“ذلك اللحن” قصة للكاتب المصري أحمد الشريف

أحمد الشريف

– الموسيقى أجمل شىء فى الحياة.

يقول عماد بصوت يجمع بين الشجن والحب لصديقه الشاعر الغنائى، وهما يصعدان لأحد الأبنية القديمة فى القاهرة، حاملاً تحت إبطه كمانه الذى ورثه عن أبيه، وصلا للطابق الثانى وجدوا أمامهما باباً مفتوحاً، دخلا من الباب إلى صالة كبيرة تزدحم بآلات موسيقية، قديمة وحديثة، ثوان معدودة وجاء رجل فى عقده الرابع، رحب بهما أخرج عماد الكمان من جرابه وأعطاه إياه وهو يضع أصابعه على أوتاره، شارحاً وموضحاً للرجل ما الذى يريد.

– بعد يومين .

قال الرجل ومد يده ليأخذ الكمان.

– خلاص يومين، بس لازم يكون جاهز عشان مسافر فى رحلة شغل، أضاف عماد ومد يده مصافحاً الرجل، ثم خرج من الصالة ليهبط الدرج وخلفه صديقه، للشارع.

***

يقوم عماد بعمل كل شىء بسرعة، ويرغب ممن يعرفهم أو لا يعرفهم أن يساعدوه ويساندوه فيما يقوم به ويفعله، سواء أكان هذا العمل مشروعاً وذا أهمية أم لا، أحياناً يتصل بمن يعرفهم أو أحد أصدقائه، وهم قلة، وحتى هؤلاء القلة يتهربون منه، قد يتصل بأحدهم طالباً منه الذهاب فوراً إلى مكان ما ليلتقيا لأمر مهم .

وعندما يصل من اتصل به للمكان، يجده جالساً فى انتظاره، غالباً فى مقهى يستفسر ذاك الصديق عن الموضوع المهم والأمر العاجل، فلا يحصل على جواب، يشربان الشاى أو القهوة أو البيره أو أى مشروب يبتغيه الصديق، ويدفع عماد الحساب مع بقشيش للنادل ثم يقود سيارته برفقة هذا الصديق ليعود به إلى منزله أو أى مكان يحدده .

يحس عماد أن الموت يطارده كما يطارد نمر غزالة، الأب مات بأزمة قلبية، الأخ مات مبكراً، بعدهما رحلت الأم ، هو لايتكلم كثيراً عن الموت أو عن من رحلوا، لكن رغبته فى عمل عدة أشياء فى وقت واحد وحركته الدائمه، سفره، قلقه، وكلامه وحديثه السريع غير المنطقى والمتناقض، يدفع من يراه ويسمعه للاعتقاد بغرابة شخصيته، كأنما يمشى على شوك أو يجلس على جمر ربما وبسبب ذلك، ورغم موهبته ومهارته فى العزف على الكمان و النقرعلى الطبلة، لم يتمكن من تثبيت اسمه فى سوق الموسيقى والغناء، ولم يصبح مطلوباً للفرق الموسيقية الكبيرة، كذلك لم تشفع له سمعة أبيه الطيبة، كمدرس للموسيقى وكعازف كمان بأن يجد له مكاناً فى هذا السوق.

أبوه كان لحناً جميلاً لم يتكرر، حسب تعبيره، عمل هذا الأب مع الملحن زكريا أحمد، وكان من حوارييه ومحبيه ودائماً ما كان يحكي عن الشيخ زكريا وجمال وعذوبة ألحانه وشرقيتها الأصيلة، وحب الشيخ للحديث والحكي وصحبة الأصدقاء والأحباب وخفة ظله وسرعة بديهته.

فى السبعينيات سافر الوالد إلى الخليج للعمل، ثم عاد بعد أن جمع مبلغاً كبيراً من المال، تركه لأسرته وأخيراً آل هذا المال لعماد بعد رحيل أمه وأخيه، بعد رحيل الوالد استطاع، أن يعزف فى فرق مشهورة ويلحن لمغنيين ذائعى الصيت، لكن لم يستمر الحال، تحديداً عقب وفاة أخيه وأمه، كان على وشك تلحين لحناً أطلق عليه جاداً اسم ” لحن البداية والنهاية”، لكنه لم ينته منه أبداً وتدهورت الحال به فنياً، فبات يعمل مع فرق الدرجة الثانية والثالثة، لنفوره من حضور البروفات والاستعداد للحفلات، وحتى اذا حضر، فقد كان لا يستطيع المكوث سوى ساعة أو اثنتين على الاكثر، ولايمر ذلك بهدوء، خاصة لو كان بالفرقة عازفات أو لو كانت هناك فتيات ونساء يحضرن البروفات أو يعملن فى المكان، حينها كان يعجز عن التركيز فى العزف ويظل ينظر إليهن حيث تتوقف عيناه طويلاً عند مفاتنهن، وعند أدنى فرصة للراحة والتوقف، يذهب لهذه الفتاة أو تلك المرأة ليتبادل الحديث ناسياً العزف والمايسترو وزملائه، وعندما يهدأ عماد ويصفو يجلس مع صديقه الشاعر الغنائى، بعد انتهاء العمل فى أحد النوادى الليلية، يذكره صديقه إنه سيسافر مع الفرقة إلى لندن وامستردام، وإنه سيذهب لمدير الفرقة حسام، ليتفق معه وسيأتى له بالأوراق اللازمة.

من خلال هذا الصديق يعثر على عمل، وهو همزة وصل بين عماد وأصحاب الفرق والنوادى الليلية يشيد أمامهم بتاريخه ومهارته ولا مبالاته بشأن الأجر والمزايا الأخرى التى يحصل عليها غيرهن لذا يعتبره عماد صديقاً ومدير أعمال فى ذات الوقت، وقد كانا جالسين فى تلك الساعة، يذكر صديقه بذلك اللحن الذى كان على وشك الإمساك بنغماته وإيقاعته، يتكلم عن اللحن كمن يحلم بمكان ما أو امرأة أو رحلة.

***

ضمن مايؤرق عماد، عودته إلى شقته، شقة كبيرة فى مبنى يطل على شارع رئيس بالقاهرة، يشعر فيها، بوطأة الوحدة وبذكريات الأيام مع والديه وأخيه، كحل لهذه المشكلة أعطى نسخة من مفتاح شقته لصديقه الشاعر الغنائى، كى يأتى لزيارته فى أى وقت، وليهتم بالشقة عندما يسافر وأيضاً لأنه لايريد أن تتعفن جثته فى الشقة لومات فجأة، ثم أجرنصف الشقة لأحد أخصائيى المعامل الطبية، الأخصائيى كان زميلاً له حتى الثانوية العامة وهو أيضاً من سكان الشارع، بناءً على رغبته أقام بين شقته والمعمل باباً زجاجياً صغيراً، يستطيع من خلاله رؤية الناس وهم يدخلون ويخرجون، وليذهب إلى الأخصائيى فى حالة عدم وجود زبائن أو بعد انتهاء مواعيد العمل، لتبادل الحديث معه.

