
1
على الرغم من أن الكثير كُتب عنها، فإنه لا يُعرف عنها إلا النزر اليسير، وأقصد هنا طبيعة الجان الحقيقية. تلك الكائنات المخلوقة من نار بلا دخان. وسواء أكانت تلك المخلوقات طيبة أم شرّيرة، من طبيعة شيطانية أم ملائكية، فلا تزال هذه الأسئلة مطروحة بقوة. ويجمع الكثيرون على أنها تتمتع بالصفات التالية: متقلبة المزاج، نزواتية، فاسقة، يمكنها الانتقال بسرعة كبيرة، وتغيير حجمها وشكلها، وإذا أرادت فإنها تستطيع أن تلبي أمنيات ورغبات الرجال والنساء من الإنس، أو أنها تُجبر على القيام بذلك، ويختلف إحساسها بالزمن اختلافاً جذرياً عن زمن البشر. ويجب عدم الخلط بينها وبين الملائكة، مع أن بعض القصص القديمة تروي خطأً بأن الشيطان نفسه، إبليس، الملاك الساقط، ابن الصباح، هو الجان الأعظم. ولا تزال الأماكن التي يمكث فيها الجان موضع جدل منذ أمد بعيد. إذ تحكي بعض القصص القديمة، زوراً وبهتاناً، بأن الجنّ يعيشون بين ظهرانينا على سطح الكرة الأرضية التي تسمّى “العالم السفلي”، وفي الخرائب ومقالب القمامة غير الصحّية، وفي المقابر، وفي بيوت الخلاء، وفي المجاري، وأحياناً في المزابل. واستناداً إلى هذه الحكايات غير الصحيحة، يتعين علينا أن نغتسل ونتطهر جيداً بعد أيّ اتصال يحدث بيننا وبين الجان، لأنها قذرة وقد تنقل إلينا أمراضاً معينة. وقد أكد كبار المفسرين منذ زمن بعيد على صحة ما نعرفه الآن وهو: أن الجان يعيشون في عالم خاص بهم، وأن حجاباً يفصل عالمهم عن عالمنا، وأنه يطلق على عالمهم هذا اسم “العالم العلوي” ويدعى أحياناً “بيريستان” أو “أرض الجان” الواسعة الأرجاء، مع أن طبيعتهم لا تزال خفية علينا.
إن القول بأن الجنّ لا ينتمون إلى البشر قد يكون قول ما هو واضح وجلي، لكن البشر يشاركون تلك المخلوقات الخيالية بصفات محددة على الأقل. فبالنسبة إلى الإيمان مثلاً، يوجد في صفوف الجان أتباع ومؤمنون من كلّ عقيدة على وجه البسيطة، وهناك كفار تبدو لهم فكرة الآلهة والملائكة فكرة غريبة تماماً كما يبدو الجان أنفسهم غرباء بالنسبة للبشر. وعلى الرغم من وجود الكثير من الجان العديمي الأخلاق، فإن بعض هذه الكائنات القوية، على الأقل، تميّز بين الخير والشر، بين اليمين واليسار.
وهناك جان يطيرون كالطيور، وهناك جان يزحفون على الأرض في هيئة الأفاعي، وآخرون ينبحون ويكشرون عن أنيابهم في شكل كلاب عملاقة. وهناك جان في البحر وفي الجو أيضاً تتخذ شكل التنين. ولا يستطيع بعض الجان الأقل مرتبة، عندما يكونون على الأرض، المحافظة على شكلهم لفترات طويلة. وتتسلل هذه المخلوقات العديمة الشكل أحياناً إلى داخل أجساد البشر من الأذنين أو من فتحتي الأنف أو العينين وتحتلّ الأجساد التي تتسلل إليها لفترة من الزمن، ثم تغادرها عندما تملّ منها. لكن للأسف، لا تبقى تلك الكائنات البشرية على قيد الحياة، بل تموت.
أما الجنّيات، فإنهن أكثر غموضاً، بل حتى أكثر دهاء، ويصعب إدراكهن والإمساك بهن، لأنهن نساء ظلّ خُلقن من دخان بلا نار. وهناك جنيات متوحشات، وجنيات لطيفات محبوبات، لكن ربما كان هذان النوعان من الجنيات ينتميان إلى النوع ذاته – فقد يهدّئ الحب من غلواء روح متوحشة، وقد يُستثار مخلوق محبّ من معاملة حبيبه السيئة فيصبح همجياً ومتوحشاً إلى حد أن البشر لا يستطيعون فهم ذلك.
ها هنا حكاية جنيّة، أميرة عظيمة تنتمي إلى معشر الجنّ، تُعرف باسم “أميرة البرق” لأنها تتحكم بالصواعق وبالبرق وبالرعد، أغرمت برجل من الإنس منذ أمد بعيد، في القرن الثاني عشر، كما تقول الحكاية، وتروي الحكاية أيضاً عن أحفادها الكثيرين، وعن عودتها إلى العالم بعد غياب طويل لتقع في الحبّ مرة أخرى، على الأقل للحظة، ثم تذهب إلى الحرب. وهي أيضاً حكاية عدد كبير من الجان الآخرين، سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً، وسواء أكانوا يطيرون أم يزحفون، طيبين أم أشراراً لا يلقون بالاً للأخلاق؛ وتحكي القصة عن زمن الأزمات، الزمن الذي ندعوه زمن الغرابة الذي دام سنتين وثمانية شهور وثمان وعشرين ليلة، أي ألف ليلة وليلة. نعم، لقد عشنا ألف سنة أخرى منذ تلك الأيام، لكننا تغيّرنا جميعاً مع مرور ذلك الوقت. وسواء أكان ذلك التغيير نحو الأفضل أم الأسوأ، فإننا نترك ذلك لمستقبلنا حتى يقرره.
في عام 1195 م، أدين الفيلسوف العظيم ابن رشد الذي كان قاضي إشبيلية، والذي أصبح مؤخراً الطبيب الشخصي للخليفة أبي يوسف يعقوب في قرطبة، مسقط رأسه، ولُوِّثت سمعته بسبب أفكاره التحرّرية التي لم تجد قبولاً لدى البربر المتعصّبين الذين بدأت شوكتهم تزداد وأخذوا ينتشرون كالوباء في أرجاء الأندلس. ونُفيَ ابن رشد إلى قرية صغيرة خارج مسقط رأسه تدعى اليُسَانَة، وهي قرية معظم سكانها من اليهود الذين لم يعد بإمكانهم القول بأنهم كانوا يهوداً لأن المرابطين، الأسرة الحاكمة السابقة في الأندلس، كانوا قد أجبروهم على اعتناق الإسلام. وعلى الفور شعر ابن رشد، الفيلسوف الذي لم يعد يُسمح له بشرح فلسفته والذي حُظرت جميع كتاباته وأُحرقت كتبه، بالراحة للعيش مع أهالي اليُسَانَة. كان ابن رشد الفيلسوف الأثير لدى خليفة الأسرة الحاكمة الحالية، الموحدين، لكن الزمن قد ينقلب على الأشخاص الأثيرين، فسمح أبو يوسف للمتعصّبين أن يطردوا شارح أرسطو العظيم من المدينة.
