قصص بمرارة الإحباط والفشل والخيبات
تعرفت على كمال الهلالي وهو لم يتجاوز بعد سنّ المراهقة. والرسائل التي كان يكتبها لي وأنا في ميونيخ حيث كنت أقيم، عكست ذكاء وقّادا، وعشقا للكتب، ورغبة في أن يكون شاعرا ذات يوم. وفي التسعينات من القرن الماضي، نشر هنا وهناك قصائد دلّت على موهبة واعدة، وفهما جيدا لفن الشعر. ثم جاءت فترة كتلك التي يسميها الفرنسيون La traversée du désert (أي اجتياز الصحراء).

حيث لم أعدْ أجد أثرا لكمال الهلالي في المجلات، وفي الملاحق الثقافية التي اعتاد أن ينشر فيها بعض النصوص والترجمات. ولعل السبب يعود إلى أنه عاش خلال سنوات عدة حالة من الإحباط جعلته ينقطع عن دراسة الحقوق بالجامعة التونسية، ويعود إلى حفوز الواقعة غرب القيروان ليعيش الوحدة والعزلة المختارة. ومن المؤكد أنه انقطع عن الكتابة، لكنه لم ينقطع عن القراءة. وهذا ما تأكدت منه حين عاد في العقد الأول من الألفية الجديدة للدراسة والعمل في الصحافة بعد أن تجاوز سن الأربعين، وبان الشيب في مفرقيه. وبين وقت وآخر كان يقرأ لي قصصا وقصائد تعكس نضجه، وثقافته الواسعة. مع ذلك لم يكن يقبل على النشر مثلما يفعل أبناء جيله. وكان دوما يقول: “ليس مهما أن ننشر كتبا… بل أن نكتب ما يرضينا ويرضي القراء” .
وقد أرسل كمال الهلالي قصصه إلى دور نشر تونسية إلاّ أن حسابات أصحابها الضيقة أبطلت إصدارها لسبب وحيد وهو أن كمال الهلالي حافظ على حيائه الريفي فلا يُلحّ كثيرا، ولا يقبل البتة التنازل عن كبريائه الأدبي. وفي كل مرة، تمتنع فيها دار نشر عن اصدار مجموعة قصصية له، أو ترجمة لمختارات من قصص الكاتب الإيطالي الكبير دينو بوزاتي، لم يكن كمال الهلالي يغضب، أو يستنكر الاجحاف، والظلم، بل كان يصمت مكتفيا بالرد بابتسامة حزينة توحي بأن صاحبها يعلم جديدا أنه قد يكون جاء في زمن غير زمنه…
وفي مطلع خريف العام الحالي، أصدر كمال الهلالي عن دار “ميديا” لنادي الصحافة مجموعته القصصية الأولى تحت عنوان:”أحد ما يموت في الجنوب”. وتتضمن هذه المجموعة عشر قصص كتبت ثمانية منها بين عام2001، و عام2008، وقصتان في عام 2015. وربما كتب كمال الهلالي قصصا أخرى خلال هذه الفترة الزمنية المديدة، لكنه اختار في النهاية أن يصدر ما يرى أنه يستحقّ النشر، والقراءة. كما أنه حرص على أن تكون هذه القصص مُتقَنَة لغويا وأسلوبيا بحيث لا نكاد نعثر فيها على ما يشي بالتسرع، أو السطحية. في الآن نفسه، تؤكد لنا هذه القصص أن صاحبها تعب في كتابتها، وفي البحث عن مواضيعها مُتنقلا بين أمكنة وأزمنة مختلفة. وأغلب القصص تدور في مناطق ريفية، أو في قرى صغيرة من البلاد التونسية. قصتان فقط تخيّل الكاتب أحداثهما في العراق خلال الغزو الأمريكي لهذه البلاد في ربيع عام2003 وبعده.