فى أحد الأيام دخل المعمل بعد أن لاحظ عدم وجود زبائن، جلس على كرسى وأمامه مائدة كبيرة فوقها كتب ومجلات باللغتين العربية والإنجليزية، لا يقرأ عماد الكتب ولا المجلات ولا الجرائد، لم يقرأ سوى كتب الموسيقى، وحتى تلك الكتب توقف عن قراءتها، بعد انتهاء دراسته فى معهد الموسيقى، من باب الفضول سأل الأخصائيى، فأجابه:

– دى كتب ومجلات وأبحاث عن طب تجديد الخلايا.

اختلطت الأشياء برأس عماد بان ذلك على وجهه فسأل ثانية:

– لكن أنت أخصائى تحليل مش دكتور؟

تعود الأخصائيى على أسئلة عماد وحديثه اللذين يشبهان أوهما بالفعل أقرب، لأسئلة الأطفال منها لشخص بالغ عاقل وفنان موهوب.

– آه، بس مجالنا لا ينفصل عن الطب، وأنا بحب أقرأ عن طب تجديد الخلايا، عشان الخلايا هى المسئولة عن الشيخوخة والموت، سمع كلمة الموت فسكت واتسعت عيناه وتسارعت نبضات قلبه، لاحظ الأخصائيى ذلك فقدم له كوباً من الماء وهو يسأل عماد عما حدث له، عب عماد الماء وحكى له عن مشكلته وأسرته مع الموت، طمأنه الأخصائيى، قائلاً إن موت أفراد أسرته مبكراً لايعنى بالضرورة أنه سيموت مبكراً، ثم ذكر له أسماء بعض من يعيشون فى الشارع ممن تجاوزوا الثمانين، فى حين مات ذووهم مبكراً، تكلم أيضاً عن مجموعة من العلماء والأطباء، يعملون الآن فى عديد من الجامعات والمستشفيات والمعامل، لدراسة خلايا وأنسجة الإنسان، لعلاج الأمراض المزمنة ووقف الشيخوخة وإطالة العمر، بينما يتحدثان سمعا من خلفهما صوتاً ينادى على عماد، من وراءالباب الزجاجى، وقف وأزاح الباب فوجد أمامه صديقه الشاعر، تبادلوا التحية وذهبوا إلى الشرفة، كنوع من تغيير المكان.

واضح إنكم كنتم بتتكلموا فى موضوع مهم، سأل الشاعر فأجاب الأخصائيى:

– بنتكلم عن تجديد الخلايا والشيخوخة والموت.

نظر الشاعر نحو عماد نظرة عطف ومؤازرة، ولم يجد كلمات مناسبة للتعليق، رأى كذلك إنشغال عماد والأخصائيى بملاحظة ومشاهدة رجل يبدو عليه الكبر، حاملاً على ظهره كيساً كبيراً، مكدساً بالنفايات وبقايا وأجزاء من أجهزة.

على غير المتوقع أبدى عماد رأيه، موجهاً إياه للأخصائيى: إيه لزوم طب تجديد الخلايا بتاعك لرجل زى ده؟

– مش فاهم.

رد الأخصائي وهو فى حالة من الارتباك وعدم الارتياح، قصدى إيه الفايده من حياة طويلة مليانة بالتعب والفقر والتعاسة !

بعد أن سمع الأخصائيى إجابة عماد أو توضيحه، حدق فى الرجل بالشارع، وفيما يحمله من أثقال وما يلبسه من ملابس مهترئة وحذاء بالٍ، ثم عاد مواجهاً عماد، كأنما يسأله مزيداً من التوضيح والتنوير.

– يعنى حياة قصيرة حلوة وسهلة، أحسن للراجل ده من مية سنه غُلب وشقا وفقر ومرض.

لم ينطق الأخصائيى بكلمة، سمع من ينادى عليه من داخل المعمل، فتركهما ودخل، أما الشاعر فربت على كتف صديقه ولم يعلق، لكنه أخرج من جيبه أوراق الرحلة التى سيسافر فيها عماد مع الفرقة للعزف بلندن وامستردام.

***

السفر يعنى له موسيقى من نوع خاص، صاخبة أحياناً، هادئة أحياناً، وفى أحايين مزيجاً من الصخب والهدوء وأشياء أخرى يعرف الأماكن، والأشخاص بالموسيقى، الموسيقى لاتفارقه ولن تفارقه، كانت معه بالبيت، بالشارع، بالمدرسة، بالمعهد، بالمقهى، و حتى وهو يضاجع، هنا ابتسم عماد مسترجعاً قصة سردها عليهم أحد أساتذة معهد الموسيقى المرحين، عن ملحنين مصريين شهيرين ومصادرهما الخفية والغريبة للإلهام والإبداع، كانا عندما يطلب منهما لحن جديد لأغنية أو لمسرحية غنائية قصيرة، ويستعصى عليهما اللحن ككل أو مطلعه أو مذهبه يجلسان على مقهى يشربان ويدخنان ويأكلان، ثم يذهبان قرب منتصف الليل إلى أحياء القاهرة الشعبية، فى اليوم التالى يكونا قد أنجزا اللحن تكرر هذا عدة مرات، الأمر الذى دفع أحد الأصدقاء الفضوليين كى يتتبعهما ذات ليلة، شاهدهما وهم يصلان لذلك الحى الشعبى، كانا قد تمهلا عند إحدى الحارات، واقتربا من أحد الشبابيك، ووضعا أذانهما ملاصقة للشباك، ثم استلا ورقة وقلم وشرعا يدونان

ما يسمعانه يقول الصديق الفضولى: ” اقتربت منهما ومن الشباك محتمياً بالظلام، فسمعت صوت امرأة وهى تضاجع ويصدر عنها غنجها “، أفاق على صوت ارتطام عجلات الطائرة بأرض مطار هيثرو، بعد ربع ساعة أخرى وكان مع الفرقة فى صالة الوصول، لكن ماحدث بعد ذلك أنه تاه وشرد بعيداً عن أفراد الفرقة، كان يسير خلفهم حين استوقفته امرأة رقيقة وجميلة كلحن حنون اقترب منها، فابتسمت، تبادلاالحديث والتحايا البسيطة، عرف أنها قادمة من أستراليا لزيارة متحف لندن.

