“أيها الصديق.. منذ عرفتك وأنت تتطلع إلى أقدام الناس لتتبع الخطو، ولا تعلم أن أجود الأحذية هي التي تحكي عن سكانها. إن الإنسان الأول لم يلبس الحذاء لكنه أحس بجاذبية، في أن يمتلك حذاء طويلا”. (هـ. ن)

إن وظيفة الظواهر تكمن غالبا في كشف السياقات قبل أن ندرج نتائج الحدث الذي سيجعلنا نشك في سلامة عقل روبرتو بادوباني. لا أحد يتصور مهما يكن أن روبرتو يخاطب حذاءه على الدوام بروح الحرص على الفعل الملتزم، على أساس أنه مسكون، وأن روما كلها تسكن حذاءه. فالفردة اليمنى تمثل الناحية الشمالية من المدينة واليسرى تمثل الناحية الجنوبية. ويجب علينا ألّا نترك الأمر عند هذا الحد، إنه من الطبيعي أن ندرج السياقات كما حددنا سلفا بقابلية معقولة؛ إنها تستند إلى ذاكرة دفينة في الطفولة، حالما يحلق عقل الطفل عاليا مقتفيا أثر اليقين. إن المقياس الأول الذي يمكن أن نعتمد عليه دون مغالاة يتحدد في السيدة روزيلا باريزي، معلمة روبرتو في الابتدائية، إذ كانت تنقر بمسطرتها على الخارطة المعلقة على السبورة، فاتحة عينيها مغلبة البياض عن السواد، حتى يدب اليقين إلى الأفئدة الهشة، مرددة: “إن إيطاليا هي الحذاء الطويل للرب، وحالما خلص الرب بعد انتهائه من صنع العالم، وبالضبط في اليوم السابع، عمد إلى خلع حذائه الثقيل طلبا للراحة على هذا الركن. وتلفّت إليه بعين العطف حتى يستطيع الحذاء أن يقاوم ملوحة البحر الأبيض المتوسط. ونظر الرب بعد أن استراح بما فيه الكفاية، منقلبا كأنه يرى هذا الحذاء أول مرة، فمد أصبعه مكان روما ورسم خطوطا تتجه صوبها كمركز يبهر العالم”. لكن، عقل روبرتو الصغير كان يدفعه دائما، كعادة الأطفال المنبهرين بقوة الرب، إلى الأسئلة المغرية: هل كان الرب يشهر مسدسه كذلك على شاكلة رعاة البقر ما دام يملك حذاء طويلا؟ ربما كان ماهرا في رمي الرصاصة الأولى بحذاقة، سواء من على سرج حصانه أو من على الأرض طلبا للمسافة المتوخاة التي يسمح بها النزال قبل أن يرفع الغريم يده. وينتهي صوت المعلمة بنقر إصبعها على المكتب: “هكذا هو الرب إذن، إنه ممنون لإيطاليا التي حافظت على حذائه الطويل”. وخطر لروبرتو، على الأرجح، أن الرب سيستعيد حذاءه في يوم من الأيام. وقد يبدو مستاء من كون حذائه أصبح باهتا ولم يلمّع منذ مدة طويلة. وسيشرع في صنع مواد التلميع من حمم بركان فيسوفيوس. وطفقت تتشكل صورة الرب في ذهن روبرتو بين الصرامة واللطافة، فيتخيل أنه يؤشر له عن تغيير حذائه تماشيا مع الفصول، فإن زمن الفصول يحدد طبيعة الحذاء المزمع انتعاله. فقد رفع روبرتو الحذاء الأول في الهواء، واعترض الرب مومئا إلى الحذاء الخفيف الذي ينسجم مع أجواء الصيف، حتى لا تختنق روما. وتيقن روبرتو من أن للرب متاعبه هو أيضا، إنه يدرك حقيقة الفصول، ويمكن أن يتصبّب عرقا إذا تعرض جسده لفائض من الحرارة، وقد يأخذ دوشه كذلك كل صباح. ربما يفضل شرب الشاي الأسود في وجبة الفطور عن القهوة. وقد يأكل الخبز المحمص المدهون بالزبدة والمربى. إنه لا يذهب إلى المدرسة ما دام قويا وكبيرا. إن كل المعلمين يخافون منه، إنه لا يُختبر في الامتحانات، إنه حرّ وقوي، لا يخاف الظلام والشياطين حالما يضطر إلى التبول ليلا.