وما يلفت الانتباه أن كمال الهلالي غالبا ما يسلك في قصصه سلوك الباحث في علم النفس، أو في علم الاجتماع لكنه يتجنب الجفاف العلمي لينقل لنا الأحداث، ويصور لنا مختلف شخصياته إن كانوا رجالا أم نساء أم أطفالا بطريقة شاعرية بديعة. وكذا يفعل مع الطيور والأشجار ومشاهد الصحراء والهضاب والجبال، وأيضا مع مختلف الحيوانات الأليفة أو المتوحشة. بل هو لا يَغفل حتى عن ذكر ووصف الحشرات الصغيرة وهي تتحرك من دون أن يعلم أحد وجهتها وهدفها. وليس هذا غريبا على كمال الهلالي المعروف بإقباله الدائم على قراءة الكتب المتصلة بعلم الاجتماع، وبالفلسفة، وبعلم النفس، وبمجالات أخرى قريبة من هذه المجالات أو مُتفرّعة عنها. وما تكشفه قصصه هو أنه-أي كمال الهلالي- عارف بخفايا حياة الناس في الأرياف حيث الفقر، والسحر والشعوذة، والايمان بالخرافات، والخوف من أهل السلطة والنفوذ، وحيث المُحرّمات خصوصا في مسألة الجنس تبسط نفوذها بشكل مرعب. فإن حاول أحد ما، رجلا كان أم امرأة تخطيها، أو التمرد عليها، فإن العقاب يكون قاسيا وشديدا، بل قاتلا أحيانا.
لنبدأ بالقصص التي تدور أحداثها في أرياف، وفي قرى صغيرة من البلاد التونسية. في قصة: “أحد ما يموت في الجنوب” التي تحمل المجموعة عنوانها، نحن نجد أنفسنا بالقرب من الحدود الفاصلة بين تونس وليبيا. وقد فضّل الكاتب أن يظل المتوفي مجهول الصفة والهوية. وحتى نهاية القصة نحن لا نعلم من يكون، ولا سنّه، ولا كيف مات، ولا كيف كان يعيش. لكنه يُفلح في وصف الجو الجنائزي في تلك المنطقة الصحراوية. فالنساء “يتقاطرن على بيت الميُت في ثياب فضفاضة سوداء”. أخريات ” يهيئن القدورَ، ويُقطّعن البصل والخضراوات” لإعداد وليمة الجنازة، أو “الفرق ” (مشتقة من الفراق) كما يسميها التونسيون. وهناك سيارات فخمة تتجول في القرية “الهادئة الجميلة” للتزود بالبنزين المهرب من ليبيا. والشرطي الذي يحرس بوابة الحدود يسمح لـ”سرب من السياح الألمان باختراق السراب”، وكل شيء كان “صامت، متصلبا مثل نبت الصحراء”، و”وسط ولولة الأبدية أحد ما يموت في الجنوب”.
وفي قصة:” نساء يضربن على أكفهن من العجب”، يروي لنا كمال الهلالي القصة المأساوية لفتاة ريفية دميمة، تشبه “الفكرون” (أي السلحفاة”. وهي غبية وساذجة حد أنها لا تكاد تفرق بين الصلحاء والأبرياء، وبين الأشرار والخبثاء من أهل القرية. وهي تألف عنوستها بينما أخواتها الأخريات يتزوجن، وينجبن، وواحدة منهن تزوجت من انجليزي عجوز أخذها إلى لندن مخلفا لها كلبه. لكن ذات يوم، يهدم عليها غريب كأنه شبح، ويغتصبها من دون أن تحاول هي صده، أو الدفاع عن نفسها. وحين تحبل، تثير فضيحة في القرية الصغيرة فتهجرها لتعيش سنوات في بيت اختها التي تقيم في مدينة سوسة. وفي النهاية، تضيق بحياتها هناك حيث لا ثعابين ولا سلاحف ولا طيور فتعود إلى قريتها البائسة على كرسي متحرك بعد أن أصبحت عجوزا هرمة لا يمكن آن يلومها أحد عمّا فعلت.
