
يعتبر الشاعر البلجيكي الكبير إيميل فارهران (1855-1916) واحدا من أهم رموز المدرسة الرمزية الفرنسية. وسياسيا كان مساندا للحركات الأنارخية التي كانت تنشط في مختلف البلدان الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. س افر كثيرا عبر أوروبا لإلقاء شعره، أو لتقديم محاضرات. وترجمت قصائده إلى العديد من اللغات. وقد ارتبط إيميل فارهران بعلاقات صداقة وطيدة مع كبار الشعراء والفنانين والكتاب في عصره مثل أندريه جيد، ستيفان مالارميه، ديلاكروا، راينر ماريا ريلكه، وستيفان زفايغ الذي قام بنقل قصائده إلى لغة غوته.
في عشق الطبيعة والحرية
منذ الصباح، خَلَلَ طرقاتي الكبيرة المُعْتادة
التي تخْترقُ الحقول والبساتين،
أمضي واضحا وخفيفا، والجسد مُسَرْبَل بالريح والنور،
أمضي من دون أن ادري إلى أين… فقط أنا سعيد
في صدري عُرْس وفرح
ماذا تعني لي القوانين والنظريّات
الحصى يرنّ ويلمعُ تحت قدميّ المُعَفّرتين بالغبار،
أمضي بكبرياء العاشق المُتيّم للهواء والأرض،
وبأن أكون هائلا ومجنونا،
وأن أمزج العالمَ وكلّ شيء
بنشوة الحياة البسيطة
آه… يا للخطوات المسافرة والمضيئة لقدماء الآلهة
أنْدَسّ في العشب الحالك حيث أشجار البلّوط تبسطُ ظلالها
وأقبّلُ الأزهار من شفاهها المُلْتهبة
والأذرعُ السائلة واللطيفة للأنهار تستقبلني.
أستريحُ ثم أمضي من جديد
ولا دليلَ لي سوى الصّدْفة
أمضي عبر دروب تحت غابات أمّضَغُ أوراقها.
يبدو لي أني لم أعشْ حتى اليوم إلاّ لكي أموت وليس لكي أحيا:
آه! يا لها من قبور تلك التي تحْفرُها الكتب
فلتسقطْ فيها الجبهات العسكريّة مهزومة!
قولوا لي، هل حقا وُجدت بالأمس أشياء
وأن عيونا يوميّة نظرت قبلي
إلى الثمار وهي ترقص فرحة
وإلى الورود وهي تتبادل المدائحَ
للمرة الأولى أرى الرياح القرمزيّةَ تلمعُ في بحر الأغصان المُتَشابكة.
روحي البشرية ليس لها عُمْر،
كل شيء فيّ، وكل شيء جديد تحت الشمس.
أحبّ عينيّ، ذراعيّ، لحمي، صدري،
وخصلات شعري الشاسعة الشقراء.
وأودّ عبر رئتيّ أن أشربَ الفضاءَ كلّه
لكي أزداد قوة
آه يا للجولات عبر الغابات، والسهول، والأودية
حيث الكائن يُغنّي، ويبكي، ويصرخُ
ويُجهد نفسه بجنون، وينتشي بنفسه كمن فَقَدَ الصّواب.
على حافة الجسر
ماذا يهم من أين أتى أولئك الذين رحلوا
إذا ما هم سمعوا صرخة دوما عميقة
عند مُفْتَرٌق الشكوك!
جسدي ثقيل، جسدي مُتعب،
أريد أن أيقى، لكن ليس باستطاعتي ذلك.
الكون الشرس نسيج من الطرقات حبَكها الضوء والريح
أن نرحل من دون هدف
أفضل من أن نجلس حتى ولو كنا منتصرين
أمام عملنا المعتاد.
والقلب الكئيب، حياة
لا تنقطع عن القفز خلف الحياة.
في الشمال
بحّاران عجوزان من بحار الشمال
عادا ذات مساء خريف
من صقلية، ومن جزرها الحرة،
بجمع من الجنيات البحريّات على المركب.
بكبرياء سعيد، يعودان إلى زقاقهما البحريّ،
خَلَلَ كتل الضباب الكاذبة،
بكبرياء سعيد يعودان إلى الشمال
تحت ريح كئيبة ورتيبة.
من الضفة كان رجال الميناء
ينطرون إليهم من دون أن يشيروا لهم.
في الحبال على طول السّواري،
كانت الجنيات المغطيات بالذهب
تلوين مثل العنب،
الخطوطَ المُتَعَرّجَة لأجسادهن
والناس صامتون
لا يدرون ما الذي يأتي من المحيط هناك
خَلَلَ كتل الضباب.