عاش الفيلسوف الذي لم يعد يُسمح له بشرح فلسفته في بيت متواضع ذي نوافذ صغيرة في زقاق ضيّق غير معبّد، وقد سبب له عدم وجود ضوء كاف ضيقاً شديداً. وأقام ابن رشد عيادة طبية في اليُسَانَة، وتوافد عليه المرضى بسبب سمعته ومنزلته كالطبيب السابق للخليفة. واستخدم كلّ ما يملكه من مال في ممارسة تجارة الخيول على نحو متواضع، وعمل في صناعة الجرار الفخارية الضخمة التي كان اليهود الذين لم يعودوا يهوداً، يخزنون فيها زيت الزيتون والنبيذ ويبيعونها. وفي أحد الأيام، بعد بدء منفاه بفترة وجيزة، ظهرت أمام باب داره فتاة، ربما كانت في صيفها السادس عشر، ترتسم على وجهها ابتسامة لطيفة، لم تطرق باب أفكاره أو تتطفّل عليه، بل وقفت هناك تنتظر بأناة حتى أدرك وجودها فدعاها إلى بيته. وقالت له إنها أصبحت يتيمة منذ فترة غير بعيدة، وقالت إنه لا يوجد لديها مصدر رزق، وأنها لا تريد أن تعمل في المبغى. وقالت له أيضاً إن اسمها دنيا، وهو اسم لا يبدو اسماً يهودياً لأنه لا يُسمح لها بأن تذكر اسمها اليهودي. وبما أنها أمّية، فلا تستطيع كتابة اسمها. وقالت له إن أحد الرحالة العابرين اقترح تسميتها بهذا الاسم الذي أصله من اليونانية ويعني “العالم”، وقد أعجبها هذا الاسم كثيراً. ولم يجادلها ابن رشد، مفسّر وشارح أعمال أرسطو، لأنه يعرف أن اسمها يعني “العالم” بلغات تكفي جعل التحذلق في مناقشته أمراً غير ضروري. ثم سألها “لماذا سميتِ نفسك باسم العالم؟” فأجابت دون أن ترفع عينيها عن عينيه، “لأن عالَماً سيتدفق منّي، والذين سيتدفّقون منّي سينتشرون في أرجاء العالم”.
ولما كان رجلاً يؤمن بالعقل، فلم يخطر بباله أنها مخلوقة تنتمي إلى عالم ما وراء الطبيعة، جنّية، تنتمي إلى قبيلة الجنّيات، أميرة مرموقة من تلك القبيلة، وقد جاءت لتخوض مغامرة دنيوية، ولتفرض سحرها على الرجال من الإنس بصورة عامة، وعلى الرجال الأذكياء البارزين بصورة خاصة. دعاها للدخول إلى كوخه كمربية وحبيبة، وفي هدأة الليل همست في أذنه اسمها الحقيقي – أي اسمها اليهودي الزائف، وكان ذلك سرّهما. كانت دنيا الجنّية ولودة على نحو يثير الدهشة كما ذكرت نبوءة لها. وفي السنتين والثمانية أشهر وثمان وعشرين يوماً وليلة التي أعقبت ذلك، حملت ثلاث مرات، وفي كلّ مرة كانت تنجب عدة أطفال، لا يقل عددهم عن سبعة أطفال في كلّ ولادة تلدها، كما يبدو، وفي إحدى المرات، أنجبت أحد عشر طفلاً، أو ربما تسعة عشر، مع أن السجلات غير واضحة وليست دقيقة. وورث الأطفال كلهم أجمل قسمات وجهها وأكثرها تميّزاً وهي أنهم ولدوا من دون شحمة أذن.
لو كان ابن رشد على معرفة جيدة بأسرار الجان لأدرك أن أطفاله ينتمون إلى نسل أمّ ليست من البشر، لكنه كان منهمكاً في أعماله، فلم يتح له الوقت الكافي للتفكير في هذا الأمر. (لعلنا نعتبر أن من حسن حظه، ومن حسن حظ تاريخنا برمته، أن دنيا أغرمت به لذكائه الحاد ولطبعه الذي ربما كان يتسم بأنانية شديدة لا يمكنها أن تلهم الحبّ من تلقاء نفسها). وخشي الفيلسوف الذي لم يعد يستطيع نشر آرائه الفلسفية أن يرث منه أطفاله الصفات الحزينة التي تشكل كنزه ولعنته. فقد دأب على القول: “إن كونك نحيفاً، بعيد النظر، طليق اللسان، يعني أنك مرهف الحسّ، ترى بوضوح شديد، وتتحدث بحرية كبيرة. أن تكون ضعيفاً أمام العالم عندما يرى العالم نفسه أنه منيع. وأن تفهم قدرته على التغيير في حين يرى نفسه غير قابل للتغيير. أن تحسّ بما هو قادم قبل أن يحسّ الآخرون بذلك. أن تعرف أن المستقبل البربري يحطم بوابات الحاضر بينما يتشبث الآخرون بالماضي المتخلف، الفارغ. إن كان أطفالنا محظوظين فلن يرثوا إلاّ أذنيك، لكن للأسف، بما أنهم أولادي على نحو لا يدعو للشك، فمن الممكن أنهم سيفكرون كثيراً جداً في وقت مبكر جداً، ويسمعون في وقت مبكر جداً، بما في ذلك الأشياء التي لا يُسمح بالتفكّير فيها أو سماعها”.
“احكِ لي قصّة”، كانت دنيا تطلب منه غالباً عندما يأويان إلى الفراش في أيام عيشهما الأولى. لكنه سرعان ما اكتشف بأنها، بالرغم من شبابها الظاهر، امرأة تسأل أسئلة كثيرة وتتشبث بآرائها، سواء في الفراش أم خارجه. وعلى الرغم من أنه كان رجلاً ضخماً، وهي مثل طير صغير أو حشرة عصوية، فقد كان يشعر غالباً بأنها هي الأقوى. كانت بهجة شيخوخته، لكنها كانت تطلب منه ما لا طاقة له على القيام به. ففي سنّه، فإن كلّ ما يريد أن يفعله في الفراش هو أن يخلد إلى النوم، لكن دنيا كانت ترى رغبته في النوم إهانة لها. ودأبت على القول له: “لو سهرتَ الليل كله، لشعرتَ براحة أكبر مما لو أمضيتَه وأنت تشخر لساعات مثل ثور. هذا أمر معروف”. أما في سنّه، فليس من السهل دائماً أن تدخل في الحالة المطلوبة لممارسة العمل الجنسي، لا سيما في ليال متتاليات، لكنها كانت ترى أن الصعوبات التي يواجهها بسبب شيخوخته إنما هي إثبات على طبيعته غير المحبّة. “لو وجدتَ امرأة جذّابة فلن تكون هناك مشكلة على الإطلاق”، قالت له، “لا يهم كم ليلة تضاجعها مرة بعد مرة. أما أنا، فإني مهتاجة دائماً، وأستطيع أن أظل كذلك إلى الأبد. ليس عندي نقطة توقف”.
