
الرسام الإنكليزي
حكاية جداريَّة البراديا وطبرق
رزان نعيم المغربي
سلمى – روما
2001
الهبوط الثالث لطائرتنا خلال هذه الرحلة التي بدأت قبل يومين كان في مطار روما، بدأت أسمع اللُّغة الإيطاليَّة من حولي، وتيقَّنت أنَّ حلمي قد تحقَّق أخيرًا، بل كانت مقدِّمات ذلك في الطائرة التي انطلقت بنا من مطار طرابلس، ففي مدخلها وقفت المضيفات للتَّحيَّة، وقبل الإقلاع استمعت إلى أصوات الركَّاب يتكلَّمون اللُّغة المحبَّبة إليَّ وقطعت شوطًا في إتقانها، حتى إنَّ المسافرين اللِّيبيِّين كانوا يتحدَّثونها أيضًا، بهجتي ظهرت على ملامحي، وكدت أنسى رفيقتي وأنيستي في الرحلة جدَّتي سدِّينة، عندما تشتَّت انتباهي لحظة دخولنا مطار روما، صحت: هذا بلد الفنون، كان على أحدٍ أن يشهد فرحي، وأنا أكاد أطير لرؤية تلك الجداريَّات الفنِّيَّة تحتلُّ مبنى الوصول، كلُّ شيءٍ هنا يشير إليك بأنَّك وصلت إلى بلاد الرومان، ما تحقَّق لي في تلك اللَّحظة مسح من ذاكرتي حكايات جدِّي المنصوريِّ ومعتقله، صارت صورًا باهتةً بالأبيض والأسود، تكاد تمحوها بهجة ما أشاهد في تلك اللَّحظة، نسيت أبي وأمِّي وخالدًا وزينب، نسيت مكابدتي في إقناع الجميع بالسَّفر، وموشَّحات التوسُّل وأنا أطلب من والدي المصاريف أو تدبير الحصول على منحة إيفادٍ بحكم منصبه، وكدت أنسى جدَّتي، باختصارٍ كنت أخطو لاكتشاف عالمي الجديد، وكأنِّي وُلِدت للتَّوِّ وأنا الآن في روما!
من لحظة استقبال ليديا وفرانكو لنا في المطار تحوَّلت من فتاةٍ تمتلك عينين في وجهها إلى كتلةٍ من العيون تراقب وترى كلَّ شيءٍ دُفعةً واحدةً، أرى الجميع يتحدَّثون بلغة الإشارة، لغة الأجساد تضيف للغتهم معنًى جديدًا لم أتعلَّمه في المركز الثقافيِّ الإيطاليِّ في ليبيا، أنفي يلتقط روائح القهوة الشهيَّة التي تفوح في الأرجاء، وكدت أفقد أثر جدَّتي وفرانكو وليديا وسط الزحام، أسرعت للَّحاق بهم، ووجدت أنَّ أمتعتنا صارت فوق كرُّوسة، واتَّجهنا جميعًا للخروج، حيث حلَّت عتمة المساء، وتوهَّجت أضواء روما المبهرة، التي أراها تتلامح مسرعةً من نافذة السيَّارة، ثمَّ توقَّفت أخيرًا أمام وجهتنا، وهو بيتنا الجديد.
السكن في شقَّةٍ بالدور الأوَّل، تقع على ناصية شارع (ڤيالي) ليبيا في روما، يجاورنا من اليمين شارع (ڤيالي) أرتيريا، ومن الجهة الأخرى (ڤيالي) صوماليا، باختصارٍ نحن في روما، ولكن في الحيِّ الأفريقيِّ، ويدعى (كوارتييري أفريكانو)، كانت ليديا قد أعدَّت لنا كلَّ شيءٍ، ومن سيعتني بنا أكثر منها؟! وهي التي أمضت بضيافة جدَّتي سدِّينة عدَّة أسابيعَ في أوَّل زيارةٍ قدمت فيها للكشف عن جداريَّة البراديا، فيما كان زوجها فرانكو يقيم في غرفةٍ فندقيَّةٍ سواء كان في البردي أو انتقل إلى طبرق، أتذكَّر حينها أنَّ والدي عرض عليهما الإقامة في استراحةٍ يملكها هناك، فكانا يقيمان فيها في عطلة نهاية الأسبوع.
