“الليل يفشي أسرار النّهار” قصة قصيرة للكاتبة رشيدة الشارني

رشيدة الشارني

كان منهمكا في شد الحبال حول صناديق الخضر المرصوصة بعناية داخل الشاحنة حين رمقته بنظرة خاطفة على الضوء الأصفر للفانوس المعلق أعلى باب الزريبة ومضت نحو شجرة الخروب تضع الطعام للكلاب المتقافزة حولها، ترنو إلى الأفق البعيد حيث يسقط الظلام والبرد على الجبال الغامضة فتعتريها رعدة خوف وتداهمها رغبة مجنونة في أن تندفع نحوه وتمنعه عن الخروج ولكنها تتماسك وتظل تتأمل الكلاب المتجمعة عند ساق الشجرة وهي تمزق اللحم بشراهة.

تخطو نحوه وتقول بصوت شديد النعومة:

ـ أتغادر يا سعيد وتتركني وحدي في قلب الليل والخلاء، ألا تخاف على امرأتك؟

يغمغم بكلام غير واضح فترتجف السيجارة بين شفتيه ثمّ يقول:

ـ معك كلاب تحرسك وهاتف وتلفاز يسليك أثناء غيابي

تتوسل إليه:

ـ دعني أرافقك

يزمجر:

ـ ماذا تقولين يا مهبولة؟ أنت لا تعرفين سوق الجملة.

ـ سأختبئ ولن يتفطن مخلوق لوجودي.

يضايقه إلحاحها فيسحقها بوابل من الكلام البذيء ويشير بسبابته إلى المنزل يأمرها بالانصراف. تنسحب إلى الداخل وتظل تراقبه من الباب الموارب وهو يدور حول الشاحنة متفقدا وضع الصناديق، هي لا تجرؤ على الرد حين يغضب وتخيفها ملامحه المتعجرفة وأسلوبه المهين في قمعها ولا تدري لماذا يتعمد ذلك مع أن ينابيع اللطف تفيض من كلامها.

يتمتم مستغفرا ويصعد خلف المقود مردّدا “باسم الله، العمال عليك يا ربي، اللهم سترك وعفوك “ثمّ يشغّل المحرك ويفتح المذياع فينبعث صوت القرآن شجيا. يقود على مهل الشاحنة الثقيلة باتجاه الطريق الترابية الغارقة في الظلام، أمامه ثلاث ساعات حتى يصل السّوق ولن يعود قبل الثامنة صباحا.

تغلق الباب بإحكام وتقف خلف النافذة تتابع من شقوقها ضوء الشاحنة وهو يخترق الظلام مبتعدا عن الضيعة الواقعة تحت أقدام الجبل ثمّ يختفي في منعرج الطريق، تتناول الهاتف وما إن تنظر في الشاشة حتى تشعر بهدير في قلبها، الشبكة ضعيفة وهي وحيدة في قفار بعيدة والليلة حالكة لا أثر فيها لنجم أو لخيط القمر.

 يجلدها الخوف بمرور الوقت، تتمتم في سرها مخاطبة نفسها “ما عليك يا نوارة سوى أن تصنعي لنفسك رأسا من حديد وقلبا من حجر”

ترهف السّمع لأصوات الحيوانات القادمة من حظيرة المواشي وحركة الكلاب في الخارج فتشعر بشيء من الألفة ويهدأ قليلا توترها ولكن ما إن تمرّ صورة ولديها التوأم في خيالها حتى تنهض شجونها، منذ غادرا للدراسة في الجامعة وهي مسكونة بالخوف والفراغ وكم تمنت لو يسمح زوجها بأن تهجر هذا الخلاء الموحش وتستقر معهما في العاصمة، كانا يكتفيان بزيارات قصيرة ثمّ توقفا عن القدوم إلى الضيعة بعد حادثة اغتصاب فتى راعيا في وضح النهار وقتله وتعليق جثته على جذع شجرة واقتياد مواشيه إلى الجبل، تعللا بالإرهاب الساكن على مرمى بصر ويشعران علاوة على ذلك بالضيق من عجرفة والدهما وينفران من تشدده المتزايد ورغم أنها صارت تعيش تحت وطأة الخوف فقد أبت أن تشغلهما بحالها واكتفت بزيارات خاطفة لهما مع زوجها ولكنها لم تتوقع أن يتحوّل خوفها إلى حالة عصيبة من الهلع بعد سماعها خبر ذبح ضابط حرس نصبت له جماعة إرهابية كمينا على الطريق الزراعية بينما كان متوجها صحبة شقيقه إلى منزل والديهما الواقع في ضيعة قريبة، تمكنوا من السيطرة عليه قبل أن يطلق رصاصة واحدة  وعمد زعيمهم إلى قطع رأسه وكتابة عبارة “طاغوت “على جبينه وتسليمه إلى أخيه.