أراحه الاكتشاف أن بإمكانه إطفاء لهيب شهوتها برواية الحكايات لها. “احكِ لي قصّة”، كانت تقول وتتكور تحت ذراعه فيضع يده على رأسها ويداعبها، ويقول لنفسه، حسناً، لقد أفلتُّ من الصنارة هذه الليلة؛ ويحكي لها، شيئاً فشيئاً، قصّة عقله. كان يستخدم كلمات وعبارات يجدها العديد من معاصريه صادمة وهي: “العقل” و”المنطق” و”العلم” التي تشكل أعمدة فكره الثلاثة، وهي الأفكار التي أفضت إلى إحراق كتبه. كانت دنيا تخاف من هذه الكلمات، لكن خوفها هذا كان يزيدها إثارة، فتزداد التصاقاً به وتقول: “ضع يدك على رأسي عندما تملأه بأكاذيبك”.
كان يشعر بجرح حزين عميق لأنه كان يرى نفسه رجلاً مهزوماً، خسر معركة حياته أمام رجل دين فارسي متوف، يدعى الغزالي من مدينة طوس، توفى قبل خمس وثمانين سنة. فقد ألّف الغزالي قبل مائة سنة كتاباً بعنوان “تهافت الفلاسفة”، هاجم فيه فلاسفة إغريقيين من قبيل أرسطو، وأتباع أفلاطون مثل ابن سينا والفارابي اللذين عاشا قبل ابن رشد. ففي إحدى المراحل عانى الغزالي من أزمة إيمان، لكنه عاد ليصبّ جام غضبه على الفلسفة في تاريخ العالم. فقد قال ساخراً إن الفلسفة عاجزة عن إثبات وجود الله، أو حتى إثبات استحالة وجود إلهين. فلسفة تؤمن بحتمية وجود الأسباب والمسببَّات الأمر الذي ينتقص من قدرة الله القادر على التدخّل بسهولة لتغيير المسبَبَّات وإبطال مفعول الأسباب إذا شاء.
“ماذا يحدث”، سأل ابن رشد دنيا عندما غلفّتهما هدأة الليل بالصمت، وأصبح بوسعهما التحدث عن الأمور المحرّمة، “عندما يُقرب عود ثقاب مشتعل من قطعة قطن؟”
” يشتعل القطن بالطبع”، أجابت.
“ولماذا يشتعل؟”
فقالت: لأن الأمر هكذا. إذ تمسك النار بالقطن، ويصبح القطن جزءاً من النار، هكذا تسير الأمور”.
فقال: “قانون الطبيعة. للأسباب مسبَبَاتها”، وهزت رأسها القابع تحت يده المداعبة.
“لكنه لم يقبل ذلك” قال ابن راشد، وعرفت أنه يقصد خصمه الغزالي الذي هزمه، “وقال إن القطن اشتعل لأن الله يريد ذلك، لأن في كون الله، فإن القانون الوحيد هو ما يشاء الله أن يحدث”.
“إذن لو أراد الله أن يطفئ النار في القطن، لو شاء أن تصبح النار جزءاً من القطن، لكان بقدرته عمل ذلك؟”
فقال ابن رشد: “نعم. واستناداً إلى كتاب الغزالي، فإن بمقدرة الله أن يفعل ذلك”.
فكّرت قليلاً، ثم قالت أخيراً: “هذا أمر سخيف”. حتى في الظلام، أحسّت بالابتسامة المستسلمة، الابتسامة التي تشي بالتهكم والألم، التي انتشرت على وجهه الملتحي، ثم أجاب، “يقول إن هذا هو الإيمان الحقيقي، وأن عدم الإيمان بذلك يعني هرطقة”.
فقالت: “في هذه الحالة، يمكن أن يحدث أيّ شيء إذا قرّر الله ذلك. فمن الممكن مثلاً ألاّ تلمس قدما أمرئ الأرض – ويمكنه أن يمشي في الهواء”.
فقال ابن رشد: “إن المعجزة هي أن الله يستطيع أن يغيّر القواعد التي يريد، وإذا لم نفهمها نحن البشر، فإن ذلك لأن الله يفوق الوصف، أي أنه يتجاوز إدراكنا”.
صمتت مرة أخرى، ثم قالت بعد فترة طويلة من الصمت: “افترض أنني أفترض أن الله غير موجود. افترض أنك تجعلني أفترض بأن “العقل” و “المنطق” و”العلم” تمتلك سحراً يجعل وجود الله أمراً غير ضروري، هل يمكن للمرء الافتراض أنه من الممكن أن يفترض شيئاً كهذا؟” أحسّت بجسمه يتصلّب. اعتراه الخوف الآن من كلماتها، قالت لنفسها، وقد سرّها ذلك على نحو غريب. “لا”، قال، بقسوة شديدة، “سيكون ذلك حقاً افتراضاً سخيفاً”.
لقد ألّف كتابه “تهافت التهافت” الذي رد فيه على الغزالي بعد مائة سنة، وعلى بعد ألف ميل، لكن بالرغم من عنوانه النزق، فلم يكن تأثير هذا العالم الفارسي المتوفى قد تلاشى، وفي النهاية، فقد وُصم ابن رشد، وأُحرق كتابه فالتهمت النيران صفحاته لأن الله شاء ذلك في تلك اللحظة التي سمح فيها للنار عمل ذلك. وحاول في جميع كتاباته التوفيق بين عبارات “العقل” و”المنطق” و”العلم” مع عبارات “الله” و”الإيمان” و”القرآن”، لكنه لم يفلح، مع أنه استخدم بدقّة جدال الرحمة، واستشهد بالقرآن بأن الله موجود لأنه خلق حديقة المسرّات الدنيوية وقدمها للبشر (وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة). وكانت حجّة الرحمة تثبت وجود الله وجوهر طبيعته التي تتسم بالرحمة والتسامح، لكن المتعصبين الأكثر قسوة هزموه. وها هو الآن يرقد، أو هكذا خيّل إليه، إلى جانب يهودية كانت قد اعتنقت الإسلام، كان قد أنقذها من المبغى يبدو أنها قادرة على أن ترى داخل أحلامه، حيث جادل الغزالي بلغة لا تقبل المساومة، بلغة مليئة بالإخلاص والصدق، ستقوده إلى الموت إذا استخدمها في اليقظة.
