جدتي ترقص تحت المطر، فصل من رواية الكاتبة النرويجية تروده تايغه

Trude Teige

 

رميت حقيبة الظهر نحو القارب الخشبي القديم. أمسك بها ألفريد، وقفزت خلفها.
ـ إذن ستذهبين في نزهة إلى جزيرة؟ قال وهو يشغّل المحرك.
أومأت برأسي، لم أكن بمزاج للكلام.
ـ المكان جميل هناك في هذا الوقت، هادئ ومريح، تابع قائلاً.
ـ لكن قريبًا سيأتي المصطافون وتُملأ الجزيرة بالضجيج.
جلست فوق مقدمة القارب، رفعت سحّاب الجاكيت حتى النهاية، وأسدلت غطاء الرأس أسفل الجبهة.
تعالت الأمواج ونحن نلج المياه المفتوحة، وتناثرت فوق القارب، فأبطأ السرعة.
كنت قد ركبت الحافلة من درامن إلى كراغرو وخططت لتأجير قارب يقلّني إلى الجزيرة. لكني قابلته دون تخطيط عند الرصيف البحري.
كان التأرجح في الماء مهدئاً طبيعيًا. ببطء غادرتني الهواجس والأفكار، كما لو أن الريح قد أخذتها معها. وببطء انزلقت أكثر في القارب، فأسندت رأسي على حقيبة الظهر وغفوت.
استيقظت حين رسا القارب.
قفز ألفريد نحو الرصيف، وربط مقدمته بحبل حول الوتد الحديدي.
-لا شيء يضاهي النوم في قارب، ابتسم ومسح يديه بأفخاذ البنطال.
سرنا على طول الرصيف مرورًا بالمراكب المتراصفة بمحاذاته، ثم انعطفنا نحو ممشى الحصى باتجاه المباني. مررنا بالمرج الكبير حيث لعبت كرة القدم عندما كنت صغيرة. كانت رائحة الرطوبة تفوح من العشب، فقد أمطرته السماء لساعات طويلة من اليوم.
الآن أمست السماء صافية، والشمس في طريقها إلى المغيب خلف التل. هبّت رياح شمالية غاضبة، وصرخت بعض طيور النورس كالأحصنة وهي تسبح في تيار الهواء فوق رؤوسنا.
توقف ألفريد قليلاً.
ـ هل تؤذيك قدمك؟ سألته.
ـ إنه جرح لا يندمل، أجاب.
وأردف:
ـ لهذا السبب كنت في المدينة. كان عليّ زيارة الطبيب للقيام بتغيير الضمادة.
ـ التمريض المنزلي لا يأتي بسرور إلى الجزيرة، قلت، هل هو جرح في الفخذ؟
ـ نعم.
ـ أستطيع تغيير الضمادة لك.
أضاء وجهه للحظة، وقال:
ـ يمكنك فعل هذا بصفتك ممرضة بالفعل.
لكنه استدرك:
– إلا أنك في إجازة الآن، يونيو، لا داعي للتفكير بالأمر إذن.
ـ بالطبع أستطيع فعل ذلك. ويمكنك الذهاب في المرة القادمة إلى الطبيب.
مشينا بصمت، حتى قال:
– حزنت على ليللا. لقد حدث الأمر سريعاً.
ـ لم يكن هنالك ما يمكن فعله لأجلها.
ـ هل ستمكثين طويلاً ههنا؟
ـ لا أدري، ربما لفترة.
ـ توقعت مجيئك قريباً. أظن بأنك أنتِ من تملكين المنزل، الآن؟ قال وهو يتوقف أمام البوابة.
ـ نعم، أنا.
عاشت ليللا في المنزل منذ وفاة جدتي وجدي قبل ثلاث سنوات. وكان ألفريد الجار الأقرب لها.
 ـ يحتاج إلى طلاء، قال.
فتحتُ البوابة
– شكراً على التوصيلة. نتحدث لاحقاً.
– سنفعلها. فقط أخبريني إن كان هناك ما يحتاج للمساعدة.
نظرت خلف ذلك الكائن الضخم الذي يعرج على الطريق. لقد أصبح ألفريد أرملاً في سن مبكرة ولديه ولدان يعيشان في الجزيرة. كان صياداً للقريدس طوال حياته، لكنه ترك الصيد عندما أصيب في كتفه قبل عشر سنوات.
في الصيف، عندما كنا نستحم نحن الأطفال قرب المرسى في وقت ما بعد الظهيرة، كان يعطي كل واحد منا حفنة من الروبيان إن توفر لديه فائض، وكنا نجلس على الرصيف، نأكل ونرمي القشور للنوارس.
الآن هو في أواخر الستينات، وآخر من يعيش بشكل دائم فوق الجزيرة.
لماذا عرضت عليه تغيير الضمادة؟ تساءلت في سري ودخلت من البوابة. أردت البقاء مع نفسي.