– أريد أن أرى الآثار والأشياء التى أخذها البريطانيون من بلدى تتكلم بليونة وعفوية، جسمها أبيض مشرب بحمرة، تلبس فستاناً يكشف عن ذراعيها ويصل حتى منتصف فخذيها، عندما سألته إلى أين هو ذاهب، تذكر رفاق رحلته وأنه فقدهم داخل المطار، من حسن الحظ أن فى جيبه قصاصة بها عنوان الفندق، أعطاها الورقة لتقرأها وتساعده فى كيفية التوجه لذلك الفندق، هذا الفندق يقع فى شرق لندن، قالت وهى تسير معه صوب مترو المطار، قبل أن يدخل لعربة المترو شكرها وتمنى أن يراها ثانيةٍ، فأخبرته أنها ستكون غداً فى متحف لندن عند الواحدة ظهراً، بعد جلوسه، وعبر زجاج النافذة رآها تبتعد وتغيب وسط الناس، شعر مع المرأة بنشوة اللحظة ونسى الفرقةن لماذا لم يذهب مع هذه المرأة شديدة الجاذبية والخفة والحلاوة ؟ شعر معها، كأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ زمن يالها من بداية للرحلة، لكن ما اسم المحطة التى يقع فى محيطها الفندق؟، عندما خرج من محطة المترو، لم يستوعب للحظات أنه فى لندن، الشوارع مزدحمة ببشر من كافة الأجناس: عرب، هنود، باكستانيين، وبشر من شرق آسيا وغربها وجنوبها، أفارقة وإنجليز، حوانيت وسوبرماركات، محلات ملابس وأحذية ومطاعم، من يعمل فيها وكذلك من يشترون ليسوا إنجليزاً على نواصى الشوارع وأمام البيوت، وهى الشىء الذى أكد له أنه فى لندن، لطرازها المعروف، كان بعض الرجال بملامح هندية وباكستانية وبنغالية، يقفون خلف مائدة صغيرة عليها بوتجاز فوقه طاسة لقلى بعض الحلويات والأطعمة، كأنه مشهداً رآه وكأنه يخرج من شارع بمدينة عربية أو آسيوية، تجاوز ذلك الزحام المربك ودخل شارعاً جانبياً، على بعد أمتار لافتة علقت عليها كلمة غابة، دخل وجلس ليلتقط أنفاسه، على جانبى الغابة أو الحديقة رأى أشجاراً كبيرة ومتوسطة وصغيرة، أما فى منتصفها فقد بان نجيل أصفر طويل، انتزع علبة سجائره من جيبه الخلفى، وعندما أخرج السيجارة وبدأ يدخن، وجد أمامه شابين يطلبان منه، لو سمح، سيجارة وكيف لايسمح وهما، ينتصبان أمامه بنوع من التحدى والاصرار الصامت ولا يعطيانه فرصة للتنفس، أعطاهما سيجارتين وقبل أن ينصرفا سألهما عن عنوان الفندق الذى معه صحباه حوالى عشر دقائق حتى وصلوا للفندقن شكرهما ومنحهما سيجارتين إضافيتين، كان مبنى الفندق على شكل مستطيل، من طابقين ومطلىياً باللون الأبيض، دفع الباب ودخل إلى صالة الاستقبال الصغيرة، استقبله رجل أسمر، فعرفه بنفسه واستفسر عن الفرقة:

– فى غرفهم الآن، وهذا مفتاح غرفتك فى الطابق الثانى.

رجل الاستقبال اسمه شاهين من بنجلادش، خلال حديثهما معاً، أخبره شاهين أن بالطابق الثانى مطبخ به شاى وقهوة مجاناً، أما الفطور فيمكنه تناوله فى أى مطعم خارج الفندق، لمح بالمطبخ صورة للكعبة على الحائط ونسخة من القرآن بالإنجليزية موضوعة أعلى الثلاجة أدرك أن الفندق من فنادق النجمة أو النجمتين على أكثر تقدير، وضع حقيبته بالغرفة ثم نزل ثانيةٍ للطابق الثاني، للقاء أعضاء الفرقة والتحدث معهم عن حفلة الليلة.

***

فى صالة الاستقبال ضحك أعضاء الفرقة عند رؤيته، ضحك هو أيضاً ولم يسألهم، لماذا لم يبحثوا عنه فى المطار.

– كنا متأكدين إنك هتصل الفندق.

هم يعرفون أن أحد صفاته، قدرته على الخروج من المآزق والمشكلات بأقل الخسائر، بعد فاصل من المداعبات والضحكات ذهبوا إلى مطعم قريب، المطعم يعمل به باكستنيون، وجبته الرئيسة، كباب وسلاطة وأرز على الطريقة الباكستانية داعب مدير الفرقة، عامل المطعم وهو يضع الأطباق على المائدة: حلال ، ابتسم العامل ولم يرد انتهوا من طعامهم، وذهبوا لتناول الشاى فى مقهى مجاور، ناقشوا فى فترة شربهم الشاى، برنامج الحفل من سيعزف سولو، من سيغنى، و كيفية النهاية.

قال المدير إن عماد سيعزف سولو على الكمان، بعده يبدأ العزف الجماعى والغناء لمدة ساعة، ثم إستراحة يتخللها طعام خفيف وشراب تقع القاعة المقام بها الحفل فى مبنى تملكه الجالية العربية فى لندن، لكن هذا لايمنع حضور جمهور من جنسيات غير عربية.

***

بعد انتهاء فقرات الحفل، فضل عماد العودة للفندق لينام، استعداداً للغد، عاد معه حسام مدير الفرقة، أما الباقون فأحبوا التجوال فى المنطقة والعودة إلى للفندق فيما بعد قبل صعوده لغرفته بالطابق الثانى أبلغه حسام، أنهم سيزورون فى نهار الغد الأماكن الشهيرة بلندن، لكنه استدرك قائلاً بعد أن رأى عدم حماسه:

– لو مش عايز مفيش مشكلة، براحتك، على شرط تكون هنا فى الفندق

الساعة تسعة، وبعد الحفلة هنسافر لامستردام.

– ماشى.