بعد وضع الأمتعة لم أهتمَّ كثيرًا لتفاصيل البيت، إلَّا أنَّنا حاولنا الاستعداد بسرعةٍ للخروج إلى أقرب مطعمٍ في الشارع، وهنا غادر فرانكو وبقيت معنا ليديا، التي بدت سعيدةً بأن تخبرنا بما اختارته لنا.

وفي صباح اليوم الأوَّل، تسلَّلت من النافذة المفتوحة أصوات الخارج، صرير مغاليق أبواب المتاجر، التي يتراصف بعضها بجانب بعضٍ تحت المباني على طول الشارع، أسرعت لأطلَّ وأشاهد ما يجري في الأسفل، فتمكَّنت من سماع التحيَّات بوضوحٍ، وبدأ ازدحام الناس أغلبهم يمشي مسرعًا، تأمَّلت صفاء السماء الزرقاء، سررت بأنَّه يومٌ ينبئ عن طقسٍ ربيعيٍّ، ولدينا جدولٌ من الزيارات للتعرُّف إلى بعض الأماكن لمدَّة أسبوعٍ، وذلك قبل البدء في التحاقي بالجامعة.
تجوَّلنا في (بياتسا دي إسبانيا)، و(فونتانا دي تريفي)، وهنا في هذه البقعة تحديدًا كانت كلُّ مشاعري تدعوني للصَّمت التامِّ، كنت أشاهدها في الصور والأفلام وأعرف عنها الكثير، ولم أتخيَّل عند ملاقاتها أنِّي سأصاب بالذُّهول! إذ تدفَّقت داخلي مشاعرُ غامضةٌ ومختلطةٌ بين الحبِّ والجمال، وأخيرًا قلت بصوتٍ عالٍ: ساحرةٌ! روما التي سأعرف أنَّها متحف الفنِّ والجمال، بل إيطاليا بكاملها، لكنِّي أتوقَّف هنا كلَّ مرَّةٍ، وأعيد تأمُّلها كأنِّي أراها للمرَّة الأولى.
ملذات الحب والفن
سلمى 2009
السعادة أن تلتقي بنسختك الأثيرة، النسخة التي لا تتطابق مع ما يظهر منك للعلن، بل ما تخفيه داخلك ولا تجرؤ على قوله، ثم فجأة تجده في شخص آخر، فتسمع نفسك تصيح في أعماقك: يا إلهي، كم أحبك! جورجيو.
اكتشفت مع جورجيو أني أحببت نفسي داخل علاقة حب مختلفة، أحببته رفيقًا وصديقًا مؤنسًا، أحببت مشاركته ما نحبه معًا وما نختلف عليه، لنتعلم كيف يمكن لأحدنا أن يتشارك مع حبيبه ما لا يتفق مع مزاجه، لكنه يفعله، ليس بغية التنازل، ولكن من باب إغناء التجربة ذاتها، أن يكون كل شيء في العلن أمام مرأى الجميع دون شعور بالخوف أو الذنب.
جاء أستاذًا زائرًا للفنون قبل عامين، وكنت قد حصلت على منحة باحثة في الجامعة، في اليوم الأول جلسنا متجاورين، وسامته وأناقة ملابسه قتلتني، وتذكرت على الفور أسئلة كثير من الصديقات والطالبات العربيات اللواتي مررن بهذه البلاد، أن كيف بقيت عازبة، أو على الأقل لم أرتبط بقصة حب مع شاب إيطاليٍّ؟
ها هو ذا أتى يسعى إلي، وببساطة شديدة يدعوني لحضور حفل موسيقا في دار الأوبرا. هكذا ببساطة، لم يمض على تعارفنا نحو ساعة، حدثني عن غربته الشديدة في روما، وهو ابن فلورنسا وسهول توسكانا الخضراء، أكدت له بأني تمنيت لو أقمت في مدينته، رغم أن روما بما فيها من متحف العالم للفنون، فإن فلورنسا مهد عصر النهضة، موطن دافنشي وأنجلو ورفائيل وبوتشيلي وعائلة آل مديشيتي، أعطت العالم درسًا كيف تنهض الأمم بالفنون.