***

في ذات الصباح كنت قد راجعت طبيبتي في مدينتي درامن.
ـ أرى أنك بحاجة إلى إجازة مرضية، قالت وهي تنظر لي بجد، أتحدث عن أسبوع أو أسبوعين، تحتاجين وقت وراحة. مبدئياً ثلاث أسابيع.
كان حبس البكاء يضغط تحت أضلاعي حين شرحت لها سبب الزيارة. كنت أعاني من صعوبة في النوم، وإذا نمت استيقظت في نفس اللحظة تقريباً بسبب ارتفاع النبض والخفقان الشديد. فوق ذلك أشعر بالتوعك، الغثيان والضعف.
ـ كيف تسير الأمور في العمل؟ سألت.
ـ أجد صعوبة في التركيز.
ـ لكنك متأقلمة؟
أومأت برأسي. كان ما تقول صحيحاً، فأنا أحب عملي كممرضة.
ـ لا علاقة لهذا بعملي، أجبتها.
ـ ما السبب إذن؟
ـ إنه… ابتلعت ريقي، وابتلعته، وفي النهاية قلت:
– زوجي.
ـ أوه حسناً؟ انحنت الى الوراء وانتظرت سماع الحكاية.
ـ لا يعرف أين أنا.
ـ ياها؟
ـ لقد كنا في رحلة إبحار لبضعة أيام، وكان من المفترض أن نبحر طوال عيد الفصح، أسفل الساحل السويدي. لكني تركته وغادرت.
ـ اليوم؟
ـ كلا، الليلة الماضية. كنا في ميناء سترومستاد، و … جان عندما يشرب، يحدث أنه … يفقد السيطرة.
ـ وعندها …؟
ـ عندها …
علقت الكلمات في حلقي.
ـ هل يضرب عندما يشرب؟
أعطتني منديلًا ورقيًا من العلبة على الطاولة.
أومأت برأسي وجففت أنفي.
– هربت بالأمس إلى البلدة، وعندما عدت لم أستطع الصعود على متن الطائرة. مشيت في الشارع لساعات، و… لم أخطط للذهاب في طريقي، ولكن بعد ذلك ركبت الحافلة الى أوسلو، ومكثت الليلة في فندق. لم أجرؤ على العودة إلى المنزل في حال جاء خلفي.
 كتبتْ مذكرة مرضية وقالت:
– يمكنني أن أنصحك بطبيب نفسي ماهر …
فأجبتها:
– لاحقاً، ليس الآن.
قامت بملء استمارة، دفعتها نحوي وطلبت مني الذهاب إلى المختبر وأخذ عينات دم. وحالما وصلتها نتيجة التحليل ولوّحت لي للدخول مرة أخرى، بدا عليها أن هنالك شيئًا ما في التحليل.
ـ أنتِ حامل، قالت.
حدقت فيها غير مصدقة.
– حامل؟ لا…
– لا شك بهذا، قالت وهي تنظر في نتيجة التحليل على الطاولة.
ومن دون أن ترفع رأسها عن الورقة سألت:
ـ بماذا تفكرين؟
ـ أنا … لا أعلم. لا أعتقد بأني أريد أن … أحتفظ به.
ـ متى كانت آخر دورة لك؟
عددت الأيام إلى الخلف.
– منذ أكثر من خمسة أسابيع.
ـ إذن لديك بعض الوقت للتفكير في الأمر. أعتقد أنه يجب عليك التفكير في الأمر..
ـ لكن …
ـ اسمعي، أنت الآن لست بحالة تسمح لك باتخاذ قرار، قالت بحزم، امنحي نفسك بعض الوقت، الحد الأقصى في الأسبوع الثاني عشر. يمكننا التحدث مرة أخرى بعد أسبوع أو أسبوعين.