المركب يندفعُ مثل سلّة فضية
ملآى باللحم والفواكه والذهب المُتحرك،
وهو يتقدم محمولا على أجنحة من الزبد.
جنيات البحر يغنين على حبال المركب،
وأياديهن ممدودة على شكل قيثارة
والنهود منتصبة مثل النيران أمام المساء الصاخب
وهو يحصد على البحر الأضواءَ الليلية.
كانت جنيات البحر تغني
والأجساد مُلْتفّة بالسواري
إلاّ أن الرجال الخشنون والمتجهّمون
لا يَسْمعُوهنّ.
هم لم يتعرّفوا لا على رفقاهم -البحّاران-
ولا على مركب بلادهم
ولا على أشرعتهم المُثلّثة الزوايا
ولا على الأشرعة التي نسجوها،
هم لم يدركوا أيّ شيء من هذا الحلم الكبير
الذي يبهج بحر رحلاته
لأنه ليس نفس الكذبة التي تُعَلّمُ في القرية.
المركب قرب الضفة
مرّ مُغْريا إيّاهم بعجائبه
من دون ان يتمكن أحد من بين الكرم المُعْتَرش
أن يقطفَ الثمارَ من اللحم والذهب.
إلى بلجيكا
هذا القصيدة التي تضمّنته مجموعة” الأجنحة الحمراء للحرب”، كتبها الشاعر بعد أن احتل الجيش الألماني بلجيكا خلال الحرب الكونية الأولى:
وأسفاه، منذ أيام المعارك المجيدة،
رفيقاك الخوفُ والحظّ العاثرُ،
ولم يتبق من البلاد غير قطع من الكثبان
وسهول تحترق هناك في الأفق.
“أنفار” و”غراند” و”لييج” و”بروكسيل” و” بروج”
اجْتثّثن منك وهن ينحْن هناك بعيدا
من دون أن تكون عيناك اللتان لا تزالان جسورتين
شاهدة عليهن
ولا ذراعاك اللذان لا يزالان مُسلحيْن
ملجأ لهن.
أنت التي في الحداد الكبير تعيشين مع البحر
لكي تتعلمي منه كيف تصمدين أمام العواصف
وتحلمين، وتبكين، لكنك تُعاندين
في الرعب، وفي كبرياء هزائمك.
أنت تشعرين أنك عظيمة حتى وأنت مهزومة،
أنت كنت وفيّة وواضحة وصارمة
مثلما في الزمن حيث الشرف
تحت السماوات يتجلّى ساطعا
وحيث المجد جدير بأن يُعاش.
ركنك البائس من الأرض يظل منتصبا،
وفي مواجهة العاصفة الهوجاء، وملك بعقيدة راسخة وقوية،
أنت لا زلت تُعمّرينه بالمدافع وبالجيوش
كي تحتفظين به في ظلّ المأساة حتى النهاية.
أنت تنتصبين عاليا حدّ أن تكوني وحيدة
في الجمال، وفي المجد، وفي الألم،
كل واحد يُمجّدك وبك يهيمُ،
كما لم يفعلْ أيّ شعب آخر في العالم.
هذا الحب لا يبالي بكرْب مصيرك
ولا أن تكون “بابراس” قاحلة، و”ديكسموند” خرابا وأطلالا،
وأن يكون فارغا وأجوفَ مثل ظل صدر،
برج الإنذار الهائل مرتفعا في عمق المساء.
في هذا الوقت الذي لا يزال فيه الرماد وطنا
نحن نحبه جاثمين وبحماس
نقبّلُ كل حجر مُهشّم ومرْضُوض
من الجدران المحطمة والمرتجة.
وإذا ما غدا أكملَ الألمانيّ الماكر المجنون
عضّك باحتضانه المُتَجهّم
يا بلجيكا العذبة المعشوقة
فحافظي على الأمل، وكوني على يقين:
بلادك التي اغتصبت، أبديّة في قلوبنا.
حول بيتي
لكي أعيش واضحا، صارما وعادلا
بكلّ قلبي أحبّ كل شيء
يَنْفعل، ويغْلي في الطافة البشرية وعلى
الأرض الجليلة.
الشتاء مضى وها مارس ثم أبريل
ثم الصيف المُبًكّرُ فرحا وطفوليّا.
على الحُلْوَة المُزْهرة التي يبللها الندى،
حمراء، خضراء، صفراء، سمراء، سَخْمَاء، فضيّة مُذَهّبَة،
آلاف الحشرات تتحرك وتجمعُ مؤونتها تحت الشمس.
