
شاءت الصدفة أن يكون يوم تنفيذ حكم الإعدام بي هو الثلاثين من يوليو (تموز). اليوم الذي يحتفل فيه النظام كل عام بمناسبة سيطرته على السلطة. وكان يوم جمعة كئيب. ذلك اليوم كان رحيما عليّ بالرغم من كآبته. حيث بادر الديكتاتور بتخفيض حكم الإعدام إلى السجن المؤبد على جميع المحكومين. وهكذا نجوتُ من الموت.
شاءت الصدفة أيضا أن يتحوّل يوم انتفاضة آذار التي اندلعت في السجن إلى مواجهات عنيفة بين السجناء السياسيين وأجهزة الامن، وأُجِبر من خلالها الديكتاتور المعتوه على إصدار عفو عام عن السجناء السياسيين فأطلق سراحي. وكان يوم جُمعة مشرق.
وشاءت الصدفة، مرة أخرى، أن يكون يوم خروجي من العراق يوم جُمعة حزين. فيه ودّعتْ أمي آخر شهقاتها في الحياة. حتى عملية إعدام صدام حسين من قبل نوري المالكي على شاشات التلفزة، كانت ليل جُمعة مشهور. الأغرب من هذا كله، هو دخولي إلى بلجيكا وانتقالي من بروكسل إلى أنتوربن وزواجي وولادة ابني البكر. كل تلك الأيام كانت أيّام جُمع مباركة.
صحيح أن يوم الجُمعة في بلادي هو عطلة نهاية الأسبوع تجتمع فيه العائلة، وصحيح أن له نكهة خاصة يلتقي فيه جميع أبناء الحي الواحد في المساجد لأداء صلاة الجُمعة، وصحيح أنّ النبي محمد قال إنّه (خير يوم طلعت عليه الشمس، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخِل الجنة، وفيه أُخرِج منها)، وصحيح أن يسوع المسيح قال في يوم الجُمعة عبارته الأخيرة: (إلهي بين يديك أستودع روحي)، وصحيح أيضا أن كل أوروبا تقرّ بالجُمعة العظيمة التي يسمونها جُمعة الآلام أو جُمعة عيد الفصح…ولكن، بغضّ النظر عن درجة الإيمان أو عدمه، إلّا أن هذا هو الذي يحدث معي دائما: أيام الجُمع بالنسبة لي تشكل انتقالات مفصلية في حياتي، سواء كانت السنة تشاؤميّة أو تفاؤليّة.
جُمعة (جوزيف)
بقدمين متسارعين مضيت مباشرة إلى مقهى (جوزيف) الشهير، القريب من محطة (سنترال ستاسيون). ذلك المقهى الصغير، المتواضع ليس مجرد مقهى تُقدّم فيه القهوة والمشروبات، بل هو مكان لصفقات (المال مقابل الزواج) كما تقام فيه الحفلات الموسيقية، الراقصة. فكلما ازداد روّاده وكثرت صفقاته، كلما اشتعلت أجواؤه بالرقص والموسيقى. موقعه في ساحة (أستريد) المحاذية (لبورخرهاوت) بين المطاعم التركية والمغربية والمحلات الآسيوية، ساعده ليأخذ هذه الشهرة الواسعة. فمن جهة اليسار، يقابله شارع (فان وسينبيك) الشهير (بالحي الصيني) على الرغم من أنه مليء بجاليات أخرى، كالتايلندية والفليبينية وغيرها. في مدخله بوّابة عظيمة منقوشة بلوحات وأحرف صينية وعلى جانبيه أسدان رخاميان ينتصبان وكأنهما يحميان الحي الآسيوي من أيّ تدخل أوربي. ومن جهة اليمين، على امتداد الساحة، ينفتح شارع فرعيّ (ستاسي سترات) مليء بالمطاعم والمقاهي الخاصة بالأجانب كالإيطاليين واللبنانيين والاسبان والألبان وغيرهم. ينتهي هذا الشارع إلى مجمع دور السينما التي تقبع خلفها (الاوبرا الفلامنكية) بطرازها الحجري الفخم الذي يشبه التصاميم الباروكية في القرن السابع عشر والتي تترك في ناظرها أثرا جماليا عميقا بروعة أعمدتها المتقنة وبوابتها المقوسة العالية التي يقابلها من الجهة الأخرى شارع (ميير) الشهير، بالمحلات ذات الماركات العالمية الشهيرة.