***

كانت سلالم الطابوق متسخة ومغطاة بالطحالب. الدرابزين طالته الطحالب الخضراء كذلك.
بقيت واقفة أنظر إلى الأعلى، نحو الواجهة المطلية باللون الأبيض.
بني المنزل البحري هذا في أوائل القرن التاسع عشر. فوق المدخل عُلقت ورقة تقول غرفة ليللا هناك. تم تأطير النوافذ ذات المربعات الصغيرة بإطارات مزخرفة تبدو كالدانتيل.
لقد كان ألفريد محقاً، المنزل بحاجة إلى طلاء.
وضعت حقيبتي جانباً، على الكرسي بالقرب من الباب الأمامي. كرسي جدي، المصنوع من الخوص. كان يجلس ههنا ويقرأ الجريدة في الصيف. لقد تغير لونه الآن وصار داكنًا بسبب الجو والزمن.
في الردهة استقبلتني رائحة المنازل العتيقة، حلوة، متعفنة، وخانقة، كما هو الحال في المنازل الخالية من أهلها. ورائحة ليللا، رائحة نيكوتين خافت لا يزال عالقاً في الجدران.
كان الرف في الردهة مليئاً بالقبعات. قبعات ليللا. لم أرها تعتمرها منذ سنوات عديدة. ثيابها الخارجية، من الستر الصيفية والشتوية، معلقة بكثافة فوق بعضها على مشجب الثياب عند المدخل. أما كوم الأحذية والجزم فراقد على الأرض أمام باب القبو.
خلعت سترتي المناسبة لكل الطقوس ورميتها على عمود الدرابزين، ودخلت المطبخ، أشعلت الموقد القريب من النافذة، تركت الماء يغلي قليلاً ووضعت القهوة.
لقد تم تجديد المطبخ قبل مرض جدي. أمسى الديكور يشتمل على خزائن حائط ترتفع حتى السقف، لها واجهات بيضاء لامعة، وحوض أذرعه من الغرانيت، وفرن وموقد حديثين. وفوق الطاولة يتدلى مصباح للمصمم الدنماركي بول هينينغسن.
عندما دخلت ليللا المشفى قبل نصف عام تقريبًا، جئت هنا وأخذت لها ثيابًا. أفرغت منافض السجائر والثلاجة، ورفعت الزجاجات الفارغة، ورميت القمامة وأطفأت الحرارة بينما كان قارب الأجرة في انتظاري عند المرسى آنذاك.
على الأريكة ذات اللون الفاتح في غرفة المعيشة كانت الوسائد مضغوطة من أحد طرفيها، كما لو أن ليللا كانت مستلقية هناك للتو. طاولة القهوة مغطاة بالمجلات والصحف القديمة، وسرير جدي لا يزال يقف في الزاوية. كان مغطى بلحاف منسوج من خليط بألوان مبهجة، كما هو عليه منذ انتقاله إلى دار رعاية المسنين قبل أربع سنوات، أي قبل عام من وفاته.
عندما كنت صغيرة كان الجو دافئًا والأغصان تتطاول من الأصص لتملأ الشرفة الزجاجية وتجعلها مورقة مثل غابة صغيرة. الآن، تقف الأصص الكبيرة فارغة على البلاط. أما الرفوف أسفل النوافذ، فمليئة بأكوام من الأواني البلاستيكية الصغيرة والسوداء. مقابل الجدار الأزرق الفاتح كان هناك كرسيان بأذرع، واحد لجدي والآخر لجدتي، كانا متجاورين وبينهما طاولة صغيرة نحاسية.
فتحت باب الحديقة. لا تزال الأرجوحة معلقة على شجرة البتولا الكبيرة، لكنها قديمة ومتلفة بسبب الشمس والمطر. جدي هو من صنعها. صنع ثقبين في لوح خشبي، ومرر فيهما حبلًا ربطه بالفرع السميك للشجرة.
ببطء نزلت فوق الدرجات الخشبية وسرت في الحديقة وجلست على الأرجوحة. تأرجحت قليلاً ذهاباً وإياباً. ثم أمسكت بالحبال، وزدت في السرعة، انحنيت إلى الوراء ورفعت ساقي.
بدأ المطر بالهطول، زخات خفيفة، لكني بقيت جالسة، ورأسي متكئ على الحبل.
المطر هو تصفيق الحياة، اعتادت جدتي أن تقول.