بعد أن امتلأت دنيا بالأطفال ثم أفرغتهم في البيت الصغير، لم يعد ثمة مجال متسع “لأكاذيب ابن رشد المحرمة”. وخبت اللحظات الحميمية بينهما، وأصبحت النقود مشكلة. “إن الرجل الحقيقي يواجه نتائج أعماله”، قالت له، “خاصة الرجل الذي يؤمن بالأسباب والمسببَّات”. لكنه لم يكن يجيد جمع المال. فقد كانت تجارة الخيول غادرة ومليئة بالغشاشين، ولم تكن تدر أرباحاً كثيرة. وكان يواجه الكثير من المنافسين في سوق الجرار والفخاريات فانخفضت الأسعار. “اطلب من مرضاك أن يدفعوا مبالغ أكبر”، قالت غاضبة، “يجب أن تستغل سمعتك السابقة، حتى لو أنها لوّثت. فماذا لديك غيرها؟ لا يكفي أن تكون وحشاً في إنجاب الأطفال. إنك تنجب الأطفال، وعندما يأتي الأطفال، يجب أن توفر الغذاء للأطفال. هذا هو “المنطق”، هذا هو الشيء “العقلاني”. كانت تعرف ما هي الكلمات التي يمكنها أن توجهها ضده وتجعلها تنقلب عليه، ثم صاحت بانتصار، “وإذا لم تفعل ذلك، فهذا هو التهافت بعينه”.
(إن الجنّ مولعون بالأشياء البراقة وبالذهب وبالجواهر وما شابه ذلك، وغالباً ما يخبئون كنوزهم في الكهوف القابعة تحت الأرض. لماذا لم تصرخ أميرة الجنيّات “افتح يا سمسم” أمام باب أحد كهوف الكنز وتحل مشاكلهما المالية دفعة واحدة؟ لأنها اختارت أن تعيش حياة الإنس، شريكة بشرية كزوجة لأنسي، وقد قُيّدت باختيارها هذا. إن الكشف عن طبيعتها الحقيقية لحبيبها في هذه المرحلة المتأخرة من زواجهما يعني أنها ستكشف عن نوع من الخيانة أو الكذب في صميم علاقتهما. فلاذت بالصمت وخشيت أن يهجرها. لكنه هجرها في نهاية الأمر لأسباب إنسانية تخصه هو وحده).
كان هناك كتاب فارسي يدعى هازار أفسانه، أو ألف قصّة، تُرجم إلى اللغة العربية. وفي النسخة العربية، كان هناك أقل من ألف قصّة، لكنها حُكيت على مدى أكثر من ألف ليلة، أو لأن الأرقام المدوّرة قبيحة، ألف ليلة وليلة. لم ير ابن رشد الكتاب نفسه لكن قصصاً عديدة رويت له عندما كان في قصر الخليفة، وقد أُخذ كثيراً بقصّة الصيّاد والجني، لا بسبب عناصرها الرائعة (الجني الذي يخرج من المصباح، والأسماك السحرية التي تتكلم، والأمير المسحور الذي نصفه رجل ونصفه الآخر رخام) فحسب، بل لجمالها الفني والطريقة التي تتداخل فيها القصص داخل قصص أخرى، وتضم تلك القصص أيضاً قصصاً أخرى، فأصبحت القصّة مرآة حقيقية للحياة، قال ابن رشد لنفسه، تضم جميع قصصنا وقصص الآخرين، وتُروى هي ذاتها داخل قصص وروايات أعظم وأكبر، تواريخ عائلات وأوطان وأديان ومعتقدات. بل إن الأجمل من كل تلك القصص المتداخلة في قصص أخرى، قصّة الحكواتي، التي هي هنا أميرة تدعى شهرزاد تحكي حكاياتها لزوج قاتل حتى لا يقتلها. قصص تُحكى ضد الموت لكي تحوّل رجلاً همجياً إلى رجل متمدن. وعند أسفل السرير الزوجي، كانت تجلس أخت شهرزاد، المستمعة المثالية، التي تطلب من أختها، شهر زاد، أن تحكي قصّة أخرى، ثم قصّة أخرى. وأطلق ابن رشد اسم هذه الأخت على الفتيات اللاتي أنجبتهن دنيا من بطنها، لأن الأخت، كما تصادف، تدعى دنيا زاد، “وما لدينا هنا تملأ هذا البيت الذي بلا ضوء، وتجبرني على ابتزاز مبالغ أعلى من المرضى والعجزة في اليُسَانَة، هو وصول دنيا زاد، أي قبيلة دنيا، سلالة دنيا، أمة دنيا، التي تعني “شعوب العالم”.
أحسّت دنيا بإهانة شديدة، وقالت: “أتعني لأننا لم نتزوّج لا يستطيع أطفالنا أن يحملوا اسم والدهم؟” فابتسم ابتسامته الملتوية الحزينة، وقال: “من الأفضل أن تكون أسماؤهن دنيا زاد، الاسم الذي يشمل العالم. فإذا أطلق عليهن اسم ابن رشد فهذا يعني إرسالهن إلى التاريخ وهن يحملن وصمة على جبينهن”. وبدأت تتحدث عن نفسها باعتبار أنها أخت شهرزاد، تطلب دائماً حكايات جديدة، لكن شهرزادها رجل، حبيبها لا شقيقها، وقد تؤدي بعض حكاياته إلى قتلهما كليهما إذا تسربت الكلمات عرضاً من عتمة غرفة النوم. لذلك كان نوعاً ما نقيض شهرزاد، وأخبرته دنيا، النقيض التام لراوي ألف ليلة وليلة: فقد أنقذت حكاياتها حياتها، أما حكايته فقد عرضت حياته للخطر. لكن الخليفة أبا يوسف يعقوب انتصر آنذاك، وحقق أعظم انتصار عسكري على ملك قشتالة المسيحي، ألفونسو الثامن، في معركة الأرك على نهر يَانَة. وبعد معركة الأرك التي قتلت فيها قواته أكثر من 150000 جندي قشتالي، أي نصف تعداد الجيش المسيحي، أطلق الخليفة على نفسه اسم المنصور، وبثقة بطل منتصر، وضع حداً لصعود البربر المتعصّبين، ودعا ابن رشد إلى أن يعود إلى قصر الخليفة.
وأُزيلت وصمة العار عن جبين الفيلسوف المعروف، وأُنهي منفاه، ورُدَّ له اعتباره، وأُزيل عنه الخزي، وعاد مكرماً إلى منصبه القديم، طبيب القصر في قرطبة بعد سنتين وثمانية شهور وثمان وعشرين يوماً وليلة من بدء منفاه، أي ألف يوم وليلة، وبالطبع حبلت دنيا مرة أخرى، وبالطبع لم يتزوّجها، وبالطبع لم يمنح أطفالها اسمه، وبالطبع لم يحضرها معه إلى قصر الموحدين، وهكذا انسلّت من التاريخ، وأخذه معه عندما غادر، مع عباءاته، وردوده المتدفقة، ومخطوطاته، التي كان بعضها مجلداً، وظل بعضها الآخر في لفائف، ومخطوطات كتبها رجال آخرون، لأن كتبه أُحرقت، على الرغم من بقاء عدة نسخ منها، قال لها، في مدن أخرى، في مكتبات أصدقاء، وفي أماكن كان قد خبأها فيها قبل اليوم الذي نُبذ فيه، لأن الرجل الحكيم يكون مستعداً دائماً لمجابهة المصائب والمحن، لكنه لو كان متواضعاً حقاً، لأسعفه الحظّ السعيد بغتة. وغادر دون أن يُنهي طعام فطوره أو حتى دون أن يودعها. لم تهدّده، ولم تكشف عن طبيعتها الحقيقية أو القوّة الكامنة في داخلها. لم تقل له إني أعرف ما كنت تقوله بصوت مسموع في أحلامك، عندما تفترض أشياء من الغباء افتراضها، عندما لا تحاول التوفيق بين المتناقضات، وتقول الحقيقة القاتلة الفظيعة. تركت التاريخ يغادرها من دون محاولة إيقافه، الطريقة التي يدع فيها الأطفال استعراضاً كبيراً يمر، يحملونه في ذاكرتهم، ويجعلونه شيئاً لا يمكن نسيانه، يجعلونه شيئاً يخصهم فقط؛ وظلت تحبّه على الرغم من هجره لها. كنتَ كل شيء بالنسبة لي، أرادت أن تقول له، كنتَ شمسي وقمري. الذي سيضع يده على رأسي، ويقبّل شفتي، والذي سيكون أباً لأطفالنا، لكنه كان رجلاً عظيماً خُلق لقاعات وأروقة الخالدين، وما هؤلاء الذين يزعقون إلا أطفال كان قد تركهم في صحوته.