وافقت بعد تردد، ستكون المرة الأولى بعد كل هذه السنوات العجاف أرافق فيها رجلًا وحدي وإلى حفل موسيقا، لطالما رافقت مجموعة من الصديقات والأصدقاء، في كثير من المناسبات والعروض الفنية، عندما صارحته أبدى استغرابه الشديد، ثم وجد مبررًا صنعه في عقله على الفور، وربما قارب الواقع بذكاء قائلًا:
- – أتخيل أنك قادمة من بلاد ما زالت متمسكة بتقاليد متشددة، رغم ما يبدو ظاهريًّا عليك، وأنت تمارسين عملك بحريَّةٍ، وأشار بيده إلى رأسي متابعًا: أنا أحترم ثقافة بلادك، ولن أضغط عليك بشأن قبولك دعوتي، أتفهم خوفك وترددك وأنتظر جوابًا…
- – هل تصدق أني لم أطرح الفكرة للنقاش حتى مع نفسي؟! نعم أنا سعيدة بمرافقتك، أخبرتك قبل برهة، ولكني فكرت بصوت مرتفع عندما صارحتك بأني لم أرافق رجلًا في موعد.
تكررت لقاءاتنا اليومية، وصرنا نذهب إلى المقاهي معًا، نجوب الشوارع القريبة من الجامعة عندما تسمح أوقاتنا بساعتين دون محاضرات، أدهشه صمودي على البقاء في بلاده، وقبولي الاستمرار في عمل إداريٍّ لسنوات طويلة رغم حصولي على الدكتوراه، أثنى على شجاعتي، في كل مرة تطربني كلماته وأسمعها غزلًا يروقني، في نهاية الأسبوع الأول أخبرني بحجز تذكرتين للحفل في دار الأوبرا، وبأنه سيأتي بسيارته، وحدد موعد حضوره لأجهز نفسي للحفل.
السادسة إلا خمس دقائق رنة وقع حذائي ذي الكعب العالي تطرق على درجات البناية، يدي اليمنى تلتقط أطراف فستاني الطويل بألوان زرقاء متدفقة بظلال داكنة، تتماوج على قماش الساتان، المزينة أكمامه بقطع الدانتيل، أنظر إلى الأسفل بحذر مع كل درجة أتجاوزها، يدي الأخرى تطبق بقوة على الحقيبة الصغيرة، وتنهدت لحظة وصولي إلى الباب شعرت براحة لأني غير معتادة هذا النوع من الأحذية، ولمحت مقابل البوابة سيارة متوقفة نوع لمبارديني، لم أهتم، وقفت أنظر إلى الطرف المقابل، فتح الباب وترجل منها جورجيو، صحت على الفور: يا إلهي، معقول؟! الأمر لا يستحق أن تسرق سيارة فخمة لأجلي!
تقبل تهكمي واقترب يمسك بيدي يطبع عليها قبلة، ويقودني ليفتح الباب وأصعد على الكرسي، وانحنى يثني ذيل الفستان، جلس وراء المقود مرحبًا بي: أهلًا بالحسناء، تستحق ابنة الجنرال بالطبع، وطرق بأصابع يده طرقات خفيفة على مقود السيارة! يبدو أنك شديدة الحذر بشأن أبيك، لم تتكلمي عنه!
- – فاجأتني، هل تتجسس على خصوصيتي؟! وأنت لم تخبرني أنك ثريٌّ لهذه الدرجة؟!
ابتسم وهو يحاول تجاوز أول منعطف في الطريق، ثم التفت سريعًا وأجاب: دعينا نستمتع الليلة، سوف نحلق مع الألحان، سيقود المايسترو جيوفاني بومبيبو فرقته ويعزف مؤلفات شتراوس.