مقهى (جوزيف) من أشهر المقاهي بالنسبة للأجانب الذين يبحثون عن إقامات. (جوزيف) صاحب المقهى أو (يوسف) كما يحلو لنا نحن العرب أن نسميه، بلجيكيٌّ في الخمسين من عمره، يتكلم الهولندية والفرنسية والانجليزية والاسبانية، بالإضافة إلى مفردات كثيرة من العربية والتركية والصينية. تربطه علاقات وطيدة مع شرطة المدينة بكل فصائلها. كذلك له علاقات واسعة مع موظفين مهمين في بلديات مختلفة من مدينة (أنتوربن). رجل مترهل أبيض أمهق لكنه يميل إلى الحمرة أكثر، يبدو للوهلة الأولى كأنه بليد أو معتوه، كثير التحرك والتنقل حتى يخيل للمرء أنه يراه في أكثر من مكان في وقت واحد. ترك إدارة المقهى لزوجته اللبنانية الأصل التي منحها الجنسية البلجيكية عن طريق زواج الأوراق لكنها فيما بعد أصبحت زوجة مخلصة له، فتفرغت لإدارة المقهى، فيما تفرغ هو لعقد صفقات المال مقابل الزواج.
جُمعة (هومليس)
أعيش في الأسود منذ فترة ليست بالقليلة، أبحث عن امرأة للزواج مقابل المال أو مقابل نبضة قلب، لذا فأنا في أمسّ الحاجة إلى جوزيف ليساعدني. لستُ وسيما، ولا جذابا كما كانت تقول لي أمي وتخدعني! عيناي المدورتان الصغيرتان، كعيني جرذ، لا يتناسبان مع أنفي الغليظ المليء بالأكياس الدهنية وشفتي المتيبستين. أمّا بشرتي الجافة الداكنة فتجعلني أقرب إلى سلالة النسناس، أو شبيها بجنس خلاسي مخلوط من عدة أجناس، إضافة إلى أنني متردّد وشكاك. لقد نجح إلى حد ما رجال الدكتاتور في تشويهي، وهذا الوصف لن يرشّحني لأكون مغريا للنساء الجميلات. لذا، كنت أعوّل على جوزيف كثيرا ليصطاد لي زوجة مقابل الدفع الثمين. لم أكن بالرجل الجميل أبدا، بل العكس ربما هو الصحيح. فكثافة حاجبيّ تثير الشك والريبة والرّعب أحيانا لدى البلجيك، وهذا ربما كان سببا غير مباشر في رفض طلبي لحق اللجوء السياسي! لذلك أقول:
لابدّ أن تكون (سينتيا) هذه المرأة الشقراء معتوهة أو غبية، وإلّا كيف تخون زوجها الأشقر الجميل، مع رجل داكن وقبيح ومشرد مثلي. لكن (سينتيا) هذه، والحق يقال، امرأة طيبة وعطوف، تعطي بلا تفكير. هي التي ساعدتني على إيجاد بيت بإيجار مناسب في شارع (لانغ ليم سترات) المليء باليهود الأرثوذكس المنغلقين والمتشدّدين بزيّهم الأسود وقبّعاتهم الصغيرة وسوالِفهم المتدلية. ولولاها لما كان ليقبلني (رابي) صاحب العمارة المتشدّد. كما أنها هي التي أرشدتني إلى مقهى جوزيف بل كانت ستتزوّجني، لو لم تكن متزوجة،كما تعهدت بأنها ستدعمني ماديا إذا ما احتجت إلى ذلك.
الطيبة والذكاء والذوق والوقار والاحترام وآداب السلوك العام هي أسمى الصفات المحبّبة عند (الفلامان).لكنّهم في المناسبات والسهر والفرح والابتهاج، يتحوّلون إلى شعب آخر. شعب يحب الصخب ويتعاطف مع المشردين. يرقصون بجنون. يفرطون في شرب البيرة حد الثمالة. يسكرون ويضحكون بصوت مدوٍّ ويملؤون الدنيا صراخا. كما أنهم يبالغون في أكل البطاطا المقلية ويتلذّذون بالعبث والفوضى والبلادة ويصرفون آخرَ سينتٍ في جيوبهم ثم يمضون. كلهم هكذا وليست (سينتيا) لوحدها. يمتلكون مساكن جيدة ويتلقون رواتب ممتازة ووظيفة ثابتة وواضحة إلا من رحم ربي.