في أحد الأيام، همهمت للفيلسوف الغائب وقالت: بعد أن تموت بفترة طويلة فإنك ستبلغ اللحظة التي تريد أن تستعيد فيها أسرتك، وفي تلك اللحظة، سألبي لك، أنا زوجتك الروحية، أمنيتك، مع أنك حطمت فؤادي.
يُعتقد أنها ظلت تعيش مع الإنس لفترة من الزمن، ربما كانت تأمل ضد الأمل حتى يعود، ويُعتقد أنه ظلّ يرسل لها نقوداً، ولعله كان يزورها بين الحين والآخر، وأنها تخلّت عن العمل في تجارة الخيول لكنها استمرت في تجارة الجرار والفخاريات، أما الآن، وبعد أن غربت عن بيتها شمس وقمر التاريخ إلى الأبد، فقد أضحت قصتها شيئاً من الظلال والألغاز، لذلك، ربما كان صحيحاً، كما يقول الناس، إنه بعد أن مات ابن رشد، عادت روحه إليها، فأنجبت له عدداً آخر من الأطفال. وقال الناس أيضاً إن ابن رشد جلب لها مصباحاً فيه جني، وأن الجني هو والد الأطفال الذين ولدوا بعد أن هجرها – لذلك نرى كيف أن الإشاعة تقلب الأمور رأساً على عقب بسهولة، وقالوا أيضاً، بدرجة أقل من اللطف، إن المرأة التي هجرها كانت تقبل أيّ رجل يستطيع أن يسدد عنها ثمن الإيجار، وأن كلّ رجل كانت تأخذه، كان ينجب منها ذرية أخرى، لذلك، لم تعد دنيا زاد، نسل دنيا، لقيطة من أسرة ابن رشد، أو بعضها، أو الكثير منها، أو معظمها، لأن قصّة حياتها أصبحت في عيون معظم الناس، سطراً من التأتأة، تذوب حروفه في أشكال لا معنى لها، عاجزة عن الكشف كم سنة عاشت، أو كيف، أو أين، أو مع من، أو متى وكيف – أو إن كانت قد ماتت.
لم يلحظ أو يكترث أحد بأنها عادت ذات يوم بطريقة ملتوية وانسلّت عبر شقّ في العالم وعادت إلى بيريستان، الحقيقة الأخرى، عالم الأحلام الذي يخرج منه الجان أحياناً لإزعاج البشرية أو لمباركتها. وقد بدا أنها ذابت في نظر القرويين في اليُسَانَة وتلاشت إلى دخان بلا نار. بعد أن غادرت دنيا عالمنا، قلّ عدد القادمين من عالم الجنّ إلى عالمنا، ثم، لفترة طويلة، توقّفوا عن المجيء تماماً، ونمت فوق شقوق العالم أعشاب لا يمكن تخيلها وشجيرات أشواك مملة، حتى سُدَّت المنافذ تماماً، وتركوا أسلافنا يفعلون أفضل ما بوسعهم بدون مزايا أو لعنات السحر.
أما أطفال دنيا فقد ترعرعوا وكبروا. هذا كل ما يمكن أن يقال. فبعد حوالي ثلاثمائة سنة، عندما طُرد اليهود من إسبانيا، حتى اليهود الذين لم يكن باستطاعتهم أن يذكروا أنهم كانوا يهوداً، وصعد أطفال دنيا إلى السفن في قادس وبالوس دي موجوير، أو ساروا عبر جبال البيرنيه، أو طاروا على بسط سحرية، أو في جرار عملاقة، كما يفعل أقرانهم الجان، وعبروا القارات، وأبحروا البحار السبعة، وتسلّقوا جبالاً شاهقة، وسبحوا في أنهار ضخمة، وانزلقوا إلى وديان سحيقة، ووجدوا ملاذاً وأماناً حيثما أمكنهم ذلك، وكان أحدهم ينسى الآخر بسرعة، أو يتذكّر أحدهم الآخر طالما أمكنهم ذلك، ثم نسوا، أو لم ينسوا قط، وأصبحوا عائلة لم تعد عائلة بكل معنى الكلمة، قبيلة لم تعد قبيلة تماماً، تعتنق كلّ الأديان، ولا تعتنق أي دين، ويجهل العديد منهم، بعد قرون من التغيير والتحوّل، أصولهم الخارقة للطبيعة، ونسوا قصّة تحوّل اليهود بالقوة، وأصبح بعضهم متعصبين بينما أصبح بعضهم الآخر كفاراً مزدرين؛ عائلة بلا مكان، لكن لها عائلة في كلّ مكان، قرية لا مكان لها، لكنها تلفّ وتتلوى في كلّ موقع على الكرة الأرضية، مثل نباتات بلا جذور أو طحالب أو أشنات أو بساتين زاحفة، يجب أن يعتمدوا على الآخرين لأنهم لا يستطيعون الوقوف بمفردهم.