ظلت التفاصيل التي نقلتها شبكات التواصل الاجتماعي وموائد النقاش التلفزيونية تعذبها وكلما أكد الخبراء والمحللون أن الجبال الغربية بوسط البلاد تحولت إلى بؤر مسكونة بالجماعات الإرهابية والناس في القرى القريبة تركوا بيوتهم وأراضيهم فارين من الخطر زاد إلحاحها على زوجها أن يهجرا الضيعة ويذهبا إلى العاصمة.

لا شيء كان يمضي عاديا، رائحة الموت تشدد قبضتها على المنطقة وتحوم حولها وهي تتحول بمرور الأيام إلى مخلوقة هشة يتلبس الذعر بقلبها وتحتاج إلى الرفقة والأمان حتى يهدأ بالها، كتمت كل ذلك عن ولديها وحذرتهما من القدوم وبقيت محاصرة بالقلق ولا تدري سرّ هدوء زوجها واستخفافه بما يقع وإصراره على البقاء.

عملت معه في الحقل منذ الصباح الباكر، تفقدت الغنم وحلبت البقرات وأطعمت الكلاب ثمّ انهمكت في حشّ الخضر وتكبدت مشقة نقلها قرب البئر لتنظفها من الأتربة ولم تبخل على جعلها في حزم و تصفيفها بعناية في الصناديق حتى يبيعها بأسعار جيّدة، كانت تقوم بكلّ ذلك رغم أنها لم تنشأ وسط  المزارع والمواشي ولكن لأنها زوجة طيّبة ومتفانية  تحملت المتاعب ورضيت بقدرها وكانت ترى أن ما تبذله من جهد واجب تؤديه نحو أسرتها وكلما رأته يمشي مقوّس الظهر أو سمعته يشتكى ويبدى حسرة لعجزه عن توظيف عاملات يساعدنه تشعر بالذنب ويذوب قلبها ، تسللت الخشونة إلى يديها الناعمتين وحمّصت الشمس بياض بشرتها ودبّت التجاعيد سريعا إلى جبهتها وطرفي عينيها وصار لوجهها الجميل المشرق لون القرنفل الأحمر المحروق حتى أصبحت تبدو وهي في السادسة والأربعين امرأة فوق الستين وحين تنظر في المرآة لا تكاد تعرف نفسها.

ما كان يحزّ في نفسها أنّ زوجها لا يكافئها ولو بعبارة شكر واحدة ولم يفاجئها منذ سنين طويلة بهديّة في عيد ميلادها مع أنها لم تطلب منه أجرا أو مقابلا  لعملها، أضناها التعب والحنين ولم تعد قادرة على تجاهل الصوت الذي يصرخ بأعماقها، يفيض حزنها كلما تذكرت كيف اقتحم حياتها كحريق وألح أن يتزوجها منذ حدثته عنها إحدى قريباته ورآها وعرف أنّها إنسانة لطيفة وعاقلة وكيف تركت عملها في حضانة مدرسية ومنزل والديها في العاصمة وانتقلت للعيش معه في الريف وكيف أجبرها بعد أيام قليلة أن تغطي شعرها الذي كانت تتركه منسدلا على كتفيها أو ترفعه إلى أعلى وتبرمه ثمّ تنصبه مثل كعكة على رأسها وتتعلم مخالطة التراب وإحياء الأرض وأساليب التعامل مع الحيوان، تتأمل حياتها الشاقة الرتيبة وسط الفراغ  فتقرر أن تخلع عنها رداء الخوف وتتركه وتعود إلى العاصمة ولكنها سرعان ما تخشى لؤمه وغضبه الصاعق وتعدل عن قرارها.

تهجع الحيوانات ويخيّم صمت ثقيل على المنزل المعزول، حتى العصافير لم تنهض بعد كي تؤنس وحدتها، تشعر بأنفاسها تضيق وتسمع الكلمات تتخبط داخلها:

“وحيدة أنت الآن والظلام يحاصرك ولا شيء يحميك سوى باب خشبي وكلاب صغيرة، تجاهلك من حاربت الدنيا لأجله وتفانيت في خدمته وغرفت الهمّ بسببه، تخلى عنك وتركك في قلب الليل ومضى، كوني واثقة أنه لن يذرف الدمع لو داهم الإرهابيون البيت وهرسوا عظامك واغتصبوك وعلقوا جثتك عارية على جذع شجرة كما فعلوا مع الراعي، سيأتي بحمقاء أخرى تقوم بالأعباء نفسها، قولي ماذا أنت فاعلة الآن؟”