تركه حسام وذهب لغرفته، فيما صعد هو للطابق الثانى. كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل، وبينما كان يستعد للنوم سمع صوت فتاة أو امرأة تبكى فى الغرفة المقابلة، يفصل بين الغرفتين ممر لايتجاوز المتر، لذلك يمكنه سماع حتى أنفاس من ينامون هناك، خرج ليذهب للحمام لم تكن لغرفته ولا سائر غرف الطابق حمامات، للغرف جميعاً حمام مشترك يجاور المطبخ، كان الحمام مغلقاً من الداخل انتظر قليلاً حتى سمع صوت باب الحمام يفتح، ظهرت على الباب فتاة إنجليزية ممتلئة الجسم، تلبس تى شيرت يصل بالكاد لأعلى فخذيها المكتنزين العاريين بادرت بالتحية بصوت ودود، فرد تحيتها ودخل حين عاد لغرفته كان صوت بكاء الفتاة أو المرأة الأخرى يمنعه من النوم وقف أمام غرفته متحيراً لايعرف ماذا يفعل لدقائق قبل أن تخرج الفتاة وتتجه للحمام لتواصل البكاء فيه وعند عودتها كانت لاتزال تبكى كذلك.

– هل كل شىء على مايرام؟ سألها بإنجليزية سليمة.

– نعم !

هل يمكننى المساعدة؟

– كيف؟

سألته الفتاة وهى تحدق فيه بتمعن نتظرينى لثوانٍ.

تركها ودخل غرفته، التقط الكمان بسرعة وعاد إليها نقر بأصابعه على أوتاره وهو يبتسم، فابتسمت هى أيضاً دخلا لغرفتها، يمكنك أن تسترخى فى سريرك، وأنا سأعزف لك.

استرخت على السرير وأسبلت جفنيها، فشرع فى العزف خرجت النغمات، هادئة ناعمة حتى نسى نفسه والتحم بكمانه وتصاعدت نغماته وتنوعت محملة بالرهافة والشجن، ربما كان قد استطاع أن يترجم بنغماته ما كان يعتمل بداخل الفتاة، ولم تقدر هى على التعبير عنه سوى بالبكاء، نغماته صارت فى أذن الفتاة رسالة وهمسة إلى من أرهقته الدنيا وكادت تهزمه المحن والصعاب، فى ختام لحنه راح يلمح الفتاة بطرف عينيه، وبدأ يغير النغمات إلى نغمة فرحة تقول:

– عش من أجل نفسك، واستمتع بحياتك، ولاتهتم إلا بمن يستحق.

***

فى صباح اليوم التالى تناول إفطاره بمطعم قريب من الفندق، لم يكد يغادر المطعم بخطوات ويشعل سيجارة، حتى وجد شاباً يقطع عليه الشارع، ويرجوه أن يمنحه واحده أدهشه تكرار هذا المشهد فلما سأل عنه، عرف أن ثمن علبة السجائر مرتفع، حسناً فعل بجلب سجائره معه من القاهرة، رغم إنزعاجه لعدم تمكنه من تدخين سيجارته فى سلام، إلا أنه شعر بنوع من الاندهاش

والمفاجأة، بسبب استعداد الناس لتقديم المساعدة والارشاد، كلما سأل عن الطريق إلى مكان ما، قبل أن يغادر المنطقة التى يقع فيها الفندق، متوجهاً إلى وسط لندن، فكر فى شراء تذكرة مترو ليوم كامل، كى يجنب نفسه عناء شراء تذكرة جديدة لكل ساعة، ساعده رجل إنجليزى كان ينظف الشارع، حيث توجد ماكينة شراء التذاكر عند محطة المترو، عبر السلالم ثم صعد إلى إحدى العربات على الرصيف، استفسر من شاب إلى جواره عن كيفية الوصول لمتحف لندن، فأخبره بضرورة تغيير وجهته، اسرع بالنزول ليركب فى الاتجاه الذى أوصى به الشاب، بعد أن غادر محطة الوصول وجد نفسه فى ميدان البيكاديلى ومن البيكاديلى إلى سوهو ثم إلى شوارع كثيرة تتفرع عنه، حتى انهكه التعب قبالة الهايد بارك، استرخى فى الحديقة لمدة ساعة، قبل أن يقرر العودة إلى شرق لندنن فى طريق العودة كانت عربات المترو مكتظة بالركاب، وقف فى أحد الأركان جوار الباب واستغرق فى التفكير فى متحف لندن الذى لم يزره وفى المرأة الاسترالية التى لم يقابلها، وبينما هو غارق فى أفكاره، لمح فتاة إنجليزية جميلة تبكى وتنسال دموعها على خديها .

التفت يميناً ويساراً، فلم ير من يهتم ببكاء الفتاة ما الذى يحدث، هل أتى إلى لندن ليرى ويسمع الفتيات الإنجليزيات وهن يبكين ؟!

مد يده فى جيبه ثم أعطاها منديلاً ورقياً، تجفف به دموعها، سألها عن سبب بكائها، وعما إذا كان يمكنه مساعدتها؟، فقالت دون تردد إنه صديقها هو من فعل بها ذلك وإنها ستجعله يدفع الثمن، وأن بكائها لايعنى إنها ضعيفة ولا تقدر الدفاع عن نفسها وأخذ حقها إلخ .

ظللت تتكلم وتتكلم حتى توقف المترو فى إحدى المحطات فغادرت وهى، تشكره على مساندته ولطفه، وتمنت له يوماً طيباً.

عند وصوله، كان جائعاً، فدخل نفس المطعم الباكستانى الذى قد أكل فيه مع أعضاء الفرقة، تناول غداءه ثم قام متوجهاً إلى الفندق، ليستحم ويستريح ساعة أو اثنتين، استعداداً للحفل على عادته كان الحمام مشغولاً، انتظر حتى خرجت منه فتاة غير التى قابلها البارحة، قبل أن يدخل، لمح

شاباً يقف خلفه منتظراً دوره، شعر بالضيق والانزعاج، فاكتفى بصب الماء على يديه ووجهه وخرج، لاحظ بعد ذلك أن الشاب والفتاة يقيمان فى الغرفة التى بمواجهة غرفته، والتى كانت تسكنها فتاة الليلة الفائته لم يعبأ، وخلع ملابسه ليسترخى على السرير، لكن حتى هذا لم يتم، كانت الفتاة فى الغرفة المقابلة، قد بدأت بالتأوه وبأطلاق أصواتاً وضحكات عالية متقطعة، كعاهرة محترفة تستمتع بما تقوم به، حاول أن يتذكر شكل الفتاة: قصيرة، مقبولة الشكل، خمرية اللون، بعد دقائق سمع صوت باب الغرفة يفتح والفتاة تقول لصديقها، إنها ستذهب للمطبخ. ود أن يلعب ويتسلى قليلاً، فخرج من غرفته إلى المطبخ، الفتاة تقف أمام باب الثلاجة المفتوح وبيدها زجاجة ماء.