إن التاريخ لا يرحم الذين يهجرهم، وقد لا يرحم الذين يصنعونه أيضاً. فقد مات ابن رشد (ميتة طبيعية بسبب الشيخوخة، أو هكذا يخيّل إلينا) عندما كان مسافراً في مراكش بعد حوالي سنة من ردّ اعتباره، لكنه لم ير شهرته تطبق آفاق الدنيا، ولم يرها تنتشر إلى ما وراء حدود عالمه، إلى عالم الكفار حيث أضحت شروحاته لأعمال أرسطو أساس شعبية سلفه العظيم، وأصبحت الركن الأساسي لفلسفة الكفار الملحدين التي تُدعى “العلمانية” والتي تعني ذلك الضرب من الأفكار التي تأتي مرة واحدة في العمر، عمر العالم، أو ربما فكرة لجميع العصور التي هي صورة وصدى الأفكار التي لم يقلها إلا في الأحلام. ولما كان رجلاً تقياً، فقد لا يسعد بالمكانة التي منحه إياها التاريخ، لأنه قدرٌ غريب أن يصبح رجل مؤمن مصدر إلهام أفكار لا حاجة لها إلى الإيمان، ومصيرٌ أكثر غرابة حتى تنتصر فلسفة إنسان وراء حدود عالمه لكنه هزم داخل تلك الحدود، لأنه من المعروف، في العالم، أن أولاد خصمه المتوفى الغزالي، قد تكاثروا وورثوا المملكة، في حين تركت ذريته اللقيطة التي انتشرت، اسمه المحرّم وراءها، لتسكن الأرض. وانتهى الأمر بعدد كبير ممن بقوا منهم أحياء في القارة الأمريكية الشمالية العظيمة، وعاش عدد آخر في شبه القارة الآسيوية الجنوبية العظيمة، وذلك بفضل ظاهرة “التثاقل” التي تشكل جزءاً من المنطق المبهم للتوزع العشوائي، والكثير من الذين انتشروا غرباً وجنوباً في الأمريكيتين، وشمالاً وغرباً من تلك الماسة العظيمة عند سفح آسيا، إلى جميع بلدان العالم، لأنه يمكن القول عن دنيا زاد بإنصاف إنه إلى جانب الآذان المميزة، لديهم جميعاً أقدام تحكّهم. وعلى الرغم من أن ابن رشد قد مات، لكن، كما سيتبين، فقد واصل هو وخصمه جدالهما ما وراء القبر، لأنه لا نهاية لمناقشات وجدال المفكّرين العظماء، لأن فكرة الجدال نفسها هي أداة لتطوير العقل، أحدّ وأدقّ جميع الأدوات، التي ولدت من حبّ المعرفة، والتي هي الفلسفة.
2
بعد مرور مئة يوم ويوم على هبوب العاصفة العظيمة، بدا أنّ ابن رشد الراقد منسياً في قبره في مقبره عائلته في قرطبة بدأ يتواصل بطريقة ما مع خصمه المتوفى أيضاً، الغزالي، الراقد في قبر متواضع على مشارف بلدة طوس في إقليم خراسان. في البداية، بمودة شديدة، ثم بدأت تخفت شيئاً فشيئاً. وإننا نعترف بأن هذا الكلام، بقدر ما يصعب التحقق من صحته، فإنه يثير بعض الشكوك. ولما كان جسداهما قد بُليا وتفسخا منذ أمد بعيد، فإن الفكرة بأنهما يرقدان منسيين تنطوي على شيء من البهتان والافتراء، وأما الفكرة الأخرى التي تنطوي على قدر من الذكاء بأنهما باقيان في أماكن دفنهما فهي محض هراء. وإذا أخذنا ذلك العصر الغريب، عصر السنتين والثمانية شهور وثمان وعشرين ليلة، بمعايير عصرنا الحالي، فإننا مضطرون إلى الاعتراف بأن العالم قد أصبح سخيفاً، وأن القوانين التي كانت مقبولة منذ زمن بعيد والتي كانت تشكل المبادئ التي تحكم الواقع قد انهارت، وأربكت أجدادنا وجعلتهم غير قادرين على فهم ماهية القوانين الجديدة. ويجب فهم الحوار الذي دار بين الفيلسوفين المتوفيين في سياق زمن الغرابة ذاك.
ففي ظلمة القبر، سمع ابن رشد صوت امرأة مألوف بالنسبة له تهمس في أذنه. تكلّم. بحنين عذب مُتّبل بإحساس مفعم بإثم مرّ، تذكّر دنيا النحيفة كالعود، أمّ أولاده اللقطاء. كانت ضئيلة الجسم، وتذكر أنّه لم يسبق له أن رآها وهي تتناول الطعام، وأنها كانت تعاني من صداع مستمر لأنه أخبرها، بأنها لا تحبّ الماء، بل تحبّ احتساء النبيذ الأحمر، مع أن رأسها لم يكن يحتمل ذلك فتثمل بسرعة. فبعد احتساء كأسين اثنين، كانت تتحول إلى شخص مختلف تماماً، فتبدأ تقهقه، وتومئ برأسها، وتحرك يديها، ولا تتوقف عن الكلام، وتقاطع الآخرين في حديثهم، وكانت ترغب دائماً في أن ترقص. وكانت تصعد على منضدة المطبخ لترقص وتدعوه، وعندما كان يرفض مشاركتها، تقطب حاجبيها، وترقص وحدها مظهرة تعابير تنمّ عن الغضب والمشاكسة، وتطلق مشاعرها المكبوتة. وفي الليل، كانت تتعلّق به كما لو أنها ستغرق في السرير إذا أفلتها. كانت تحبّه كثيراً، لكنه هجرها وترك بيتهما دون أن يلقى نظرة واحدة إلى الوراء. وها قد عادت الآن تطارده في سواد قبره الرطب المتهالك.
هل أنا ميت؟ سأل الطيف من دون أن ينبس كلمة واحدة. فلا حاجة للكلمات لأنه لا توجد شفتان لتشكلا تلك الكلمات. نعم، قالت، لقد مت منذ مئات السنين. لقد أيقظتك لأرى إن كنت نادماً. لقد أيقظتك لأرى إن كنتَ لا تزال تستطيع أن تهزم عدوك بعد قرابة ألف سنة من الراحة. لقد أيقظتك لأرى إن كنت مستعدّاً لإعطاء أحفاد أحفادك اسم عائلتك. ففي القبر أستطيع أن أخبرك بالحقيقة. أنا دنيا، زوجتك، لكني أيضاً أميرة الجنّيات. لقد فُتحت الشقوق في العالم مرة أخرى، لذلك تمكنت من العودة لأراك مرة أخرى. وهكذا عرف أخيراً أن أصلها لا ينتمي إلى الإنس، ولماذا، فقد كانت تبدو أحياناً، ملطّخة ومجعّدة قليلاً عند حوافها، كأنها مرسومة بخطوط فحم ناعمة. أو من الدخان. وعزى وعزا عدم وضوح معالمها إلى ضعف بصره فأبعدها عن تفكيره. لكن، بما أنها تهمس له في قبره ولديها القدرة على إيقاظه من الموت، فلا بد أنها تنتمي إلى عالم الأرواح، عالم يمتزج فيه قدر من الدخان والسحر. وليست يهودية لا تستطيع أن تقول إنها يهودية، بل جنّية لن تقول إنها تنتمي إلى أصل غير دنيوي. لذلك، فلو كان قد خانها، فإنها خدعته. ولاحظ أنه لم يغضب، من دون أن يجد أن المعرفة مهامة جداً. لقد فات الأوان للغضب البشري. أما هي فلديها الحقّ لكي تغضب. وغضب الجنّيات أمر يجب الخوف منه.