جُمعة (سينتيا)
كان تعرّفي إليها في حانة (برابو). حانة أليفة جدا وسط المدينة، تحديدا في (خروته ماركت) مقابل نصب (برابو) العظيم وهو محمول على أكف العذراوات (الفلامانيات) وبيده كفُّ عملاقٍ شرير يدعى (انتيغون).كان يقطع أكفَّ البحارة الذين لا يدفعون الإتاوة عند دخولهم المدينة، هكذا تقول الأسطورة التي أكسبت المدينة اسمها: اليد المرمية (هانتوربن). كنت قد أنهيت ثلاث زجاجات من البيرة الأنتوربنية، التي يطلق عليها (بولكة). منتعشا أشعرُ بالسعادة، وكان يوما هوائيا فيه الشمس تختفي وتغيب خلف غيوم متفرقة ثم تظهر فجأة مع زخات مطر خفيف، يشبه الرذاذ. بدا اليوم رائعا يشجع على كتابة قصيدة غزل عفيف أو سماع موسيقى عربية مع صوت (فيروز) التي تفوق عظمتها (برابو) هذا وكفّ (انتيغون) الخرافي ذاك.
في تلك اللحظة بالذات ظهرت (سينتيا) الشقراء، تحمل كأسَ نبيذٍ أحمر يتناغم مع شفتيها المتهدّلتين، المثيرتين ووجنتيها المشعّتين مثل كوكبين برّاقين.دعتني بحنان غامر لكي أنضمّ إلى طاولتها المستديرة وهي برفقة ثلاثة رجال خيّل لي، أنهم أشباح طائرة.
لبّيتُ الدعوة وانضممتُ إليهم. تعارفنا بشكل سريع. قرعنا الكؤوس وشربنا. تحدثنا كثيرا بإنجليزية ركيكة، مخلوطة بهولندية مضحكة. أكلنا ثم غنّينا ورقصنا. وفي النهاية حان وقت الانصراف وانصرفنا. فذهب الرجال معا باتجاه واحد وبقيت أنا و(سينتيا) لوحدنا، وهناك رغبة متبادلة للبقاء معا أطول فترة ممكنة. تمشينا بين أزقة المدينة الساكنة، تحاورنا بتفاصيل الذات ورغباتها العميقة. جلسنا على مصاطب عارية وأحيانا افترشنا الأرض وتهامسنا. أحيانا صرخنا معا بفرح غامر. كنا كأطفال عراة نكشف خفايا الشعور وسرّ الرعشة الاولى ونمارس حالة خارجة عن يومنا المعتاد. هكذا تسكعنا بألفة حميمة وفي النهاية تعانقنا. تعانقنا حتى الساعة الرابعة صباحا.
الرجال الذين كانوا معنا هم زملاء لسينتيا يعملون معا بقسم المكتبة في متحف الفن الحديث. أحدهم كان يدعى (يوصت) في العقد الرابع من عمره، طويل القامة، ضعيف البنية، تبدو عليه العصبية واضحة، لكنه يحاول كبتها بطرق مختلفة. يفرط في تناول البطاطا المقلية. يتناول الكثير من المهدئات والمسكنات ويدخن بشراهة مقرفه. كان يمتلك عددا كبيرا من سيديات الأفلام والألعاب الالكترونية. يعيش وحيدا ويكره العيش مع المرأة. حين قرر أن يقتل وحدته اضطر إلى بيع الكثير من أثاث بيته وسيدياته لكي يشتري (مونيكا) بحجم امرأة حقيقية، يمارس معها الجنس طوال الليل! يقول عنها إنها مخلصة وساخنة ولها عواطف جياشة.لا يتردد بين الحين والآخر في بثّ لوعته وأشواقه إليها “حين أعاشرها كأني أعاشر امرأة فذّة ومدهشة”. وعلى الرغم من أنّه لا يحب القراءة والكتابة لكنّه من فرط حبه بدأ يكتب الشعر ويحتفظ بقصاصات ورقية يدّعي أنّها من أشعاره الخاصة، وأنّه سوف يطبعها في كتاب أنيق ويهديه إليها بعد أن يكتب على صفحته الأولى “إلى مونيكا شريكة حياتي الساخنة”.