وفي قصة “أحلام دادا”، نحن نجد أنفسها في عالم شبيه بعالم الخرافات. بطلة القصة امرأة ريفية فقدت كل الأطفال الذين أنجبتهم. وهو دائما يموتون بعد أشهر قليلة من مجيئهم إلى الدنيا. وفي النهاية لا تجد تلك المرأة المسكينة عزاء في فقدان أبنائها المبكر إلاّ في احلامها حيث ترى نفسها وقد سافرت إلى العالم الآخر لتجد أبناءها، وكل من رحلوا من أهلها ومن عائلتها في الجنة. لكن الحياة في الجنة التي تحلم بها لا تختلف عن الحياة في القرية. لذلك تحضر هذه المرأة حفل ختان نجل ابنة عمها الذي رُزقت به في الجنة، وتردد واحدة من تلك الأغاني الجميلة التي تعودت على ترديدها في حفلات الختان العادية.
وقد يختار كمال الهلالي أن يكون بطل قصة من قصصه غراب يحلق فوق قرية مراقبا ما يحدث فيها. وهذا ما نجده في قصة :”الغراب في ظهيرة خريف”. في بداية القصة، هناك الشيخ “جميده” وهو يبحث عن في الحقول عن ثوره التذي يتمتع بقوة فائقة على الاخصاب. لذلك “تحج” إليه كل بقرات القرية. ومحلقا في الفضاء، يشاهد الغراب سطوحَ المنازل التي تُحاصر الحق في “ظهيرة خريف جامد، والصحون البيضاء المستديرة، وحبال الغسيل، وعناقيد الفلفل الأحمر المعدّ للتجفيف. وتنتهي القصة بلقاء الشيخ حميده بامرأة بدوية جميلة تثير شهواته القديمة. أما هي فلا تعبأ به، بل تكتفي بالنظر إلى السماء وتقول: غراب…غراب… وبذلك يُفْلحُ كمال الهلالي في التلميح ببراعة وشاعرية عن ما يمكن أن يرمزَ إلى الجمال والقبح، والشباب والشيخوخة…
في قصة “عام الدجاجات الخمس”، يقدم لنا كمال الهلالي ثلاث مشاهد عن أحداث عام 2011، الذي شهد انهيار نظام بن علي، وانتشار العنف والفوضى في جميع انحاء البلاد. في المشهد الأول، نحن نرافق صحفيا ألمانيا جاء إلى تونس ليكتب تحقيقات عن “ثورة الكرامة والحرية”. وهو يسافر إلى الوسط الغربي للبلاد، وتحديدا إلى مدينة تالة الواقعة على الحدود مع الجزائر، والتي شهدت مواجهات عنيفة ودموية بين قوات الأمن والأهالي خلال الأسابيع التي سبقت سقوط نظام بن علي. وأثناء رحلته، هو يكتفي بمشاهدة ما يرى، مستمعا بشيء من اللامبالاة لما يترجه له الدليل، من دون أن يكشف أفكاره وخواطره للآخرين لأنه ليس “مسؤولا أحيانا عن الأفكار التي ترد إلى ذهنه من تلقاء نفسها”. وخلال رحلته هو يشاهد حرائق في أماكن مختلفة، ويلتقي تونسيين غاضبين، وبآخرين خائفين، وغير مصدقين أنهم أنجزوا “أمورا خارقة” كما تردد وسائل الاعلام في جميع انحاء العالم. وفي مدينة القيروان، أول مدينة إسلامية شيّدت في بلاد المغرب، يصطدم الصحافي الألماني بمشاهد مرعبة. فقرب الجامع الكبير الذي يحمل اسم مؤسسه عقبة بن نافع، هو يرى فوجا من السلفيين بسراويلهم القصيرة، ولحيهم السوداء المرسلة بعناية فيشعر أن فكرة الكرامة وفكرة الحرية اللتين بشّرت بهما “الثورة” التي أطاحت بنظام بن علي قد تكونان مجرد دخان سرعان ما سوف يتبخر في السماء.