الآن يمكن أن نعود إلى لب الظاهرة، بل إلى لب الحذاء. سنؤكد، بالرغم من مرور السنين وحالة الاكتمال بعد ظهور الوظائف الثانوية على جسم روبرتو، أن النضج الحقيقي في نظره أضحى ينغمر في الاقتناع المحمول على إدراج الطفولة على نحو يقبل التطبيق المحسوس. لكن سرعان ما سيتحول المحسوس إلى ملموس مدعوما بالتطبيق المستجيب لحاجيات الخطاب اليومي مع الحذاء، لما تطاولت الفكرة عن وجهة الحنين المتعارف عليه لدى أهالي روما إلى حالة قارة. فقد أقر عمدة روما، في دورة المجلس الربيعية الأخيرة، بأن حالة روبرتو يمكن تصنيفها ضمن حالات الابتذال التي تشهدها المدن حين تتشكل ظاهرة غريبة، وتطفق الغرابة تأخذ اعتيادها اليومي. حتى جريدة “لاربيبليكا” خصصت صفحتها الفنية كاملة في إحدى نهايات الأسبوع لرصد كل حركات روبرتو ومحاوراته. فلم يأت إدراجها في الصفحة الفنية عبثا، بحكم أنها اعتبرت روبرتو “مونولوغيستا”، يخرج ما يحس به إلى الجلي المعلن. لكن، روبرتو كان على يقين تام من تبني صيغة الرب في عملية الخلق المتواصل. إن خصوصية الرب في المسعى الذي انتابه حالما وضع حذاءه ظل مفتونا بحمد الصنع، لهذا لم يكترث روبرتو لأي رد فعل. فكلما أحس بحرارة حذائه وسط الشارع العام، خاصة الفردة اليسرى، علم مليا أن ثمة مشاكسات الضاحية الجنوبية الصاخبة تفتعل ملفات مطلبية فوق العادة. إن الرب يحب الفقراء لكنه لا يحب شقاوتهم، فكل مطلب يغلفه الزعيق ويغلب عليه التجمهر سيكون لزاما على روبرتو التدخل فيه، بعد أن يرفع فردته المشاكسة صوب فمه قائلا: “كفى من الاحتجاج وإلا أرسلت عليكم عذابي بالرغم من أنني بطئ الغضب ونادم على الشر”. فيضع فردته في قرف على الأرض بعد أن يكرمش ملامحه، راسما سيماء عدم الرضا. لكنْ، سرعان ما يحس بزلزلة في فردته اليمنى منتعشا بحملها، فينط تبعا للصخب الذي لحق مدرجات ملعب “الأولمبيكو” بتسجيل الهدف الأول. لقد تمكنت “أي إس روما” من افتتاح التسجيل ضد “آسي ميلانو”. كان الرب بإمكانه أن يساعد “أي إس روما” على الفوز، لكن مسألة العدل تعد أكثر من القوة من جهة تصوراتها؛ مسيطرا على أهوائه بردع قوته حتى لا تزلزل الأرض. إن عدل الرب يحجم سلطته المطلقة، ويكتفي أحيانا بالإنصات إلى كل الأطراف، مشجعا المنتصر ومواسيا المنهزم. وحرّض روبرتو فريق روما بعد أن اصطك بأسنانه في قلب الفردة بالمزيد من الأهداف. وتذكر فكرة حياد الرب، فأحس ببعض الغبن، وخمّن أن البن وحده ما يسعف هذه اللحظات المبتورة، وقصد مقهى “أنتيكو” مشيرا للنادل أونطونيو بإحضار الإسبريسو المعتادة، لكنه أحس برجرجة تحت حذائه، فلم يتمالك نفسه وطفق يعدو ويصيح هلعا مهتاجا: “إن الرب سيستعيد حذاءه الطويل على الأرجح أيها الطليان”.
في تمام الساعة السابعة مساء، أعلن رئيس الحكومة من القناة الأولى حالة الطوارئ.
هشام ناجح، كاتب مغربي مقيم بفرنسا