آه يا لروْعَة أجنحتها التي تلمعُ،
ويا لروعة أجسادها الدقيقة مثل إبرة،
وأرجلها وزُبَانها
واستحمامها اليومي على عُشْبَة إلى على قَصَبَة
كم هنّ دقيقات وسريعات!
كوْسَلُها الذي من زهْو ألوان هشّ
مُتَغَيّرا أكثر من تيّارات المياه،
بفضل عينيّ التي تعكسها
أشعرُ أنها تعيش وتلجني قليلا.
آه يا لمعاركها وألاعيبها وهيجانها
وآه لقصص حبها وانفعالاتها
ومعاركها حول العناقيد البنفسجيّة،
قلبي يُتابعها في صعودها نحو النور،
ذُرارات إشراق، فتات جمال،
قطع صغيرة من الذهب وغبار حياة!
أبْعدُ عنهن الفخّ الذي لا يشبع ، والطين، والدّبَقَ، ومُلاحقةَ الطيور،
على مدى أيام بأكملها أدافع عن أعمالها،
فنّي يَنْجذبُ إلى أعمالها المُكّتَمَلَة.
أتأملُ تلك الأشياء التافهة التي تبني بها بيوتَها،
وحركتَها النافعة والواضحة،
وطيرانَها الواثقَ والمُتَصيّد،
ورحلتَها في النور من دون شراع،
وحين تضيعُ في مكان ما من السماء،
أظن أنها انطلقت لكي تختلطَ بالنجوم.
لكن ها الظلّ والشمس على الحديقة
وزَنَابيرُ تتَماوج هناك في الضوء،
وها الدروب الطويلة الواضحة والمنيرة والمُتًَعَرّجة
على جنَبَاتها خَشْخَاش ثقيل وورود بريّة.
هذا اليوم وقد انبسطَ الصيف على العشب اللامع
وعلى الهضاب الصّهْبَاء،
كلّ تُويْجة مثل جفن خُبّازي
يلجه النور وفيه يُشيعُ الحرارةَ مُرْتَجفا.
الأقل كبرياء من الوزيم، والأقل تواضعا من الأوراق
هو من رسم صاف، وجدّ صارم وجدّ مُنْفعل
حتى أن كل شيء فيها يَهْرَعُ ويستقبلُ
المديحَ الواضحَ والعاشقَ للعيون.
شهور يوليو الشقراء رحلت بدورها،
وها أن الشمس والمطر الناعم
يُلامسُان باسترخاء الأزهارَ من دون أن يُمزّقُا أوراقها،
مثلهما، من دون أن نقطفها، لنُقّرّبَ أفواهنا منها
وليكبرْ قلبنا وهو يُقبّلُ جمالها
المجْبُول بكثير من السعادة وبكثير من الغريب،
لنقبّلَْ بحرارة ومتعة ولذة شفاهَ الأرض.
الحشرات، الأوراق، الأزهار، الأغصان
تَضْفُرُ حياتها المُطوّقَة والضئيلة
في قريتي، حول الحقول والبساتين الصغيرة.
بيتي المُتواضع حبيس شباكها.
أحيانا في الظهيرة، قبل الغروب،
من نافذة إلى نافذة على طول الصنوبر المستقيم،
تضطربّ وتُطلقُ أصواتا تصل إلى سقف بيتي.
أحيانا أخرى، حين يتراجع الكوكب إلى الغرب،
أسمع عاليا حمّاها وهيجانَها
لكي أشعر أني أعيش بقلبي
كما لو أنني في أوار الاحتدام.
عندئذ تلفني الحشرات الواهية
بملايين الأجنحة المجْبُولة من الريح، ومن المطر والنور.
بيتي يبدو شبيها بعشّ مُشتهى
من كلّ من يتحرك ويعيش في النور.
أهيمُ بالطبيعة المُطلقة
من الشجرة الصغيرة حتى الشمس الهائلة.
تويْجة، وزيم، حبة قمح سمراء،
كلها تكون مُهابة ومُحترمة بين أصابعي التي تعشقها.
لا أفرّقُ بيني وبين العالم،
فأنا الأغصان الكبيرة
وأنا الأغصان المُتَمَوّجة
وأنا الأرضُ التي ألامس حصاها بقدميّ
وأنا عشبُ الحفر الذي فيه أسترخي
نشْوانا وذاهلا ومُنْتَحبا.
حسونة المصباحي، كاتب ومترجم تونسي،