الثاني يدعى (باتريك). كان أعرج، ضئيلا، قميئا يرتدي ملابسَ ضيقةً بقياساتٍ أصغر من قياسه بدرجة أو بدرجتين. كان شديد البياض، ينتشر النمش البني على أنفه وخدّيْهِ نزولا لرقبته. لا ينبت الشعر في وجهه، كان أملط رقيق الجلد لا يبتسم. لكنّه إذا ما ضحك مضطرًّا، يتجعد وجهه كقطعة إسفنجيه مبعّجة وتختفي عيناه وتظهر أسنانه صفراء كأنها مطلية بصبغة عسلية شفّافة. أخبرتني (سينتيا)، أنّه من مدينة (سيتنيكلاس) التي يُعرف سكانها بالانطواء والعزلة. كان يردّد نظريّة تبدو عميقة، لا تعرف (سينتيا) أهي له أم مستعارة.”الماس واليد المبتورة لعنتان خالدتان تلاحقان سكان أنتوربن، فإمّا أن تجد ماسا براقا وجذابا وثمينا وكريما، وهذا ما لا يأتي دائما، وإمّا أن تجد يدا مبتورة تقطر دما فاسدا ينزف حقدا وكراهية، وهذا ما سوف تجده في كل مكان”. هذه هي النّظرية التي صدّعت رؤوسنا السكرانة.
أمّا (جان بيير) فكان عدوانيا وتسلّطيا لا يتردّد في استغلال نقاط ضعف الآخرين. يعيش في (بورخرهاوت) في عمارة كلها مغاربة. قالت عنه (سينتيا) إنه لم يكن هكذا سابقا. بالعكس، كان ودودا وعطوفا ومحبا للحياة وميالا لمساعدة الآخرين قبل أن يتعرض لحادثتين مؤلمتين. الأولى، حادثة اصطدام قيل إنها مقصودة، أحدثت شقّا واسعا في رأسه نزولا لمنتصف جبينه فعلها سائق تركي تبيّن من تقرير الشرطة أنّه يستغل الأخطاء المرورية للحصول على تعويضات مالية. والحادثة الثانية، فعلها جاره المغربي الذي أعطى كلبه طعاما مسموما أدّى إلى موته، بحجة أنّ الكلب مقرف بتبوله وخرائه في العمارة. هاتان الحادثتان دفعتاه لينضمّ إلى الحزب الفلاماني العنصري (فلامس بيلانغ) الذي أجّج الكراهية في نفسه حدّ التطرّف.
جُمعة (ديموغرافيك)
(بورخرهاوت) أو كما يسميها البلجيكيون (بورخوروكو) تبدو وكأنها مدينة مغربية بامتياز. تحتلّ مساحةً واسعة من مدينة (أنتوربن).المحلات التجارية فيها والمطاعم والمخابز وخطوط الطيران والاتصالات وجميع مكاتب العمل. هي مغربية بلا منازع. والأدهى من هذا كله، حتى مراكز الشرطة وحافلات نقل الركاب يقودها المغاربة وأكاد أجزم أن اللغة العربية هي اللغة الأولى.
هناك فوضى تعمّ المكان.لا تجد احتراما لأنظمة السير ولا لمواعيد حافلات نقل الركاب ولا احتراما لمراجعات المؤسسات التي يهيمن عليها المغاربة. بل حتى العمل والسكن والقروض المصرفية، كلها تابعة للعلاقات العائلية والوساطات.
في (بورخرهاوت) تنتشر المساجد، منها مغربية وتركية وحتى باكستانية. أشهر هذه المساجد هو مسجد (بلال) الذي يقع وسط الأحياء السكنية التي فيها هيمنة واضحة للجاليات المسلمة. شهد هذا المسجد عبر تاريخه الطويل، اقتحامات عديدة من قبل الشرطة الاتحادية، لعدم التزامه بالقوانين البلجيكية التي تشجّع على التعايش. بينما خطباء هذا المسجد يحاولون بث الكراهية في النفوس ويشدّدون على حفظ الآيات القرآنية التي تدعو إلى الجهاد ومحاربة الكفار. سيدة بلجيكية تقدمت بشكوى إلى الشرطة المحلية ضدّ إمام المسجد لأنه نعتها بالكافرة وأخبرها بأنها ستدخل النار. تزامنت هذه الشكوى مع حادثة وقعت لطفلة مغربية كانت تتلقّى دروسَ اللغة العربية في هذا المسجد، حيث تعرضت للعنف الشديد من قبل معلم الدين، لأنها لا تحسن نطق الحروف العربية مما أدّى إلى غلق المسجد لعدّة أيام.