قفزت الذكريات أمام شبكية العين على هيئة صور: جدتي هنا في الحديقة، واقفة تحت المطر ليلاً ترتدي واحدًا من فساتينها الحمراء. لم ترتدِ البناطيل أبداً، دائماً ما كانت ترتدي فساتين ذات قصات بسيطة، وغالباً ما تكون حمراء، لكل من الأيام العادية والمناسبات.
كانت تحب الألوان، لم أرها بالأسود قط، ولا حتى في جنازة جدي.
ـ إنها مجنونة، قالت عنها ليللا عندما رأتها ترقص بهدوء تحت مطر الصيف الحار.
ـ لا، ليست مجنونة، أجاب جدي، إنها سعيدة.
أما أنا، فلم أرها بهذه الخفة أبداً، أعني عندما كانت ترقص تحت المطر في الحديقة.
أغمضت عينَي، شعرت بأني أشم رائحتها، رائحة جدتي عندما كانت سعيدة.
في باقي الأيام كانت رائحتها مختلفة.
ـ لماذا ترقص جدتي تحت المطر؟ سألت جدي مرة. ربما كان عمري آنذاك ثمانية أو تسعة أعوام.
ـ لأنه يجعلها قوية وسعيدة، أجاب.
وحين انتهت جدتي من الرقص، انحنت وحيّت بعمق كما لو أنها كانت تتلقى تصفيقاً، ثم دخلت إلى المنزل مبللة. كان جدي واقفًا بانتظارها، مستعدًا، يحمل روب الحمّام الخاص بها. خلعت ثيابها واختبأت فيه، ولفّ ذراعيه حولها. قالت له:
ـ أحبك، تعلم هذا؟
ابتسم بجانب شعرها وأجاب:
ـ أعلم هذا، تكلا، نحن أفضل شيء حدث لنا.
ثم سكب كأسين من نبيذ بورت، دائماً نبيذ بورت، وأشار نحو الكرسيين.
ـ نعم كونراد، قالت له جدتي، دعنا نتحدث مع بعضنا بعضًا. يريحني الحديث معك.
كنت حينها مستلقية في غرفتي فوق غرفة المعيشة مباشرة. وكان صوت جدي يأتي كهمهمة خافتة، أما صوت جدتي فأشبه بالهدير.
ما الذي يتحدثون عنه؟ تساءلت عندما تحولت أصواتهم إلى أغنية ليلة سعيدة ارتفعت وانخفضت تحت سريري وحملتني إلى النوم.
كانت ليللا تعمل في المدينة وتعود في عطلة نهاية الأسبوع. لطالما أسميتها ليللا، ليس أمي، ليس ماما. وغالباً ما يختلف المزاج عندما تعود، كما لو أن نبض المنزل يرتفع.
ـ لماذا تعملين؟ سألتها ذات مرة، الأمهات الأخريات في الجزيرة يبقين في المنزل.
ـ لأنني لا أحتمل العيش ههنا، أجابت، أحب وجودي في المدينة أكثر، يغدو التنفس أسهل هناك.
كانت تلك الإجابة غريبة نوعًا ما، إذ طالما شعرت بأن الهواء ههنا أكثر نقاء مما في المدينة. لذا فكرت بأن الأمر قد يكون له علاقة بي، وبأنها لا ترغب أن تكون معي طوال الوقت.
حتى دخول المدرسة الثانوية والانتقال للعيش برفقة ليللا في المدينة، عشت مع جدتي وجدي في الجزيرة. طوال طفولتي كنت أقف بانتظارها على المرسى، أحياناً في ليالي الجمعة، وأوقات أخرى بعد ظهيرة يوم السبت. كانت تعمل في متجر تورشيلدسنس للألبسة الجاهزة، وتشتري على الدوام الملابس بالتخفيض. كنت دائماً متحمسة إلى ما ترتديه. بدلة جديدة، فستان، بنطلون، قطعة جميلة. لم يكن هناك من يرتدي ملابس عصرية مثل ليللا. كنت معجبة بها وكأنها عارضة أزياء خارجة مباشرة من المجلات النسائية. وكانت رائحتها رائعة، وتستخدم عطورًا بعلامات Red Door, Rive Gauche, Anaïs Anaïs.
أكثر واحد أحببته Charlie. كانت على الزجاجة صورة لامرأة بشعر طويل أشقر تمشي حافية القدمين على الشاطئ وقت غروب الشمس، وخلفها ترتفع موجة صغيرة. كانت ترتدي بذلة بيضاء كالطباشير، وأسنانها ناصعة البياض، وفي الطرف، قرب ساقيها كُتب: “يمنحك الحياة!”
كان بإمكاني رؤية مزاج ليللا حين لوّحت من فوق متن العبّارة، قبل الانطلاق نحو اليابسة.
