
في الطريق اليهم كان عليه ان يعبر الجسر، كان ليلا خريفيا ودجلة تلوثت مياهه من جراء بقعة من النفط حتى انتشرت رائحتها عبر الارجاء ولوثت مشاعر جميلة ظلت تخلفها رائحة ضفاف دجلة عبر عقود . في تلك الامسية خفتت اصوات النوارس نهائيا، تلك التي كانت مثل موسيقى تصويرية للنهر، كما غاب الناس في بيوتهم بعد سلسلة تفجيرات ضربت ارجاء العاصمة وسط صراع لا تعرف مبتداه ولا منتهاه .
لاحت له بغداد عبر المسافة الممتدة الى الضفاف البعيدة مدارا هائلا لتواريخ اندرست وتواريخ تعيد نفسها، سنابك خيل وفاتحين وغزاة واباطرة وسلاطين ودسائس ومؤامرات وغزوات ودماء وفن وابداع ورقص وغناء وشعر وموسيقى وفلاسفة .يااااه متحف هائل لايُعرف مداه . زعق شرطي المرور واندفع طابور السيارات المتكدسة عند نقطة تفتيش محاطة بالكتل الخرسانية الضخمة، وبدأ ليل بغداد يزحف على المباني الواطئة والاشجار المتراعشة حتى كوّن غلالة كحلية اضافت للمشهد الصامت غلافا شفافا. مرّ بالدروب القديمة وتناهت له اصوات صِبية في نهاية الزقاق، توقف امام الباب الذي تقشّر وبهتت الوانه، طرق الباب، انفتح واطلت هي، صمت الكون من حوله، وهي بدت صامتة كتمثال، عقدت الدهشة كل حواسها، ونزلت دمعتان من عينيها ثم ارتمت عليه، احتضنته وراحت تشمه وتقبّله فيما اغمض عينيه ولاحت له صور سريعة لشقيقته الصغرى التي امامه الان التي تربّت وكبرت على يديه .قادته من يده .. واجلسته على اريكة واطئة فيما هو ناولها كيسا فيه الحلوى والمكسّرات. جلست قبالته على الارض وهي ممسكة بكفّيه ..تتأمله وهو مطرق بلحيته الكثة ونظارته الطبية.
” ليش .”
ولم تكمل اذ تكدست الحروف والكلمات في صدرها ولم تقو على اكمال حروفها ..
دارت عيناه في المكان .حاملا كوب الشاي، فيما هي تحدثه كيف تغيّر كل شيء في المدينة التي فارقها منذ 30 عاما، وراح يسأل عن الجيران : ابو سلام الشيوعي، ام ياسين الكردية، حسنين ابو الكباب، فاضل لوزينة، وضحك معها على سلسة الاسماء والالقاب والكنى التي التصقت بالناس الذين سرعان ما تفرقوا بحسب هوياتهم الطائفية رغما عنهم وتمترسوا خلف الجدران الكونكريتية منقطعين عن جذورهم وفضاءاتهم التي عاشوا فيها .
منال .مناااال .وتدفقت حروف الاسم رغما عنه، وارتجفت يده التي تحمل الكأس وخرجت اخته من الغرفة المجاورة ورمقته نظرة فهم مغزاها .
“.انتظرتني طويلا وانا تخاذلت عنها. اعلم ذلك ” ..
ظل يدور في المكان حتى لاحت له صور والديه واخوته .
دارت الجدران من حوله والمروحة تدور وتدور وهو يدور على خليط من اصواتهم، ضحكاتهم والعراك والخصومات , صوت الاب يدوي في رأسه، ورائحة حضن الام تلامس روحه .عندما اوقفت هي دورته تلك .
” ومن الذي لم تخذله وتتخلى عنه، منال، اخوتك، امك، ابوك، الكل خذلتهم، كان بأمكانك ان تكون خيمة لنا، لكنك في خصوماتك معهم ضاعوا في هذه الدنيا وقد فقدوا بوصلتهم، لماذا بربّك جعلتنا ان ندمن عليك ثم تخليت عنا؟ خذ هذه كتبك ونظرياتك العظيمة هذه صناديق العلم .واما هذه فرسائلك الكاذبة الى منال، ياسلام على الرومانسية والوفاء .ابقيتها تعيش في سراب امجادك العظيمة القادمة . وانا . انا التي آمنت بك . يتقدم لي فلان وهذه رسائلك .من يكون هذا؟ لا يليق بك؟ فلان؟ لا هذا شخص وضيع ليس بمستواك.. فلان.؟ لا هذا كذا وكذا .حتى ضعت في عالمك وانا ابحث بينهم عن صفات تشبهك لعلّك ترضى كي تهنأ روحي وتستقر نفسي بعد ان غادر الجميع . لكنك كنت في منفاك مع صديقاتك وسهرك ..واشعارك ونظرياتك تصنع عالمك الخاص .هذا انت . سقيتني كل القيم العالية ولكنك لم تكن غير اناني صغير . للأسف جاء الاكتشاف متأخرا .”
اشتدّ القصف على رأسه وأصمّ اذنيه وراحت اصداء كلماتها تدوّي في المكان ..وهي تدور من حوله مثل لبوة جريحة ..ونشيجها يختلط بكلماتها .
“كلمة اخيرة . انت لا تفهم معنى الحرب، دمار النفوس وخرابها، لكن الحرب تسرّبت الى مساماتنا، ولهذا تساقطت الخصال الافتراضية العظيمة التي كنت تسبغها على رجل افتراضي ستقبله شريكا لرحلة الشقاء .لكنني انا التي قرأت العالم صح، وليس انت . ستشاهد كائن الحرب . الذي اعطى صدره لها لكي يحميني ..لكنه فقد ساقه من اجلي ..”
انفتح الباب، اطلّ رجل اربعيني يسير على عكاز. وقف الاثنان امامه. والى جانبهما صبيّة صغيرة تشبه امها .
مدّ يدين متراعشتين لمصافحة الرجل او الفتاة الصغيرة لكن احدا لم يبدِ ردّ فعل.
استطال الزمن وحلّ ليل بهيم ثقيل. نسي اين هو والى اين؟ جرجر خطاه عبر الازقة في الليل الجاثم والشوارع المقفرة . فيما بقيت هي ترمقه بعيون دامعة. وتصرخ وراءه. حظر تجوال. حظر تجوال ..ودوى صوت الحراس المدججين بالسلاح في وسط الظلام.حظر تجوال. ارجع .ارجع
عاد الى الزقاق. دخل ممرا طويلا . يلوح في نهاياته مصباح شاحب .جلس متكورا هناك واغمض عينيه. محاولا نسيان كل شيء.