جُمعة (ريكلامه)
شارع (تورنهاوتس بان) هو الشارع الرئيسي في بلدية (بورخرهاوت). لا يزال يحتفظ ببقايا الصور والملصقات الدعائية للانتخابات التي انتشرت على واجهات المحلات والأسواق بشكل واسع منذ أسبوعين، بينما الطقس لا يزال باردا وكئيبا، ولون السماء الرمادي، يوحي وكأن قطط سوداء، ستسقط فوق الرؤوس. في هذا الوقت تماما، وضع أحد المرشحين من الحزب العنصري الفلاماني (فلامس بيلانغ) إعلانا ساخرا على كارت الإعلانات الشخصية الخاص بالانتخابات ووزّعه على جميع صناديق البريد في (بورخورهاوت)، يقول فيه: “أيها الأجنبي، انتخبني وسأعيدك إلى بلدك سالما”. الجالية المسلمة اعتبرت هذا الإعلان، تحدّيا وانتهاكا صارخا لإنسانيتها وممارسة حاقدة لعنصرية بغيضة.
جُمعة (رياكسي)
خطبة الجُمعة كانت واحدة في جميع مساجد (بورخرهاوت) تناولت موضوع العنصرية. وتحديدا ذلك الإعلان الساخر الذي أطلقه عضو الحزب الفلاماني (فلامس بيلانغ) والذي دعا فيه الأجانب إلى انتخابه لكي يرحّلهم بسلام إلى بلدانهم. حاول خطباء المساجد تحريف هذا النداء، بالاتجاه الذي يوحي وكأنه يخصّ المسلمين وحدهم، بل لم يتردّد بعض الخطباء في تحريف عبارة (أيها الأجنبي…) إلى عبارة (أيها المسلم…) من أجل التأثير على عواطف الناس وتوجيهها باتجاه وقفة احتجاجية حاسمة ضد هذا العنصري وحزبه السيء الصيت.
“القِصاص القِصاص، يجب أن نعطي درسا بليغا قاسيا لهذا المعتوه أو لغيره، لكي لا يجرؤ كائنا من يكون على أن يكرّر هذا الاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان في اختيار دينه”. هذه العبارة تردّدت في جميع المساجد وتحوّلت هذه الخطبة إلى حديث يوميّ في البيوت والمقاهي والشوارع وجميع المؤسسات. اندفع الكثير من الشباب للتنظير لإقامة وقفة احتجاجية وتنظيم مظاهرة شاملة تطالب بالقِصاص من ذلك العنصري البغيض. وعلى هذا الأساس، تحرّك الكثير من القانونيين والمترجمين ومسؤولي بعض المؤسسات، للحصول على موافقات حكومية من أجل التظاهر العلني، بعد أن قدّموا قوائم بأسماء الراغبين في التظاهر والذين بلغ عددهم الآلاف. ولأنّ الموضوع فيه حساسية عنصرية، وخوفا من أن ينفجر الوضع إلى أعمال عنفٍ وفوضى فيما لو حدث أيّ احتكاك بين الفريقين المتخاصمين، رفضتِ الحكومة البلجيكية منح الموافقة للتظاهر بل وحذرت من الخروج غير الرسمي. لكن مع ذلك، أصرّت الحشود الشبابية على أن تخرج بمسيرة سلمية تجوب شوارع (أنتوربن) وحدّدوا موعدا للانطلاق بعد صلاة الجُمعة القادم وقالوا “المظاهرة ستبدأ من مسجد (بلال) باتجاه (تورنهاوتس بان) وصولا إلى ساحة (أستريد)”ثمَّ اتّفقوا على تحضير لافتاتٍ يخطّون عليها شعاراتٍ بالغة القسوة ضد العنصرية، وبلغات متعدّدة من ضمنها اللغة العربية.