في بعض الأحيان تبدو شاردة. حينها بالكاد تتحدث ونحن نسير معًا نحو المنزل، وتفضل بعد الوصول هناك، البقاء بمفردها في الغرفة. لكنها، عندما تكون متحمسة وسعيدة برؤيتي، يمكنني أن أطلب منها طلاء أظافري، تسريح شعري، وضع القليل من المكياج، بعد الدخول إليها والجلوس على سريرها. وكانت عندما تنتهي من فعل ذلك، تنظر لي وتقول:
ـ أنت أجمل فتاة أعرفها.
وتداعب خدي.
عند ذاك، أشعر بدغدغة في بطني، وأصدقها، لأنها تعرف هذه الأشياء جيدًا، هي التي كانت جميلة جداً، أنيقة ويفوح منها عطر Charlie.
في الشتاء، كان يحدث أن نبني معًا، أنا وليللا، فوانيس ثلجية في الحديقة. نصنع كرات الثلج ونضعها فوق بعضها البعض، ثم نضع الشموع بداخلها. صنعنا ذات مرة خمس عشرة فانوساً، فأضيئت الحديقة بأكملها.
ما زلت أتذكر جدتي وهي تضحك لصنيعنا، كانت تسير في الطريق الذي جرفه جدي نحو الملحق، حيث كان لديها مرسم خاص بها هناك. قالت لنا بأن الأمر يبدو وكأننا نقيم قداساً كاثوليكياً.
نادراً ما يهطل الثلج بكثافة فوق الجزيرة في الشتاء، لم يكن كثيفًا لدرجة أن نستطيع حفر كهوف ثلجية مثلاً. المناخ فيها معتدل للغاية ومتغير. لكن في أحد الشتاءات، والذي رأى جدّي حينها بأنه أكثر تساقط للثلوج في ذاكرته، خطر لـ ليللا أن نقفز من الشرفة في الطابق الثاني. جرفنا الثلج، وصنعنا منه تلة عالية وقررنا القفز فوقها. صعدت على الدرابزين، وتمسكت بعمود الزاوية، ونظرت نحو الأسفل.
كانت ليللا تقف بجانبي.
– تستطعين فعلها، قالت.
ـ لا أجرؤ على ذلك، أجبتها.
أمسكت بيدي وقالت:
ـ بلا، تستطيعين، إنه مثل الهبوط في القطن.
نظرت إلى الأسفل، ونظرت إليها.
ـ فكّري بأنك تستطيعين الطيران، قالت.
أستطيع الطيران، همست في جوفي، يمكنني الطيران. أردتها أن تفتخر بي، أردتها أن تعتقد بأني فتاة جيدة وشجاعة. لا أعرف ما كان يخيفني أكثر: القفز أم أن أخيب أملها.
أغمضت عينَي وقفزت. انقطعت أنفاسي، ودخل الثلج في فمي وأنفي، صرخت لاهثة من أجل الهواء.
فجأة كانت ليللا بجانبي، لابد أنها قفزت أيضاً، سحبتني من فوق الثلج، واحتضنتني.
ـ هل أنت بخير، هل آذيت نفسك؟ بدا صوتها خائفاً.
ـ هل يؤلمك مكان ما؟
تلمست جسدي، لم أكن أشعر بألم. لكني مع ذلك بكيت.
هزّتني إلى الأمام والخلف، شهقتُ واستنشقت رائحتها، مزيج من البرد وعطر Charlie بكيت لوقت طويل كي لا تتركني.
كانت جدتي في الملحق، تستمع غالباً إلى الموسيقى وترسم.
ـ شوبان، قالت وهي تخرج قرص فونوغراف وتضعه على مشغل الأقراص القديم.
توقفت قليلاً بانتظار الموسيقى، وعندما تدفقت، وقفت بجانب حامل اللوحات.
ـ شوبان، قالت من جديد.
ثم أردفت:
ـ إنها أجمل موسيقى بيانو أعرفها، مع أوركسترا يقودها هربرت ڤون كاراجان.
ثم أضافت بأنه على ما يبدو كان عضواً في الحزب النازي. قالت ذلك كما لو أنها تتحدث مع نفسها.
ـ ما هو الحزب النازي؟ سألتها.
ـ ستعرفينه عندما تدخلين المدرسة.
مزجت الألوان بحركات سريعة.
ـ لكن من الغريب كيف يمكن للماضي أن يلتصق بالإنسان، تابعت وهي تنظر إلى اللوحة القماشية.
ثم أردفت:
ـ لقد لاحظ كاراجان ذلك، على الرغم من أنه تزوج لاحقاً من ربع يهودية وترك الحزب.
ـ ماذا يعني ربع يهودي؟
ـ شخص له جدة أو جد يهودي.