لم يستغرق الطريق أكثر من عشرين دقيقة، رغم الازدحام وصلنا، وركن السيارة، ووقفت لحظات أتأمل الواجهة المذهلة لدار الأوبرا الفخمة، رغم أني مررت به مرات عديدة، الآن صار لتلك الأعمدة والأقواس المنحوتة من الرخام الأبيض والمنحوتات المعلقة جمال مختلف، يشهد على بداية جديدة، على أول عناق وتشابك بالأيدي بيني وبين جورجيو، ونحن نشق الطريق للقاعة ذات اللون الأرجواني الفخم والثريات الكريستالية المتدلية من السقف، وجدنا أماكن الجلوس بيسر، وبدأت المقاعد تنشغل بالضيوف، والكل يرتدي ملابس أنيقة، وروائح العطور الثمينة يختلط بعضها ببعض، وبقي عطر جورجيو الأكثر تمييزًا، أشمه كلما أمال برأسه نحوي ليهمس ويشرح عن القاعة وتاريخها، لكنني قد دوَّخني سحر المكان وكل الجمال المحيط بي، حتى بدأت الفرقة تنثر الألحان، انطلقت النغمات من مكان سريٍّ حالما عانقت آلات الكمان أعناق العازفين، سارت متجهة ودخلت قلبي، شعرت بنبضه يثب، خفتت أنغامها لتمنح لعازفي آلات البوق والشيلو رفقة البيانو مساحة الألحان العليا بين قرار وجواب، حضرت كل الرغبات المختبئة للروح، سرت جنبًا إلى جنب مع صوت الإرادة القوية للحياة، ثم على إيقاع صارم وحازم حلق بطغيان لا يضاهيه شيء كان جواب القرار وصوت العقل قد مسح القلق ومهد لتناسق النغمات، كأنه يختصر لحظة من العمر تحمل كل المشاعر بصخبها وحيرتها ودهشتها، لتكشف عوالمنا التي نخفيها.
حملتني الموسيقا ورمتني داخل الجوقة، وكشفت ذكريات منسية حرضتها على الظهور، رأيت صورة الجدارية، كيف رسمها جون، ألحانًا تتطاير في فضائها، علامات موسيقية مبعثرة هنا وهناك وبين أقدام راقصات الباليه، صرت أنوس بين جدارية جون بريل وبين وجودي في القاعة، لم أعد أميز مصدر النغمات، أهي آتية من الماضي البعيد أم إنها تستعاد في الحاضر؟! وارتفعت يد المايسترو عاليًا، فارتفع إيقاع مخيف لطبول حرب، ومع هبوط يده انخفضت رويدًا رويدًا، تخللتها نبضات أوتار الكمان لتعلن أن الحب هنا.
غارقة في عوالم لم يسبق لي أن عشتها، وغرقت بدموعي، ويدي على مسند المقعد تلتقطها يد جورجيو الحنونة تمسح عليها برفق… التصفيق الحار رسم على ملامحنا علامات الانتباهة الأولى أين كنا؟ وكيف علينا استعادة أنفاسنا بنحو طبيعي مرة ثانية؟! همس قريبًا من أذني: استمتعت؟!
- – جدًّا، حفل مذهل، أشكرك!
- – سنذهب للعشاء في مكان لطيف.
عندما خرجنا من الصالة متجهين إلى السيارة ابتعد قليلًا ولم يعد ملاصقًا ومعانقًا لكفي، وانطلقنا لتناول العشاء. تحدثنا عن الفن، وذكرت له كيف شاهدت ونحن في الحفل صورة جدارية البراديا، وما أراد الرسام الإنكليزي الإيحاء به، تجادلنا في النظريات النقدية عن أبعاد اللوحة وفلسفة اللون، فجأة امتدت يده لتمسك بكفي وأخذ يتأملها كأنه يراها للمرة الأولى وقال: أصابع يدك! تملكين أصابع عازفة بيانو!
- – لم أتعلم العزف قطّ!
- – إذًا هل تقبلين دعوتي للقاء أمي؟ ستعزف لك مقطوعاتها المفضلة، وستأكلين وجبة إيطالية في البيت! وأضاف: ويمكن أن تحضر جدتك معك!
وافقت دون تردد، أبديت سروري، وقررت أن أبلغ حني سدينة، بأنه زميل في الجامعة، ولن يعتريها الشك بأني على وشْك الوقوع في غرام رجل طلياني، ومع أن كل ما أحببته ورغبت فيه وجدته في عوالم جورجيو، فلم يحاول تجاوز المسافة، ما زالت تفصلنا عن البوح بمشاعرنا، ولم أعرف كيف أسمي هذه العلاقة، كنت أخشى رفض جدتي، بل ومنعي وتهديدي بالاتصال بأبي، وعلاقتنا عادت منذ مدة قريبة فقط، ولكنها وافقت ببساطة، ربما وصلها إحساس بالأمان لم أفكر بمصدره، إنما اكتفيت بذلك، ومضينا نخطط للموعد القادم والسفر إلى فلورنس.
كاتبة ليبية تقيم في هولندا