
شكرًا لكل من مر أمام عيني في صباح أو مساء القاهرة . شكرًا لمن ابتسم حينما مررت أمامه. شكرًا لمن نهض ليرد السلام، ولمن طبع قبلة على خدي وطبعت مثلها على خده، عرفانًا بالمودة. شكرًا لمن رفع يده من بعيد لتحيتي، لمن سار خطوات ليصافحني. لمن دفع حساب الشاي عني، ولمن وضع السكر في قدحي الزجاجي دومًا، ولو رفض النادل، في البدء، أن يأتي لي بقدح من زجاج. شكرًا لمن استقبلني في المطار أو على رصيف مقهى. لمن ترك كرسييه لي. شكرًا لمن أهداني كتابه ليمنع البرد عني في ليالي شتاء فرنسا. شكرًا للنادل الذي جلب الثلج لي في بار وصب بيرتي في القدح كأنها ماء الذهب، في ليلة من ليالي ” الجريون ” أو الفايف بلس أو ماريوت. شكرًا للصديق الذي يحيني كل صباح، مبتسمًا، مازحًا، ليطمأنني على بقية يومي وأنّ الحياة حب وصداقة. شكرًا لامرأة سمراء تجلس وحيدة على كرسيها، تداعب أحزانها، علها تبتسم. نهضت من كرسييها ومرت دقائق قربي تبادلني الكلام، ثم مضت في الليل تاركة عطرها وابتسامة وموعدًا لا تاريخ له. شكرًا لمن لم أزره في شقته في الطابق قبل الأخير، لأن السلالم تؤلم ظهري الفقير الفقرات، أو لأن الزحام أكبر من طاقتي للاحتمال. شكرًا لمن جاءت من المنصورة كي تقبلني وتراني بعد غياب سنين ثم تمضي في المساء، عائدة لطفلها وبيت أبيها الراحل منذ عام، يومًا بيوم. شكرًا للمتحف المصري على ضفة النيل، قبته الحمراء، تعلن أني وصلت وسط البلد وأني مخلص لساعة موعدي في ” ريش”. شكرًا لمن جاء لي بطعمية مقرمشة في فطور الصباح القاهري ودوزن سكر قهوتي. لمن عبر بي ” شارع يوم النفير ” أمام معرض الكتاب، حيث الملائكة أو الشياطين، وحدها تعبر مرتاحة البال. بينما أعبره خائفا، قابضًا على ذراع صديق كأني أعبر سراطًا مستقيمًا. شكرًا لمن قبل مني هدية متواضعة، هي محض فكرة صداقة وصداق للصداقة. شكرًا لطفلة خجلة اسمها ليلو، طبعت على وجنتي قبلة كأني خال لها. شكرًا لبواب العمارة القادم من الصعيد، يحييني كل صباح ويفتح لي باب المصعد في آخر الليل، أو في الفجر. شكرًا لسائقي التاكسي، لمن قالوا لي: خليها يا باشا، وإنما الأعمال بالنيات والكلمات البسيطة حينا. شكرًا لواحد منهم علمته أربع عبارات بالإنجليزية خلال الطريق الى مدينة نصر، فراح يشد يدي كأني فتحت له أبواب فردوس. شكرًا لبائع التحف والعاديات الفرعونية الذي خفض أسعاره لأني عراقي الأصل. . . من بلاد أصيلة، كما قال لي. وكنت أقول لنفسي: كان هذا في الماضي البعيد، قبل الحروب وأشجانها وضياع البلاد. شكرًا لتلك التي سميتها” الحاجة أم البسات” والتي تقضي أيامها تعتني بعشرات القطط. تأتي لها بالطعام حيث تنام الضواري الصغيرة في علب من الكارتون خلف مشبك سياج مسجد قاهري عند ميدان محمد فريد. أبادلها الحديث كل عام وأدعو لها بطول العمر وأهديها بعض جنيهات كي تبقى قططها في أمان وسلام، مطمئنة في ليالي القاهرة. شكرًا لتلك المرأة السمراء، بلون الأبنوس، التي دلتني على شارع المعز الفاطمي وسارت معي تحدثني عن صعيد مصر والنيل وأسوان في فصل الشتاء. شكرًا لشرطي الجمارك في المطار، الذي راح يمزح معي، معتقدًا أني ممثل في مسلسلة تلفزيونية، لا أعرفها. أخبرته أن آخر مسلسل رأيته قبل نصف قرن كان الرحيل في خماسية الساقية لعبد المنعم الصاوي، في تلفزيون العراق ذي القناة الواحدة حينذاك وكنت صبيًّا. غنيت له مقطعًا من مقدمتها: يا قلب، يا صغير يا ماشي السكة، الحزن ليه بكا عيونه الضحكة. فضل، مش لاقي مكان في الظل، عطشان لحتة شمس، ندعي الظل، واحنا معاك عقبال سبيل، ماشيين على جسر الرحيل. ثم قلت له : هذا أنا راحل، حياتي المسلسل الذي ترى حلقة منه. وحين التفت، رأيته يرفع ذراعه ملوحًا لي. صرخت : إلى المرة القادمة. ولوحت بيدي تلويحة الغريب الأبدي.
وإليكم، أصدقائي القاهريين، أقول: إلى المرة القادمة. ملوحًا لكم بالقُبل.
كاتب عراقي، فرنسا
husin@free. fr