ماذا تريدين؟ سألها. هذا هو السؤال الخطأ، أجابته. والسؤال هو: ماذا ترغبين؟ لا يمكنك أن تحقق أمنياتي. لعلي أستطيع أن أحقق أمنياتك، إذا أردتُ. بهذه الطريقة تسير الأمور، لكنّنا نستطيع أن نناقش ذلك لاحقاً. أما الآن فإن عدوك مستيقظ، لقد وجده جنّيه القديم، كما وجدتك أنا. ما هو جنّي الغزالي؟ سألها. فأجابت إنه أكثر الجان قدرة وقوة. أحمق من دون مخيلة، لم يدنه أحد بالذكاء أيضاً، بل بقوى خبيثة. حتى أنني لا أريد أن أقول اسمه. ويبدو لي الغزالي، خصمك، رجلاً ضيّق الأفق، قالت. متزمت، ويستمتع في أن يحوّل متعة عدوه إلى رماد.
بدت كلماتها مخيفة، حتى في القبر. أحسّ بشيء يتحرك في ظلام موازِ، بعيد، قريب جداً. “الغزالي”، دمدم بلا صوت، “هل من الممكن أن تكون أنت؟”
“ألا يكفي أنّك حاولت في تهديم عملي لكنك أخفقت عندما كنت حياً”، أجاب الآخر، “والآن، تظن أنك تستطيع أن تفعل أفضل بعد الموت”.
استجمع ابن رشد شظايا كيانه، وقال محيياً عدوه: “لم تعد عوائق المسافات والزمن تشكل مشكلة، لذلك أصبح بوسعنا أن نناقش الأمور جيداً، بأدب كشخص، وبشراسة كفكرة”.
“لقد وجدتُ”، أجاب الغزالي، وقد بدا أشبه برجل فمه مليء بالديدان والتراب، “أن استخدام قدر من الشراسة على الشخص تجلب عادة طريقة تفكير الشخص إلى طريقة تفكيري”.
“في جميع الأحوال، قال ابن رشد، “فإننا كلانا كلينا خارج تأثير المآثر الجسدية المحسوسة، أو، إن كنت تفضّل، الآثام”.
“هذا صحيح” أجاب الغزالي، “إذا كان على المرء أن يضيف، للأسف. حسناً: تابع”.
“لنعتبر أن الجنس البشري كائن بشري واحد”، اقترح ابن رشد”، طفل لا يفهم شيئاً، ويتعلّق بالإيمان لأنه يفتقر إلى المعرفة. ويمكن اعتبار المعركة بين العقل والخرافة فترة المراهقة الطويلة للبشر، وسيكون انتصار العقل بلوغ سن الرشد. ليس الأمر أن الله غير موجود، لكن مثل أيّ والد فخور ينتظر اليوم الذي يستطيع فيه طفله أن يقف على قدميه، ويشقّ طريقه في العالم، ثم يتحرر من الاعتماد عليه”.
“ما دمت تجادل من الله”، أجاب الغزالي، “ما دمت تحاول بضعف التوفيق بين العقلاني والمقدّس، فلن تهزمني أبداً. لماذا لا تعترف بأنك كافر وننطلق من هنا. لاحظ من هم أسلافك، حثالة الغرب والشرق الكافرة؟ إن صدى كلماتك لا يتردد إلاّ في عقول الكفار. لقد نسيك أتباع الحقيقة. إنّ أتباع الحقيقة يعرفون أن العقل والعلم هما فترة الصبا الحقيقية للعقل البشري. إن الإيمان هو الهبة التي أنعم الله علينا بها، والعقل هو تمرّدنا المراهق ضده. وعندما نكبر سنتحول كلية إلى الإيمان كما فُطرنا على عمل ذلك”.
“سترى مع مرور الزمن”، قال ابن رشد، ” أن الدين في النهاية هو الذي سيجعل البشر يبتعدون عن الله. إن المتدينين هم أسوأ المدافعين عن الله. قد يستغرق ذلك ألف سنة وسنة، لكن في النهاية، فإن الدين سوف يتقلص وينكمش، وعندها فقط سنبدأ نعيش في حقيقة الله”.
فقال الغزالي: “جيد. الآن، يا أب عدد كبير من اللقطاء، بدأت تتكلم كما يتكلم الكافر الذي هو أنت”، ثمّ انتقل إلى الأمور المتعلقة بالآخرة ويوم الحساب، الذي قال إنه أصبح الآن موضوعه المفضّل، وتحدّث طويلاً عن نهاية الزمن بنوع من التلذذ أربك ابن رشد وأحزنه. وأخيراً، قاطع الرجل الأصغر سناً الأكبر سناً مخالفاً لآداب السلوك، وقال: “يا سيدي، يبدو كأنك الآن، مع أنك لم تعد سوى حفنة غريبة من التراب، تريد أن تغوص ما تبقى من الخليقة إلى قبرها أيضاً”.
“كما ينبغي أن يرغب جميع المؤمنين”، أجاب الغزالي، “لأن ما يدعوه الأحياء حياة هي تافهة عديمة القيمة بمقارنتها بالحياة التالية”.
يظن الغزالي أن العالم على وشك أن ينتهي، قال ابن رشد لدنيا في الظلام. إنه يعتقد أن الله عازم على تدمير البشر الذين خلقهم، ببطء، على نحو غامض، من دون تفسير. يجعل الإنسان في اضطراب ليحطم نفسه. يواجه الغزالي هذا المشهد برصانة، وليس فقط لأنه ميت هو نفسه. بالنسبة له، فإن الحياة على الأرض مجرد غرفة انتظار، أو مدخل. أما الخلود فهو العالم الحقيقي. سألته، في هذه الحالة، لماذا لم تبدأ حياتك الأبديّة، أم أن هذا هو كلّ شيء، أن هذا الوعي يمضي ببطء في خواء فوضوي، الذي هو في معظمه، مضجر. فقال إن طرائق الله غامضة، ولو طلب مني أن أتحلى بالصبر، لمنحته كل ما يرغب. لم تعد لدى الغزالي أي رغبات شخصية، كما يقول. وهو لا يسعى إلاّ إلى خدمة الله. إني أشك في أنه أحمق. هل هذا قاس؟ رجل عظيم، لكنه أحمق أيضاً. وأنتَ، قالتْ بهدوء. ألا تزال لديك رغبات، أو رغبات جديدة لم تكن لديك من قبل؟ تذكّر كيف كانت تسند رأسها على كتفه، وكيف يسند مؤخرة رأسها براحة يده. لكنهما الآن تجاوزا مرحلة الرؤوس والأيدي والأكتاف والاستلقاء معاً. قال إن الحياة بلا جسد ليست جديرة بالعيش.
إذا كان كلام عدوي صحيحاً، قال لها، فإن ربه رب ماكر، لا يعير قيمة لحياة الأحياء، وأرغب في أن يعرف أحفاد أحفادي ذلك، وأن يعرفوا مدى عدائي لمثل هذا الرب، وأن يتبعوني لمواجهة مثل هذا الرب، ودحر مساعيه. إذاً فإنك تعترف بذريتك، همست. إني أعترف بها، قال، وأرجو أن تغفري لي لأنني لم أفعل ذلك من قبل. إن دنيا زاد هي سلالتي وأنا جدّها. وهذه هي أمنيتك، قالت تضغط عليه برفق، أن يصبحوا مدركين بك، وبرغبتك، وبوصيتك. وبحبّي لكم. قال. مدججين بهذه المعرفة، ربما يستطيعون إنقاذ العالم.