سألته: أتريد ؟، أجاب بنعم مبتسماً رأى شعرها منفوشاً قليلاً وقميصها مفتوحاً حتى منتصف ثدييها الممتلئين.

– أنت جميلة.

– أشكرك.

وأضاف بعد أن أبصرها تزيح خصلة من شعرها بدلال وتحرك لسانها ببطء، على جانبى شفتيها: ومثيرة أيضاً.

فضحكت ضحكة خافتة واتسعت عيناها وهى تحدق فى وجهه، أعطاها الزجاجة، فشربت ثانيةٍ وضعت الزجاجة فى الثلاجة ثم تحركت، فوقف أمامها تطلعت إليه وسألته بنعومة: ماذا تريد ؟

– أريدك أن تأتى إلى غرفتى لدقائق.

أطالت النظر للممر الفارغ ولباب الغرفة التى يقبع فيها صديقها.

– إنه ينتظرنى بالداخل.

– لينتظر.

– حسناً، لكن كم ستعطينى؟

– معى عشرون جنيهاً .

– دقيقة وسأكون معك .

***

قبل هبوط الطائرة فى مطار امستردام، تكلم عماد مع حسام، عن رغبته فى أن يكون له غرفة بحمام بالفندق، لامانع عنده أن يقتطع جزء من مستحقاته المالية من أجل ذلك.

– ماشى.

رد حسام وتحدث عن حفلتى امستردام، إحداهما ستكون فى نفس الفندق، أما الثانية ففى نادٍ ليلى ملاصق للفندق بعد ذلك رحلة قصيرة بالباص لمدينةDelft ومنها إلى بروكسيل ثم العودة للقاهرة، عقب هبوط الطائرة ودخولهم لصالة المطار وإنهاء إجراءات الخروج، استقلوا المترو إلى وسط المدينة، ومن هناك ساروا حتى الفندق، فى الشارع الطويل الذى يقع فيه الفندق شموا رائحة الحشيش القوية، دكاكين ومقاه صغيرة يقف أمامها عدد كبير من الشباب من مختلفى الجنسيات، يدخنون ويشترون الحشيش، أما الفندق فهو فندق ونزل للشباب معاً، توجد به غرفاً فيها أربعة أسرة أو ستة، وغرف بسرير واحد الطابق الأرضى ينقسم إلى: مطعم مكشوف و خلفه مباشرة منطقة الأضواء الحمراء، أما القسم الثانى فمقهى وبار، يتحول مساءٍ إلى نادٍ، ليلى صغير للعزف والغناء والرقص، جو الفندق حميم ومريح، وبينما هم فى ركن الاستقبال يتسلمون مفاتيح غرفهم، كان موظف الاستقبال ينصت إليهم وهم يتكلمون ويبتسم، سأله حسام بالإنجليزية، عما إذا كان يفهم مايقال، فأجاب بنعم .

اسمه مصطفى من المغرب تبادلوا السلام والتحية معه، أبلغهم أن الإدارة كلفته بالتواصل معهم وبمساعدتهم فيما يحتاجون، أخذ عماد مفتاح غرفته بالطابق الثالث وصعد، فتح الباب فرأى صوراً ورسوماً تغطى حوائط الغرفة: رسم فوق الدولاب لأمرأة عاريةعلى سرير، نصفها الأسفل مرفوع لرجل عار أيضاً، يلج فيها، بينما تدلى ثدياها لترضع طفلاً، صورة ليد امرأة تمسك بمصفاة صغيرة كالتى يستعملها الأطفال، مرسوم عليها تفاحتان وتصب الماء منها، على عضو رجل ملفوف بغصن ووريقات خضراء، صور بالأبيض والأسود لأعضاء رجال ونساء وفتاة جميلة تقف عارية خلف شجرة، تشير بأصبعها وهى تبتسم لحفنة من الرجال، أما فوق السرير مباشرة صورة كبيرة، قديمة، لامرأة تنحنى فوق كرسى وسروالها الداخلى، قديم الطراز، منزاح عن مؤخرتها، وامرأة ثانية تضربها بقوة على مؤخرتها، وصور من الستينيات لنجوم البوب الأمريكى والأوربى مع معجبيهم، عرايا على شاطىء بحر أو جوار نهر. الصورة الأبرز كانت مستنسخ لوحة قديمة لحديقة واسعة، شديدة الخضرة ورجل وامرأة بملابس القرون التى خلت، المرأة ترقد على ظهرها وملابسها وقد انحسرت عن ثدييها الضخمين، فخذاها عاريان كذلك، يبين شعر عانتها، بينما عضو الرجل فى طريقه لفرجها الأحمر، فى النصف الثانى من اللوحة فرس مربوطة إلى شجرة وحصان خلفها منتصب العضو، فتح الشباك فرأى أن المساء هبط، بدأت الحركة تزداد فى شارع الأضواء الحمراء، شعر أن غرفته فى حالة انسجام مع اسم المكان، فابتسم لهذا الخاطر.

***

بسبب طبيعة المكان والحضور الكثيف لشباب وفتيات فى العشرينيات من أعمارهم، عزف عماد معظم وقت الحفل، على الطبلة، عزف بشكل آلى فى البداية ثم اندمج فى العزف والتألق، قبيل منتصف الليل انتهى الحفل بالفندق وخرج الشباب والفتيات، لاستكمال السهرة فى أماكن أخرى. وهو يمربين الكراسى متجهاً صوب البار، كاد أن يصطدم بفتاة.

– عفواً

– لاعليك.

نظرت الفتاة له لثوان وقالت إنها استمتعت بعزفه، لم يتردد فى شكرها ودعوتها، لصحبته لأى مكان تختاره هى، كى يشربا شيئاً معاً.

– لملهى الملاصق للفندق، إذا كان هذا يناسبك.

– لابأس .

خرجا سويةً ودخلا للنادى، جلسا متجاورين على كرسى قبالة البار، هل أنت هولندية ؟

سألها فهزت رأسها بالنفى وقالت إنها إنجليزية.

– إذن يجب أن أغادر قبل أن تبكى.

– عفواً، …

حكى لها ماحدث فى لندن مع فتاتى الفندق والمترو، فضحكت وعلقت:

– الفتيات يبكين سريعاً وكثيراً لأتفه الأسباب، أراد مداعبتها:

– وهل ستبكين أنت أيضاً ؟، أجابت وهى تضحك : ليس الآن على إية حال، شربا كوبين من البيره ورقص معاً وسط جمع من الشباب والفتيات، كان سعيداً وتمنى أن يواصل الرقص مع الفتاة حتى الصباح.