في المشهد الثاني من القصة، وصف فنّي دقيق للطريق المتجهة إلى مدينة تالة :”في الطريق إلى تالة، لن نلتقي بقطاع طرق أو بلصوص، سنرى حقولا صغيرة من الرمان واللوز والزيتون والتين، سفوح جبال واطئة، بيوتا متناثرة من الآجر الأحمر، أشاجر يوكالبتوس بجذوع رمادية ذات جروح، على جانبي الطريق. سنلتقي ولدا لم يجفّ على شفتيه خيط من المخاط، وبنتا نحيفة يرعيان قطيعا من الماعز في غابة الصنوبر”. أما في المشهد الثالث فينقلنا الكاتب إلى بيت أم قتل ابنها في الموجهات مع قوات الأمن، فأصبحت تسمى “أم الشهيد”. وقبل الإطاحة به كان الرئيس بن علي قد استقبلها ليعتذر لها. أما بعد ان انهيار نظامه، فإنها باتت تستقبل كل يوم عشرات من الصحافيين التونسيين والأجانب لتروي لهم قصة ابنها المقتول الذي أصبح يلقب ب”شهيد الثورة”. لكن في النهاية تضيق بالصحافيين وبأسئلتهم، ولا تجد مواساة إلاّ في زيارة قبر ابنها حيث نبتت شجرة يقطين “بنبل عفوي”.
في قصة “كلب عجوز إلى درجة لا تصدق”، يترك كمال الهلالي فضاءات الأرياف والقرى التونسية الصغيرة لينقلنا إلى بغداد وهي تعيش تبعات ومآسي حرب الخليج الثانية، راسما من خلال كلب سائب عجوز صورة مرعبة عن مجزرة “ملجأ العامرية” حيث قام الطيران الأمريكي في الثالث عشر من شهر فبراير-شباط 1991 بقصف ملجأ يقع في حي “العامرية مما أدّى إلى مقتل مدني عراقي. ومتجولا في بغداد المنكوبة، يشاهد الكلب العجوز المباني الكبيرة التي تحولت إلى انقاض، والناس هم يموتون تحت القنابل التي تطلقها “طيور حديدية ضخمة”. وأثناء طوافه في أحد البساتين بحثا عن رائحة الأنثى، اخترقت رصاصة طائشة ساقه فعانى من ألم “كبير وشرس”. وعندما يشتد به الجوع، يلحس الدم الذي يلطخ الأرض والأرصفة، بل ويأكل عيون الموتى، ويلتهم ” لحم رأس مرشوقة بين الأحجار المهدمة”. ولما دخل ملجأ ليستريح، سمع جلبة، ثم رأى أناسا كثيرين يتدافعون بحثا عن الأمان. وفي لحظة ما، وقعت الكارثة ليجد الكلب العجوز نفسه وسط ركام من الجثث المحترقة. وفارا من ذلك الهول، توجه إلى النهر لأنه يعرف أن “الأنهار لا تتألم”، وليس لها “خبرة بالرعب”. وهي قادرة على أن تتحدى كل الكوارث، وكل المصائب. لذلك يتحول الكلب في النهاية إلى نهر، ويكف عن النباح…
قصص كمال الهلالي تعيدنا إلى الزمن الذهبي للقصة القصيرة بشاعريتها البديعة، ولمحاتها الذكية، وتكثيفها للأحداث، ودقتها في رسم صورة للشخصيات بحيث لا نتردد في القول بأن كل قصة من قصص مجموعة:” أحد ما يموت في الجنوب” قطعة فنية لا تحتاج لا إلى زيادة، ولا إلى نقصان.