جُمعة (كاتلين فان هوفا)
اليوم هو موعدي المرتقب مع جوزيف الذي رتّبه أيضا مع المرأة التي ستمنحني الإقامة بعشرة آلاف يورو مقابل عقد زواج نصبح من خلاله زوجين مسجلين بشكل رسمي. في الحقيقة، هذا المبلغ ليس كله للمرأة. بل نصفه لجوزيف، باعتباره هو الوسيط المسّهل لكلّ إجراءات البلدية وما يتطلبه الزواج من إجراءات ثانوية أخرى. المهم أن المبلغ الذي عليّ أن أدفعه لابد أن يكون نقدا! أما إلى أيّ جيب سيذهب؟ هذا ليس من شأني على حد قول جوزيف.
جلستُ في المقهى قرب النافذة المطلة على فندق (أستريد)، الشامخ في وسط الساحة التي تضج بالعابرين. طلبت قهوتي وأنا أبحث بين النساء عن امرأة (ما) متحاشيا كلّ امرأة ترتدي حجابا.
“لابد ان أحصل على الإقامة لكي أعمل بجدٍ وأعوّض هذا المبلغ الذي سيأخذه المحتال جوزيف وتلك المرأة التاجرة”… “(بين التاجر والفاجر خيط رفيع).ترى كم مرة فعلتها تلك الفاجرة؟”… “يا إلهي، ماذا لو أن المرأة شابة جميلة؟ هل ستقبل بي؟”… “لِمَ لا؟ فغايتها الأولى والاخيرة هي المال!”… “ربما تحبني، ربما تصبح زوجة حقيقية لي، ترعاني وأرعاها! زوجة جوزيف اللعين أمامي خير مثال!”… “يقول محمود درويش في إحدى قصائده، كلّ النساء جميلات، لكن أنثى واحدة تكفي!”… “أية أنثى أنت يا زوجتي القادمة؟… ترى هل تشبهين سينتيا في شيء؟هيا تعالي وخلصيني”… “لكنّ سينتيا، امرأة لن تتكرر… إنّها صادقة وكريمة. لم تتردّد مطلقا بمنحي المال والعاطفة”… “سينتيا، لك الجنة لامحالة”…
في خضمّ هذه الأفكار، حضر جوزيف بمعية سيدة أنيقة تجاوزت الثلاثين من عمرها مدهشة وشهية، ثوبها الأحمر القصير وحذاؤها الأسود مع شنطة سوداء جعلاها تبدو وكأنّها أميرة جذابة، قدّمها لي اللعين على أنّها زوجتي: “كاتلين فان هوفا، زوجتك يا أيها المحظوظ!”.
جمعة (أدفيس)
في هذا الوقت حضرت (سينتيا) لاهثة كأنها جاءت جريا على الأقدام مرتبكة ومحذرة من خطورة المكان صارخة بوجهي: “هيّا.. ربما سيشهد هذا المكان مصادمات عنيفة”، هكذا قالت وهي تحاول دفعي إلى الخارج.لكنني كنت مصرا على أن أتْمِم الصفقة قبل الرحيل. فعلا كان هناك أعداد بشرية هائلة في ساحة (أستريد) وهناك انتشار غير مسبوق للشرطة البلجيكية. كانوا مدجّجين بالأسلحة والمعدات، لكنهم يحاولون بطرق سلمية وهادئة أن يفرّقوا هذا التجمع البشري الهائل. يتحاورون مع أشخاص ملتحين يبدو عليهم الخوف والارتباك. بعد ساعتين أو أكثر تفرّق الناس وذهب كلٌّ إلى جهته. تبيّن فيما بعد أن هذه التجمعات كانت مظاهرة غير رسمية وأن الشرطة البلجيكية كانت قد اتصلت بأمين عام الحزب الإسلامي، وهو الذي فرّق المتظاهرين اعتمادا على فتوى دينية تقول: (المظاهرات شرّ يؤدّي إلى الفوضى، قد يحصل فيها اعتداء على الأعراض والأموال والأبدان لأنّ المتظاهر كالسّكران لا يعلم ما يقول وما يفعل.)
