لها ذلك النوع من الحكام والزعامات المسعورة بعقد الانتقام والتدمير؟! حيث الوطن والتاريخ والقيم ليست الا استعارة لذلك الزعيم الأوحد..

هكذا استوطن سرطان الاستعمار الداخلي بقسوة أكبر من ذلك الخارجي الواضح والمحدد، الذي سُفحت حوله الدماء والأهاجي والأحبار. وعكس المثل السائر الذي كان يقول ان الاستعمار خرج من الباب ودخل من الشباك، فقد دخل من الأبواب الأكثر سعة واستباحة لأرض الثروات والجثث والأحلام الموءودة.

* * *

ليس أكثر دلالة وفصاحة من تلك الرسالة التي وجهها الشاعر والفنان الاسباني (فرناندو أرابال) الى الجنرال فرانكو رغم أن هذا أقل شناعة من الجنرال العربي. أذكر أن أرابال لم تمنعه عدميته ورؤيته العبثية الى الحياة والتاريخ من ممارسة حقه في النقد اللاذع والاحتجاج بل زادته حرية وعمقاً.

«أعتقد أنك معذب بلا حدود، إذ أن الانسان المقهور فقط من يستطيع فرض القهر حوله، حياتك مُتشحة بالسواد، أتخيلك محاطاً بحمام بلا أرجلٍ بأكاليل سوداء، في أحلام تطحن الدم والموت. لقد اخفيت في إسبانيا جبالاً من البراز بمروحة يد صغيرة. حدادٌ عميقٌ من ضباع تجهش قيحاً يسقط على رجال إسبانيا، ألم تكن من صرح في تلك الأعوام: إذا تطلب الأمر سنقتل نصف البلاد»..(*)

الدكتاتور العربي قتل، والقتل هنا بكل معانيه المادية والمعنوية، ثلاثة أرباع البلاد، والحبل على غارب أزمنة القتل والانحطاط.

* فقرة رسالة ارابال الى فرانكو من ترجمة عمار الاتاسي ونشر دار ممدوح عدوان.

شاعر عُماني، رئيس تحرير مجلة نزوى، الفصلية الثقافية

[email protected]

SHARE