نم، قالت، وقبّلت الهواء في المكان الذي كان يضع فيه خده ذات يوم، سأذهب الآن. إني لا أكترث عادة بمرور الزمن، أما الآن، فإن الوقت قصير.
منذ البداية، كان وجود الجنّ يطرح مشاكل كبيرة للفلاسفة الأخلاقيين: فإذا كانت تصرفات البشر مدفوعة بالجان المطبوع على حب الخير أم المطبوع على حب الشر؛ وإذا كان الخير والشر خارجيين بالنسبة للإنسان وليس داخليين، غدا من المستحيل تحديد من هو الرجل الأخلاقي. لقد اختلطت المسائل المتعلقة بأعمال الخير والشر كثيراً. ويرى بعض الفلاسفة أن هذا أمراً جيداً، يعكس الاضطراب الأخلاقي الفعلي للعصر، وكأثر جانبي سعيد، ويمنح طلاب المبادئ الأخلاقية مهمّة لا نهاية لها.
وفي جميع الأحوال، في الأيام الخوالي قبل انفصال العالميْن يقولون إنه يوجد لدى كلّ شخص جنّي أو جنّية تهمس في إحدى أذنيه، وتشجعه على القيام بأعمال صالحة أو طالحة. كيف اختاروا الأشخاص الذين يسكنون فيهم، ولماذا يبدون كل هذا الاهتمام بنا، لا يزال أمراً يشوبه الغموض. ربما لا توجد لديهم أشياء كثيرة يفعلونها. وفي معظم الأوقات، يبدو أن الجان أنانيون، بل حتى فوضويون، يتصرّفون وفق دوافعهم الشخصية البحتة، لا يعبأون يعبؤون بأي تنظيم اجتماعي أو نشاط جماعي. لكن هناك أيضاً قصص عن حروب نشبت بين جيوش الجان المتناحرة، ونشوء نزاعات مخيفة هزّت دعائم عالم الجنّ، وإذا كان ذلك صحيحاً، فإن هذا يفسّر انخفاض عدد هذه المخلوقات وانسحابها منذ فترة طويلة من مكان إقامتنا الجميل. وتحفل الحكايات بالجان السحرة، وبالعفاريت الضخمة التي تخلّف خطوطاً عبر السماء من الجرار الطائرة العملاقة التي تركبها لتوجّه ضربات هائلة، بل حتى ضربات مميتة، إلى أرواح أدنى، مع أنه، في نقيض لذلك، يشاع أحياناً بأن الجنّ خالدون. هذا غير صحيح، على الرغم من صعوبة قتلهم. فلا يمكن أن يقتل جنّياً إلاّ جنيّ أو جنيّة فقط. كما سيُرى. وكما سنحكي. ما يمكن قوله هو أنّ الجان، عندما يتدخّلون في شؤون الإنس، فإنهم يتحزبون ببهجة، ويضعون هذا الإنسان ضدّ ذاك، ويجعلون هذا غنياً، ويحوّلون ذاك إلى حمار، ويتلبسون أناساً ويسلبونهم عقولهم من داخل رؤوسهم، ويساعدون في السير على طريق الحبّ الصحيح أو يحولون دون ذلك، لكنهم يتعالون على صحبة البشر الفعلية، إلا عندما يُحصرون داخل مصباح سحري، ويكون ذلك، بالطبع، ضدّ إرادتهم.
أما دنيا فهي استثناء بين الجنّيات. فقد نزلت إلى الأرض وهامت في الحبّ إلى حد أنها لم تسمح لحبيبها أن يرقد بسلام حتى بعد ثمانية قرون ونصف القرن وأكثر. ولكي يقع مخلوق في الحبّ، يجب أن يمتلك قلباً، ومهما كنا نقصد ما هي الروح، ولابد أن يتحلى هذا المخلوق بمجموعة من الصفات والميزات التي نطلق عليها نحن البشر “الشخصية”. أما الجان، أو أغلبهم، فهم – كما يمكن أن تتوقّع، من كائنات مخلوقة من نار أو دخان – لا قلب لهم، لا روح لهم، ويتجاوزون مجرد الشخصية. إنهم جوهر الصفات: الطيبة، الشر، الجمال، الاستبداد، العجرفة، الخداع، الرزانة، القوة، النزواتية، المراوغة، العظمة. لا بد أن دنيا، حبيبة ابن رشد، عاشت فترة طويلة بين البشر، متنكّرة، بوضوح، حتى تستوعب فكرة الشخصية وتبدأ إظهار علامات منها. قد يقول قائل إنها التقطت الشخصية من الجنس البشري كما يلتقط الأطفال جدري الماء أو النكاف. ثم بدأت تحبّ الحبّ نفسه، تحبّ قدرتها على الحبّ، تحبّ إيثار الحبّ، التضحية، الغُلمة، الغبطة. بدأت تحبّ حبيبها فيها وهي فيه، لكنها ما وراء ذلك، بدأت تحبّ الجنس البشري لقدرتها على المحبّة، ولعواطفها الأخرى أيضاً. أحبّت الرجال والنساء لأنهم يستطيعون أن يخافوا ويغضبوا ويجبنوا ويشعروا بالغبطة. ولو تخلت عن كونها جنية، لاختارت أن تصبح أنسيةإنسية، لكن هذه هي طبيعتها ولا يمكنها أن تنكرها. وبعد أن هجرها ابن رشد وجعلها، نعم، حزينة، ونحلت، وحزنت، وصُدمت بإنسانيتها التي تزداد عمقاً. ثم، في أحد الأيام، قبل أن تُغلق الشقوق في العالم، غادرت. ولم تتمكن مئات السنين في قصرها في عالم الجنّ، ولم يتمكن المزيج اللانهائي الذي يشكل معيار الحياة اليومي في أرض عبقر، أرض الجنّ، من شفائها. لذلك عندما تكسرت الشقوق وانفتحت، عادت لتجدد روابطها. وطلب منها محبوبها من وراء القبر أن تعيد توحيد أسرتهما المشتتة وتساعدها على مواجهة الكارثة العالمية القادمة. نعم، ستفعل ذلك، قالت، وانطلقت مسرعة لتنفيذ مهمّتها.
ولسوء الحظ، لم تكن المواطنة الوحيدة في عالم الجنّ التي عادت وولجت المستويات الإنسانية، ولا توجد في عقولهم جميعاً أفكار عن أعمال صالحة.
نشر في مجلة كيكا للأدب العالمي
العدد التاسع من النسخة المطبوعة ربيع 2016
بالاتفاق مع منشورات الجمل التي تملك
الحقوق العربية للرواية.
خالد الجبيلي، مترجم سوري مقيم في كاليفورنيا
[email protected]