أغمضت عينيها لبضع ثواني، ولم أجرؤ على السؤال أكثر.

أخذت نفساً طويلًا وارتفع صدرها.

ـ آه! حفلة البيانو رقم واحد في سلم الموسيقى مي.. الآن أستطيع الرسم.

بدا لي غريبًا كيف لشوبان أن يلهمها بهذه الطريقة، لقد طفت على وجهها لمسة حزن عندما صدحت موسيقاه. نعم، أسميها لمسة حزن كلما تذكرت ما جرى.
في ذلك الوقت لم أكن أعرف مثل هذه الكلمات، لكنني رأيت بأن شيئاً ما قد حل بها.
أنا أيضاً أحببت الاستماع إلى شوبان، فجلستُ ساكنة لفترة طويلة جداً ورأيت كيف خُلقت اللوحة ببطء فوق القماش.
فقط إن جلستُ ساكنة ولم أقل شيئاً، يسمح لي بالتواجد في مرسم جدتي.
في الصيف كانت تُبقي باب الحديقة مفتوحاً، وعند الزوال تزحف أشعة الشمس ببطء نحوها، إلى أن تضرب وجهها وتستقر مثل شرائط ذهبية في شعرها المربوط.
عندما لا تذهب جدتي إلى مصفف الشعر لفترة طويلة، تكشف الشمس عن الشعر الرمادي في جذور شعرها وعلى أطراف جبهتها. يمنح الضوء تجاعيدها ضلالاً، وتظهر خطوط حادة في أطراف عينيها، وتجاعيد أفقية على جبهتها، أما الندبة الطويلة فوق خدها، بين طرفي الأنف والأذن، فتمسي أعمق.
سألتها ذات مرة كيف حصلت عليها، لكنها قالت بأنها لا تتذكر، إذ مضى وقت طويل على حدوث ذلك.
كانت جميلة بطريقة مختلفة عن ليللا.
اليوم، أفكر بأنها كانت تحمل جمالًا لا يمكن لسوى الشيخوخة أن تمنحه للإنسان.
حين ترسم جدتي، يحصل أن تبتسم برقة، وإصرار. لكنها غالباً ما كانت ترسم بسرعة وهمّة، كما لو كانت لا تملك الوقت، فتبدو وكأنها غاضبة. في إحدى المرات كنت حمقاء كفاية لسؤالها إن كانت غاضبة. أجابت بصوت خافت وقاسٍ بأن عليّ أن أبقى صامتة، وإلا لا يمكنني التواجد هنا. ذهبت إذ ذاك إلى جدي باكية لأنها كانت غاضبة مني، فأمسك بيدي وقال:
ـ إنها ليست غاضبة منك، فهي في عالمها فقط ولا تحب أن يزعجها أحد. تعالي، نذهب في نزهة إلى البحر.
لطالما ذهبنا، أنا وجدي، إلى الجانب الشرقي من الجزيرة، إلى مكان بعينه عند حافة صخرية تحمي من الرياح الشمالية والغربية على السواء.
في الصيف، قطفت دغلًا بسنابل طويلة، وصنعت منها باقات مع القرنفل الوردي واللافندر الأرجواني. وفي الشتاء كانت البرك الصغيرة مغطاة بطبقة جليدية هشة مثل الزجاج الرقيق. أصدرت قرمشة لذيذة عندما دست عليها. ابتسم جدي آنذاك وقال بأن ليللا كانت تفعل تماماً نفس الشيء عندما كانت صغيرة، مما جعلني أفكر بأني ربما أشبهها، بل ويمكن أن أصبح بجمالها حين أكبر.
أثناء الحرب كان جدي بحاراً. لم يتحدث أبداً عما عاشه فيها. كان يتحدث فقط عن الوقت الذي تلا الحرب، عندما أبحر على متن سفن كبيرة، قبل أن يعود إلى اليابسة ويبدأ العمل في شركة الشحن في كراغرو.
جلسنا على الصخرة ونظرنا إلى البحر، أخبرني عن المرافىء، كما أخبر ليللا عنها عندما كانت صغيرة. نيويورك، بوينس آيريس، هونولولو، مادراس، بيرمرهاڤن. كانت أسماء رائعة تتدحرج من لسانه.
ـ لماذا توقفت عن العمل في المرفأ؟ سألته.
ـ لم أقدر على فراق جدتك لفترات طويلة، جاب.
ما زلت أتذكر بعضًا من قصصه؛ عن رئيس الطباخين الذي خسر وضيفته لأنه شرب الخمر، عن النوتي الذي اشتاق بشدة إلى حبيبته في وطنه النرويج لدرجة أن استلقى وبكى كطفل صغير في المقصورة، وعن المهندس الميكانيكي الذي تركته السفينة في كيب تاون وأبحرت من دونه. لكن، من بين كل ما أخبرني به، كان هذا أفضل ما أتذكره الآن: إنه لا يحتمل البعد عن جدتي.
حين كبرت وصرت فتاة بالغة، رأيت الرقة والقرب بينهما. لم يتمكنا من الاستغناء عن بعضهما بعضًا، ولم يفعلا هذا البتة. وعندما بلغ جدي السابعة والثمانين عاماً، تعرض لجلطة تركته مستلقياً في سريره، غير قادر على الحركة والكلام. آنذاك رعته جدتي، ولم تسمح لأحد غيرها برعايته، فكان لها ما أرادت.
كان دائماً يحصل ما تريده جدتي. كانت نشيطة وحيوية حتى أدركت بأن على جدي الذهاب إلى دار رعاية المسنين. عند ذاك تقهقرت ونفدت قواها. بيد أنها وبالرغم من اعتلال صحتها، واظبت على الذهاب إلى المدينة وزيارته كل يوم، وتحت أي ظرف جوي. لكنها لم تكن هي نفسها من دونه. هي، التي كانت دائماً حيوية وخفيفة الحركة، أصبحت ثقيلة الأقدام وبطيئة. لا أعرف إن كانت قد رسمت حتى لوحة واحدة في العام الأخير من حياتها.
بعد جنازة جدي بثلاثة أيام، وكان الفصل ربيعًا، خرجت جدتي تحت المطر ورقصت. أما أنا فوقفت في الشرفة الزجاجية مبتسمة أشاهدها وهي ترقص بحركات بطيئة. لكنها استلقت بهدوء فوق العشب.