أشتدت الإيقاعات فمالت الفتاة برأسها للأرض وبدأت تحك نصفه الأسفل بمؤخرتها، كما تفعل الفتيات حولهما، أحس بالحواجز وقد سقطت بينهما، فقبض على ثدييها، لكنها أزاحت يديه واستمرت بالرقص.

بعد حوالى ثلث الساعة شعر بالتعب فدعاها للجلوس قليلاً وشرب البيره، هذه المرة جلسا جوار مجموعة من الفتيات والشباب الألمان، إحدى الفتيات كانت سكرانة، وراحت تردد بالإنجليزية عبارة: ” I love my self” .

دس شاب يده بين فخذيها وهى واقفة لصق البار، كان يحرك أصابعه ويتحسسها بعصبية وشبق مكتوم، صاعداً من فخذيها لمؤخرتها، حتى استقرت يده بين فلقتيها وشرع يحاول إدخال أصابعه بقوة، فصرخت الفتاة، حاولت الابتعاد فلم تتمكن وسقطت فى حجر آخر.

عاد عماد والفتاة الإنجليزية للرقص، التصقت به مجدداً فتشجع وأراد أن يتمادى معها، فكررت ما فعلته فى المرة السابقة وأبعدت يديه، لم يفهم ماذا تريد أو ما تسعى إليه هذه الفتاة، ولأن التعب حل عليه بسبب العزف والحفل والرقص فقد قال بإرهاق:

– سأذهب للخارج لأدخن سيجارة، تركها وغادر إلى غرفته فى الفندق .

***

عند نزوله من غرفته فى الصباح، مر على الاستقبال، لمح مصطفى المغربى، فابتسم ومد له يده محيياً أشاد مصطفى بعزف عماد وسائر الفرقة ليلة أمس، استمر الحديث بينهما لدقائق، ثم سارا معاً إلى مطعم الفندق وجلسا يتحدثان بعد أن طلب مصطفى كوبين من القهوة، كان يقطع حديثهما بين الحين والآخر قيام مصطفى من مكانه لقضاء بعض الأعمال الصغيرة أو عندما يلحظ أحد زبائن الفندق فى الاستقبال.

فى هذه الساعة من الصباح، و خاصة بعد انتهاء موعد الافطار، يصير الجو هادئاً والحركة قليلة، قال عماد بعد سؤال مصطفى، أنهم سيغادرون الفندق غداً صباحاً إلى مدينة Delft بالباص ومنها إلى بروكسل ثم العودة للقاهرة.

شعر مصطفى بعدم حماسة أو رغبة محدثه فى متابعة الرحلة مع الفرقة لنهايتها، فقال له، إنه يمكنه أن يبقى رد عماد قائلاً إن فكرة البقاء ليست مشكلة، لكنه يرغب فى الذهاب إلى مكان آخر، لايعرف أين ولا حتى لماذا يود ذلك هناك شىء ما بداخله يدفعه لعدم العودة للقاهرة.

ولماذا لاتجرب وتزور مدينتى؟ سأل مصطفى مبتسماً.

– مدينتك؟

– تطوان.

أخبره إنه يمكنه السفر من بروكسل للدار البيضاء ومن هناك إلى تطوان، وأضاف أن له صديقاً هناك يعمل فى نادٍ ليلى، يستطيع مساعدته لو رغب فى العمل، سرح عماد وفكر لدقائق، لكن لم يتوصل لقرار مع ذلك شكر مصطفى وقال إنه بعد انتهاء الحفلة الثانية سيأتى ويتكلم معه ثانيةٍ.

***

تغطى المساحات الخضراء الطريق إلى Delft، أشجار كثيفة، جداول بين الأشجار، قنوات مائية صغيرة تغطيها الطحالب، مراعى بقر وافيره واسعه، ثبت عينيه على الطريق لدقائق ثم استرخى فى كرسيه وأغمضهما بعد أن أصبحت المناظر والأماكن، على الطريق، تشبه بعضها بعضاً.

كان يفكر فى الخطوة القادمة، قبل مغادرتهم فندق امستردام، كان قد تحدث مع مصطفى وحصل على ما يحتاجه من معلومات، كان قد قرر الذهاب إلى تطوان، ساعده مصطفى عبر اتصاله بأحد أقاربه، الذى يعمل بالقسم القنصلى فى سفارة المغرب فى بروكسل، لتسهيل وتعجيل إجراءات الحصول على تأشيرة سياحية للسفر إلى الدار البيضاء لكن هل يمكن أن يفضى تغيير الأماكن إلى شىء جديد ؟، وهل المشكلة فى المكان أم فى الناس أم فيه هونفسه ؟

– وصلنا

– هزه حسام برفق كى ينبهه.

 ننزل نتمشى شوية وناكل، وبعد كدا على بروكسل .

آثرأن يبقى فى الباص، فى داخله قناعة أن هذه المدينة أو تلك من مدن أوربا ليس فيها، ما يثير اهتمامه أو يلامس شيئاً عميقاً بداخله، تركوه ونزلوا، ليبقى مع أفكاره وأحلامه، وذلك اللحن العصى الذى راح يتشكل مرة، على هيئة امرأة فيها كل الصفات التى يحبها، و مرة ثانية كهيئة طفل يعدو ويضحك، وثالثة كشمس تشرق وأحلام تتحقق، لكن لماذا لايستطيع أن يقبض عليه ويحوزه، ليعرف طريقه وتنتهي حيرته، كما تنتهي موجة بحر هائج على شاطىء منبسط؟

***

وصل الباص إلى مكان ما قريب من الفندق الذى سيقيم فيه عماد، نزل بعد أن ودع حسام وأعضاء الفرقة، و دخل الفندق باتجاه قاعة الاستقبال، أنهى إجراءات التسجيل وأخذ مفتاح غرفته بالطابق الأول، على مسافة أمتار من مكتب الاستقبال.

دخل الغرفة، وضع حقيبته وخرج، توجه سريعاً لمبنى القنصلية المغربية للحصول على التأشيرة وأداء الرسوم المالية، ثم أخذ يتجول فى وسط المدينة، زار الأماكن والمعالم الشهيرة، وظل يتجول حتى وجد نفسه أمام مطعم صغير، طليت جدرانه من الداخل و الخارج بلون برتقالى وكل من يعملون به ملامحهم هندية.

