.
طُرق القتل والتسميم
إلى ميلوش فورمان
الذي رحل الجمعة 13 أبريل (نيسان) 2018
تمتلئ الغرفة بنور الصباح، يجلس ساليري العجوز يبكي بحرقة،بينما تتوقف الموسيقى وتنهمر الدموع على وجهه.
يراقبه فوجلر مندهشاً.
فوجلر : لماذا، لماذا؟ لماذا تضيف المزيد على بؤسك بالاعتراف بالقتل، أنت لم تقتله.
ساليري العجوز : لقد فعلت.
فوجلر : كلا أنت لم تفعل.
ساليري : لقد سممّتُ حياتَه.
فوجلر: لكن لم تُسمم جسده.
ساليري : ما وجه الاختلاف في ذلك ؟
***
المقتطف أعلاه من سيناريو فيلم (أماديوس) للمخرج التشيكي الأصل ميلوش فورمان، حول حياة الموسيقار الشهير (موزارت) الذي كانت حياته قصيرة، مثل أقران كثيرين أضاءوا سماء البشريّة بعبورهم الخالد، كالشُهب المترّحله في أزلها، ولا يلبث الموت أن يختطفهم، وهم في مطلع الحياة وذروة الابداع..
موزارت من تلك الكوكبة الخالدة، رامبو، لوتريمون، طرفه ابن العبد، غسان كنفاني …
السيناريو الذي كتبه بيتر شافر والفيلم يركزان على تلك العلاقة الاشكاليّة بين موسيقار البلاط (ساليري) صاحب الحضور الساحق والنفوذ لدى امبراطور العرش النمساوي (جوزيف) ابن الامبراطورة المثقفة الموسيقية (ماري تيريزا) وصاحب الحظوة والحضور على المستوى الشعبي أيضاً..
حين بدأ نجم موزارت في البزوغ منذ عمر الطفولة، بدأت بشائر عبقريّة قادمة ومفارقة ستقلب معايير وأذواق الفنون الموسيقيّة والاوبراليّة رأساً على عقب ..
وهذا ما بدأ بإدراكه (ساليري) المخضرم قبل غيره، وبدأت هواجس الغيرة والحسد تفترسه، مما دفعه إلى حبْك المؤامرات والدسائس تجاه موزارت، الذي رأى فيه خطورة إعصار سيكتسح كل المجد الذي بناه عبر السنين.
كان (ساليري) على نحو من الذكاء والحرفة العالية وفق السائد، لكنه أحسّ بالصَغار أمام موزارت بفطرته المدهشة وبأنه (ساليري) فارغ وعديم الموهبة وليس أمامه إلا سلاح التآمر والتحطيم وتسميم حياة موزارت الذي رحل في ذلك العمر الباكر، لكن بعد أن أبدع أثاره التي لا يزيدها الزمان إلا تجدداً ونضارة وإشراقاً.
***
كان ذلك الاعتراف الحزين لـ (ساليري) بخطيئته المروعة أمام القس، وهو في المصح عجوزاً متداعياً ينتظر النهاية الحتميّة …
وهو في هذا يظهر نوعاً من نُبل أعماه عنه سابقاً بريق المجد والشهرة والمال..
وهو بهذا السلوك أفضل من كثيرين يمارسون أساليب الغش، ويكرّسون حياتهم لتسميم الأخرين، فلا ينجو من سمومهم نبع ماءٍ صاف في هذه الصحراء المترامية بالوحشة والجفاف ..
عديمو المواهب حياة وإبداعاً مهما كدّسوا من مظاهر السؤدد الكاذبة، الآيلة للزوال السريع لا يتقنون شيئاً ولا يعرفون، عدا حرفة تسميم شجرة الحياة والابداع التي يفتقدها جوهريّاً كيانهم المنخور بالحقد والحسد السطحّي الذي يريد صاحبه أن يستأثر بكل شيء وهو يتمرّغ في ظلال الدِعة والإستسهال وفقدان الموهبة والقدرة على الحب والإبداع.
حسد ساليري لموزارت، لم يكن حسد شخص غُفل يحاول أن يكون شيئاً بالقوة الجاهلة، وإنما حسد مبدع يتمتّع بسطوة، ها له أن يكون ذلك النهر المتدفّق من المواهب والابتكارات، مستودعه ذلك الطفل (الساذج) موزارت، وليس هو . لماذا أخطأه القدر هذه المرّة وجعله يلجأ إلى مرابض الوحش في ذاته، ليدفع ثمن خطيئته، عذاباً وتمزقاً وانهياراً ..
يقظة ضمير متأخرة، لكنها ليست من غير دلالة أمام من لا ضمير لهم بالمرّه.
تحية إلى ميلوش فورمان أحد صانعي الإبداع السينمائي الكبير في العصر الحديث.