* قصور في القلب، قال الطبيب.
** ظننته وجعًا في القلب!

ترجمة: سعيد شامل

تروده تايغه: Trude Teige، كاتبة نرويجية من مواليد 1960. نشرت تسع روايات وكتابين. درست الترجمة والصحافة، وعملت مراسلة سياسية، ومذيعة أخبار، ومقدمة برامج على القناة النرويجية الثانية.
في العام 2002 نشرت أولى رواياتها وكانت رواية تاريخية تحمل عنوان “غناء البحر”. وبعد عامين نشرت روايتها “الاستلقاء على الهواء”.
كتبت تروده ست روايات جريمة حتى الآن عن الصحفية التلفزيونية كايسا كورن، وقد حققت الروايات الست شهرة واسعة بين القراء، وكانت كالتالي:

البعض يعرف/ رواية/ 2009
يد مساعدة/ رواية/ 2010
خيانة/ رواية/ 2012
فتاة توقفت عن الكلام/ رواية/ 2014
المريض/ رواية/ 2017
لا يغفر أبدًا/ رواية/ 2019

الكثير من كتب تروده رشحت إلى جائزة البوك ستور وبيع الكثير منها في كافة بلدان العالم. كما رشحت رواية المريض إلى جائزة ريفرتون.
كتبت تروده روايتها التاريخية “جدتي ترقص في المطر” في العالم 2015 وتحكي عن امرأة نرويجية تزوجت عسكري ألماني إبان الحرب العالمية الثانية. وهي قصة حقيقية وباعت عشرات الآلاف من النسخ.
في خريف 2020 نشرت كتابًا وثائقيًا بالاشتراك مع أخصائية الطب الشرعي، إيڤا بي راغده. الكتاب يتحدث عن جرائم خطيرة حدثت وتم اكتشافها من خلال الطب الشرعي.

SHARE