لم يلمح فى المطعم أحداً سواه وشاباً وفتاة، عرف بعد أن تكلم معهما أنهما من سنغافورة ويقضيان شهر العسل متجولين فى مدن أوربا، عرضا عليه تذوق طعامهما، وقال إنهما يأتيان لهذا المطعم منذ أيام، لجودة طعامه ورخص أسعاره، لكن العاملين يتأخرون فى تلبية رغبات الزبائن المنتظرين.

– وأين هم الزبائن، لايوجد أحد غيرنا!

ضحكا بسبب تعليقه، ومد الشاب له يده بطبق سلطةن بعد مغادرته المطعم، استمر بالتجوال حتى وصل إلى حديقة كبيرة، شعر بالراحة، وفكر فى فرادة المكان، بأشجاره الكبيرة والنافورات العملاقة، والورود والزهور التى لم ير لها مثيلاً من قبل، جلس قريباً من إحدى النافورات، يتابع انبثاق المياه إرتفاعاً ونزولاً والأطفال وهم يلعبون، وفتيات وشبان يتجولون هنا وهناك، أحس بحالة من الاسترخاء فمدد جسمه على دكة خشبية، غرست خلفها شجيرات ورد أغمض عينيه وبدأ يلاحق دبيب شىء مابداخله، نغمة تعقبها نغمة، إيقاع خافت، يعلو، يخفت، يعلو ثانيةٍ، يتماسك الإيقاع لحظات ويتلاش، نغمة ارتجالية، نصف جملة، جملة، تتداخل الأنغام ويضيع

الإيقاع والانسجام، و يشعر بقطرات المطر تسقط على وجهه ورأسه، يفتح عينيه فيرأى السماء وقد غطتها السحب، ثم ينهمر المطر.

***

حطت الطائرة فى مطار كازابلانكا التاسعة صباحاً، بعد أن انتهى من إجراءات الخروج، توجه إلى محطة الباصات واشترى تذكرة إلى تطوان، كان عليه أن ينتظر حوالى ساعتين قبل تحرك الباص.تجول فى المدينة، تناول وجبة سريعة وعاد إلى موقف الباصات، أظهر تذكرته للسائق، دخل، جلس فى كرسيه ونام.

استغرقت الرحلة أكثر من ثلاث ساعات توقف الباص، فأخذ حقيبته ونزل، باحثاً عن تاكسى، ليقله إلى الفندق الذى حصل على عنوانه من مصطفى. أحب المدينة من أول نظرة .

وقوعها بين مرتفعات وجبال وضفاف البحر المتوسط، جعل لها طابعاً خاص، المبانى وسط المدينة على الطراز الأسبانى، لم يعد يشعر بالتعب، توجد مدن تبعث طاقة جديدة وتدفع الإنسان لاستكشافها والذوبان فيها، وصل إلى الفندق، أخذ مفتاح غرفته من مكتب الاستقبال وصعد للطابق الثانى، وضع حقيبته وخرج، غادر الفندق إلى وسط المدينة، كان المساء فى أوله، شد

انتباهه، رمز المدينة، الذى ابتكره نحات أسباني، تمثال لحمامة بيضاء، تبسط جناحيها كأم حنون أو فتاة عاشقة، استمكل سيره حتى سور المدينة القديم، حيث جلس على مدرج صخرى قبالته مبنى أبيض مكون من طابقين عليه العلم المغربى، تنبعث من المبنى موسيقى أندلسية لتملأ أرجاء المكان .

أدرك ومن خلال متابعته الداخلين للمبنى، أنه عرس، أما الموسيقى والغناء، فيعودان لموشح أندلسى، كتراث، لايزال ساكنى المدينة يحتفظون به، ضمن أشياء وعادات أتى بها أسلافهم وجدودهم، عندما نزحوا إلى مدن شمال المغرب، بعد إجبارهم على الرحيل من الأندلس.

***

فى طريقه عائداً إلى الفندق، تذكر النادى الليلى واسم صديق مصطفى، ذهب وسأل، لكن أخبروه من يعملون فى المكان أنه ترك العمل منذ فترة، لم ينزعج لسماع ذلك، لم يأت للعمل على إية حال ، صعد درجات سلالم قليلة ودخل قاعة، الإضاءة فيها خافتة، كان عدد اً من الزبائن يشربون ويدخنون، يبدو أن المكان نادٍ ليلى وحانة فى نفس الوقت، رأى فتيات بصحبة رجال، ونساء وفتيات يدخلن إلى الحمام بملابس ويخرجن بملابس مختلفة وأشكال مغايرة، عثر على مائدة شاغرة، لم يلحظ بسبب خفوت الإضاءة أن هناك فتاة تجلس عن يساره وتشاركه المائدة، وجه الفتاة جميل، تلبس قميصاً أسود يكشف ذراعيها الممتلئتين، سمعها تتحدث مع الجرسون هادئة، تتكلم بصوت خفيض وناعم، عندما بادر بالحديث معها، تفاجأ، بالاختلاف بين هدوئها وخفوت صوتها ونعومته، وبين عينيها اللامعتين المغنجاتين، المترعتين بالشهوة، تواصل الحديث بينهما حتى بدأت الموسيقى تعلو والحركة تزيد، صار الكلام بينهما متعذراً، بسبب سماعات الصوت

الصاخبة، اقترح عليها أن يخرجا ليجد مكاناً آخر، فاعتذرت وقالت أنها تنتظر صديقة، كتبت اسمها ورقم تليفونها فى ورقة صغيرة، وأعلمته إنها ستكون فى نفس المكان مساء الغد.

***

فى اليوم التالى ركب سيارة إلى شاطىء البحر، وقضى النهار يأكل ويشرب بمطعم قرب الشاطىء، ثم يعود لمكانه، جلس لساعات يحدق بالأفق والأمواج، من الذى قال إن علينا الإبحار وسط العاصفة ؟، لايذكر، وأيضاً لاضرورة للإبحار وسط العاصفة أو السكون، لكن هل الموجة عندما تصل للشاطى تكون استقرت ورجعت لموطنها أو هو نوع من الاستسلام والموت أو ربما بداية لشىء جديد ؟، وذلك اللحن أين هو الآن ؟.

حكى له أبوه عن رأى زكريا أحمد، الذى قال إن اللحن يرتاد الحدائق ويسير فى الشوارع، ويركب الترام، وينصت إلى صافرة الكمسارى، أو يتبع بائع ذرة مشوية يترنم بالإعلان عن بضاعته، لكن يبدو أن الشيخ زكريا نسى أن اللحن فى بعض الأحيان كالظل، ما أن تبتعد عنه حتى يطاردك، إذن ليأت هذا اللحن، راكباً الترام أو ممتطياً صهوة جواد أو موجة من أمواج هذا البحر، وهذه المدينة أليست لحناً من الألحان؟، والجبل والتلال الزاهية والبحر وتلك الفتاة ربيعة، التى تكلم معها أمس، بعض نغمات لهذا اللحن ؟

عاد إلى الفندق ليستريح حتى موعد لقائه معها.