جُمعة (هارموني)
علاقتي (بكاتلين فان هوفا) تطوّرت بشكل سريع. أصبحت أكثر من (زواج على الأوراق).ظهر نوع من التعاطف والقبول المتبادل بيننا، يمكن أن نسميه (تآلفا أو تعاهدا) متّفقا عليه. خرجنا معا. دخلنا مطاعم وسينمات وشاهدنا أفلامًا ومسلسلات كثيرة. تحوّلت علاقتنا إلى علاقة خاصة، فيها مساحة من الودّ والارتباط. (كاتلين) ولدت خنثى!!! عاشت (ذكرا- انثى) لعشرين عاما، ثم تحوّلت بقدرة قادر إلى أنثى مثيرة، تقول:”إصراري على أن أكون جنسا أنثويا دفعني إلى الالتزام بكلّ تعليمات الطبيب، وحبوب الهورمونات التي تعاطيتُها كان لها الأثر الأكبر في تشجيعي ودفعي إلى إجراء عمليات جراحية وتجميلية متعدّدة جعلت مني في النهاية أنثى حقيقية.”
كاتلين امرأة طيبة وحنون. مدهشة، مثيرة وشبقية في نظرتها ومشيتها.لكن المثير للغرابة أنها ظلت لا تستمتع بالمضاجعة إلّا من دبرها وكانت تُنظِّر لذلك تنظيرا عميقا! كنت حين ألمسها أشمئز منها وتقرف نفسي من حالها فأهجرها أياما وأسابيع وأحيانا أفكر ألّا أعود إليها أبدا! هذا الإحساس دائما يدفعني إلى (سينتيا) المفتونة بقبحي. الشقراء التي أحنّ إليها والتي أتذكرها بعاطفة عميقة جدا، فأتواصل معها برغبة العقل والقلب معا. (سينتيا) امرأة هائلة أذوب بسهولة فيها وأشعر أني أتسلل عبر مساماتها إلى أعماقها. كنت حين أضاجعها، تصدح بصوت مسموع: “آه حبيبي ما أجملك…هيّا إلى مكمن اللذة… أولجه…قمة النشوة… إلى العمق يا حبيبي… آه… رائع… أنت مثير وساخن كالجمرة… لذيذ… هيا… اضربني… بقوة رجاءً… بقوة… هيّا…هيّا…إنها قادمة… قادمة…هيّا، هيّا”. وتظل تصرخ وتصرخ حتى تصاب بالإعياء.
جُمعة (بيوخرافي)
في صباح صيفيّ غائم، قرأت إعلانا غريبا عن وظيفة شاغرة، نشرهُ متحف الفن الحديث في الموقع الالكتروني التابع لمكتب العمل للمناطق الفلامنكية، يعلن فيه عن حاجته إلى موظف لديه خبرة جيدة في تعليق اللوحات الفنية وتوزيعها حسب التدرّج اللوني أو الهورموني. كان الإعلان يشدّد على شرط أن يمتلك المتقدّم لهذه الوظيفة موهبة فنية خاصة ومعرفة جيدة باللون والإضاءة. هذه هي أصعب الشروط الموجودة في الإعلان وأغربها، عدا ذلك كانت الشروط عامة تكاد تكون متوفرة فيّ أو في غيري. قلت: “سينتيا، أنظري لهذه الفرصة العظيمة للعمل معكم، هل عندك فكرة عنها؟” أجابت: “لا”.قلت “إنّها فرصة فريدة بل أمنية قد لا يحصل عليها حتى البارعون!”.
لما رأت لهفتي، قرأت الإعلان باهتمام وتمعّنت فيه جيدا ثم أسرعت بفتح سيرتي الذاتية وبشيء من الذكاء وسرعة البديهة قامت بإدخال بعض العبارات التي تنسجم مع شروط العمل. مثلا، كتبت في حقل المواهب: ممارسة للرسم التجريدي مع إحساس باللون والخطوط، خبرة جيدة في الأعمال اليدوية وممارسة فعلية بالمسارح في مجال الصوتيات والإنارة، إضافة إلى موهبة في الشعر وبضع مؤلفات في النقد الأدبي والفني طُبعت باللغة الأم. ثم قالت مبتسمة “هيّا، ادفع إليهم بسيرتك الذاتية هذه”. بهذه الإضافات، أحكمت (سينتيا) نبذتي الذاتية جيدا وفتحت بابا قد يكون مدخلا سهلا لقبولي للعمل معها، أقصد كموظّف في متحف الفن الحديث. حين ذيّلتُ طلب التوظيف بتاريخ اليوم، لم أنتبه إلى أنّه يوم الجمعة الثلاثين من يوليو، حيث كان من المفترض أن أغادر هذا العالم، قبل نحو عشرين سنة.
كاتب عراقي، بلجيكا
[email protected]