تلجم الصوت الغاضب بداخلها وتضع على عجالة شالا من الصوف على رأسها ثم تفتح الباب بحذر فيتسرب هواء شديد البرودة إلى الداخل وتهرع إليها الكلاب، تفسح في المجال لدخول أصغرها وتعيد غلق الباب ثم تطفئ الضوء، تمسح على رأس الكلب وتحاول الانشغال بمتابعة مسلسل تلفزيونيّ ولكن فكرها يظل متيقّظا لكل حركة، يجثو الكلب قبالتها ويطيل النظر إليها، ترى لمعانا في عينيه وتشعر أنه يخاطب خوفها ويطمئنها، تبتسم إليه في حنو ولكن ما إن تسمع النباح في الخارج حتى يقرع الخوف قلبها وتقوم مستنفرة، تنظر من بين شقوق النافذة فترى ضوءا قويّا قادما، يذهب في ظنها للوهلة الأولى أن زوجها قد عاد ليأخذها معه ولكن لحظة تكتشف أن الشاحنة مختلفة عن شاحنته توقن أنها الضحية القادمة في المنطقة، تتجلد وتخاطب نفسها: “ليس أمامك يا نوارة سوى أن تدافعي عن حياتك”

تدب الشجاعة في دمها فتسرع إلى إطفاء التلفاز مكتفية بالضوء الخفيف المنبعث من الهاتف وتسدل الستارة ثمّ تتسلح بسكين كبير وتروّض الكلب حتى يكفّ عن النباح، تسمع بغتة صدى طلقات نارية وعواء متقطعا وتتوقّف الأصوات في الخارج ويخيّم الصمت فتستنفر جميع حواسها.

ينتشر الضوء أمام المنزل الصغير ويظهر رجلان منحشران داخل ملابس داكنة تخفي معالم وجهيهما، تراهما من شق أسفل النافذة يحومان على مهل في الساحة ويتوقفان عند شجرة التوت و يتكلمان للحظات بصوت خافت ثمّ يتوجهان نحو البئر، يغيبان وقتا قصيرا خلف الشاحنة التي تحجب ما يحصل من الجهة الأخرى ثم يظهران وبيد أحدهما محرّك البئر بينما حمل الآخر الدلو والحبل، يضعان ذلك في الشاحنة ثم يخطوان نحو حظيرة الحيوانات، تسمع ضربات عنيفة على الباب الخشبي وتتناهى إليها استغاثة الخرفان ثم تلمحهما يقودانها باتجاه الشاحنة فترتبك وترتجف أناملها وتحس أن الدور آت عليها لا محالة، تسرع إلى الجهة الخلفية من المنزل وتفتح الباب بحذر وتعدو بأقصى جهدها نحو المزارع الخالية يحميها الكلب اللاهث إلى جوارها وتخفيها صفوف الصبار وبيوت الطماطم والأشجار الواقفة كحارسات للأرض وعندما تبلغ الطريق المعبدة كان النهار يخطو في جسد الليل.

تختفي خلف شجرة دفلى تطلّ على الطريق المحفوف بصف من شجر اليوكالبتوس وتظل تسرق النظر بانتظار عودة زوجها، تكذّب كل ظنونها وتشعر على نحو غريب أنها كانت سيّئة الظن به وأنه الرجل المخلص المتفاني، ستخبره بما جرى لبيته وحيواناته في غيابه وتحدثه عن خوفها وفرارها في الظلام، سيغضب حتما ويتألم لأجلها ويبلغ الحرس ويخشى على حياته ويوافق على ترك الضيعة والفرار إلى العاصمة، يقطع مرور شاحنة الرجلين انسياب أفكارها، تراها تشق الطريق المعبدة ثمّ تتوقف عند حجر الكيلومتر، يتوقف سيل أفكارها ويخفت لهاث كلبها وبينما هي تنظر في جميع الاتجاهات باحثة عن مكان أكثر أمنا تشاهد شاحنة زوجها قادمة من الجهة المقابلة “لا بد أنه عاد ليأخذها ” تهمس لنفسها.

تفكر في الاندفاع إلى قارعة الطريق ولكن ما إن تراه يخفف السرعة ويتوقف ثم تشاهد الرجلين ينزلان من الشاحنة ويعبران الطريق متوجهين نحوه وينزل بدوره والسيجارة بين شفتيه حتى تجفل وتتراجع ولكن لحظة يصافحهما ويناولهما علبة ثم يشعل سيجارتيهما ويظل يتحدث معهما بهدوء تسقط غشاوة السنين عن عينيها وتشعر بالرغبة في الفرار من جسدها.

كاتبة من تونس
[email protected]

من مجموعة قصصية جديدة تحمل نفس العنوان، تصدر قريبا.

SHARE