***

جلسا فى ركن من النادى الليلى، طلبا زجاجتى بيره، دقائق ووضعت البيره وأطباق المزه أمامهما، دخلت صديقة ربيعة للقاعة، اقتربت منهما وحيتهما وجلست جوار ربيعة، سمراء، تميل للامتلاء وتتحدث بسرعة، لم يفهم سوى كلمات قليلة، رأى عينى ربيعة تتسعان وتبتسم بدهشة وهى تضع يدها على فمها، مانعة نفسها من الضحك بصوتٍ عالٍ، لمح على اليسار شاباً جالساً

وجواره فتاة، كان يضع يده على كتفها ويقبلها، و أمامهما جلست فتاتان أخريان، لم تستطع ربيعة السيطرة على ضحكتها، فخرجت الضحكة بصوتٍ عالٍ بينما صديقتها تعطيها علبة خشبية متوسطة الحجم قبل مغادرتها، كان على وشك سؤالها عن سبب ضحكها، إلا أن الفقرة الغنائية بدأت.

– إيه رأيك نخرج؟

– فيين ؟

– مطعم أو كافييه فى مكان هادىء صافى.

بعد تناولهما طجين لحم مع سلاطة وخبز فى مطعم يطل على سور المدينة القديم، ذهبا إلى إحدى الحانات بناء على رغبة ربيعة، تحب شرب البيره بعد الطعام، شربت زجاجة واثنتين وثلاث، بينما هو يتابع طريقة شربها وحركات يديها وملامح وجهها وعينيها، ويشرب ببطء، فقط بعد احتسائها الزجاجة الثالثة حكت عن حياتها: من أسرة متوسطة فى القنيطرة.

ذهبت إلى الرباط والدار البيضاء وعملت فى بعض الاعمال المتاحة، غير أن العائد لم يكن كبيراً، جاءت إلى تطوان بعد أن كلمتها، بالتليفون صديقتها التى نصحتها بالمجىء للعمل معاً، أحبت المدينة واعتادت على الخروج والسهر والمرح وشرب البيره.

كانت تحس بالنشوة، عندما كان يثنى شاب أورجل على جسدها وجمالها، ولم تكن تحس بأى تأنيب أو مشكلة، فى أن تهب جسدها، لشخص ما شرط أن يعجبها، ورائع أيضاً أن تحصل على هدية ما أو بعض المال، ليكون ذلك بداية علاقة أو انتهاء علاقة، تجاوزت الساعة الثانية صباحاً،

غادرا الحانة إلى غرفته فى الفندق، ربيعة كانت فى حالة طرب وبهجة، فشرعت تغنى لمغنية شعبية من الشيخات،” ترمتى كبيرة وطبونى زوين تبغا تحوينى أنا موجودة”، ثم خلعت ملابسها وتمددت عارية على السرير.

جسمها وكلمات أغنيتها التى فسرت له معانيها، أصبحا كلحن مثير لعماد الذى، اشتبك مع جسدها فى معركة لذيذة: oui oui يالا حبيبى آه آه زيد زيد كل شى كل شى أوف أوف حلو حلو حلو آه آه آه، خفت صوتها رويداً رويداً، واسترخى جسمها ثم قامت ودخلت الحمام، عادت بعد قليل وجلست تمشط شعرها، وبعد أن فرغت وضعت المشط فى حقيبتها واستلت منها تلك العلبة الخشبية الى أعطتها إياها صديقتها، نظرتْ للعلبة وما بداخلها وضحكتْ.

مد يده ليأخذ العلبة منها، داخلها يرقد سيجار من النوع الكبير الفاخر، سألها لماذا تضحك؟ فقالت إنها من صديقتها، وهى تحتفظ بها حتى تلتقيان وتعطيها لها ثانيةٍ، لكن ما المضحك فى هذا؟

كانت الحكاية قد بدأت مع صديقتها، عندما التقت شاباً زويناً يجلس بجوارها فى النادى الليلى، وتبادلا الحديث ثم غادرا النادي وقاد سيارته وهى جواره إلى شقته الفاخرة، تركها فى غرفة النوم، دخل الحمام ليرجع بعد دقائق عارياً، كادت هي الآخرى أن تخلع ثيابها، لكن الشاب أوقفها وقال لاداعي.

فتح درج مائدة صغيرة لصق السرير، و التقط منه علبة سيجار وأعطاها إياها، استلقى على بطنه، وبعد أن قامت بفعل ما طلبه منها، منحها ألفى درهم وعلبة السيجار كتذكار، وهاها ها ضحكت ربيعة للمرة الثالثة أو الرابعة، لكنها عندما رأت وجه عماد وصمته اقتربت منه وسألته أن يخمن الثقب الذي دخل فيه السيجار، فلم يجب فمالت على أذنه لتخبره، ضحك عماد وضحكت ربيعة، وتعانقا وتبادلا القبلات وألقيا بنفسيهما على السرير، التحما الجسدان بعنف وذابا دقائق فى مقام اللذة ثم راحا فى نوم عميق .

استيقظ بسبب ضوء الشمس القوى الآتى من النافذة، كان قد نسى ليلة البارحة إسدال الستائر، رأى ربيعة إلى جواره شعرها الأسود متناثر على الوسادة، ذراعاها المستديران الممتلئان يتحركان بليونة، عندما تستدير يميناً ويساراً، دفعت الغطاء بعيداً كاشفه عن ساقيها، فخذيها، وامتلاء ردفيها وثدييها، حرارة رقيقة تنبعث من جسدها، لم يعرف أيهما الأكثر جمالاً، جسم ربيعه أم ضوء الشمس الذى غمرالغرفة ؟

حبات عرق تنساب على بطنها وتنزل إلى الأسفل، كسهم يشير لكهف العسل، ياالله هل هذا حلم أم يقظة ماذا يحدث ؟ كانت النافذة قد أخذت فجأة فى الاتساع والتمدد ليدخل منها فارس ممتطياً حصانه، قادماً من وراء الجبل، نظر الفارس له بحنو وتدفق من يده الممتده نور لامتناه، صوبه على عماد فحمله خفيفاً خفيفاً، كلحن سرمدى، إلى بعيد .

 

كاتب من مصر مقيم في النرويج

[email protected]

 

SHARE