“بلهاء الوادي” قصة قصيرة للكاتبة العراقية ليلى قصراني

Tepoztlán-Morelosذات صباح مكسيكي دافيء، قررت أن اترك خلفي ضجيج العاصمة المكسيكة بأن أزور مدينة تابوستلان الهادئة، وصلت بعد ساعة ونصف ونزلت من الحافلة في المحطة الخالية من الناس فيما اقترب مني سائق تاكسي جريء، حمل حقيبتي الصغيرة دون أن يسألني عن وجهتي، قال ما أن جلست في المقعد الخلفي، “يوم واحد يكفي لتفقد تابوستلان، لكن عليك أن تخرجي إلى أطراف المدينة وهناك سترين العجائب”
وقفت المركبة عند الإشارة الضوئية الوحيدة في المدينة، كان شباك السائق نصف مفتوحا، أطلت امرأة قصيرة القامة برأسها، أخافتني بوجهها المجعد وصوتها الصديء، كررت كلمات مبهمة، تجاهلها الرجل وكأنها غير موجودة، لكن ما أن تغيرت الإشارة وتحرك، قال “لا تأبهي بها، الجميع يعرفها، إنها بلهاء الوادي”.
كنت مأخوذة بجمال المدينة وجبالها السامقة، ركن السائق سيارته في زاوية وقال “أترين ذاك الجبل، إنه بركان راكد، سنذهب إليه عند الظهيرة إن شئت.”
قلت له، “معذرة سيدي، لكني أحبذ أن اكتشف المكان بمفردي،” دفعت له الأجرة، ثم أخذت حقيبتي ونزلت أتمشى حتى وصلت وسط البلدة، تسكعت في ساحاتها الجميلة ثم اتجهت نحو السوق الذي يبيع أشياء غريبة، تعجبت من غرابة وجوه سكان تابوستلان، ثمة مسحة غريبة تظللهم، وكأنهم قد انصرفوا للتو من الحضرة الإلهية. على ذكر “رقيب الناس” ثمة بيت له عند السوق، كنيسة قديمة متوارية خلف بعض الأشجار العالية، مشيت نحوها كمن به مس، رأيت طفلا واقفا عند البوابة يرتدي زيا مدرسيا، نظر اليّ وأشار بيده الصغيرة إلى البوابة وما حولها، تمعنت في نقوشاتها، بدا العمل من بعيد وكأنه فسيفساء لكنه منقوش بحبوب البقوليات الناشفة من فاصولياء لونت بألوان صارخة، تمتم الصغير ببعض الكلمات ولم افهم منها شيئا لأني لا أتكلم الأسبانية بطلاقة، تجاهلته رغم أنه كان يحاول جاهدا أن يحذرني من شيء، شعرت بقلبي ينقبض حينما ابتعد عني وهو يضحك ساخرا مني لا أعرف لماذا.

كنيسة تابوستلان
كنيسة تابوستلان

دخلت الكنيسة ، ثمة ثلاث راهبات ورعات ينظفن أرض الكنيسة، قادتني إحداهن حيث المذبح: جسد يسوع الخشبي راقدا في تابوت ابيض. بعض الزهور الاصطناعية مرمية في ذات الصندوق، انزعجت من المنظر ومن رائحة البخور المحترق عند المذبح، فتحت حقيبتي ووضعت في صندوق التقدمة بعض المال، وخرجت. تمشيت في حديقة الكنيسة ولم أدخل الدير المجاور. اكتفيت بمنظر تلاميذ المدرسة العشاق وهم قد زاغوا من المدرسة ليختلسوا بعض سويعات الخلوة ، متجاهلين كليا اللافتة التي تحذر بأن من يعمل الفحشاء في حرم الكنيسة سوف يعاقب قانونيا.
ما أن تركت الكنيسة حتى سمعت صوتا قادما من ورائي، التفت ولم يكن هناك أحد، بعد قليل رن هاتفي وكان صاحب الفندق يتصل بي ليؤكد الحجز، وقبل أن تنتهي المكالمة انقطع الخط. حاولت بدون جدوى أن اتصل به، عاودت المحاولة ولم افلح. فجأة فرغ هاتفي النقال كليا من الطاقة وانطفأ رغم أني كنت في الصباح قد شحنته بالكامل قبل انطلاقي من العاصمة، ولم استخدمه طوال الطريق، لعنت صناع الأجهزة الالكترونية التي بسببهم اصبحت حياتنا أكثر تعقيدا.
الطبيعة في المدينة ادهشتني، اشجار الفواكه الإستوائية بألوانها المرزكشة والزهور العجيبة سلبت عقلي. هواء المدينة اشعرني بالحنين إلى شيء لا اعرف ما هو. وصلت الفندق، نصحني موظف الاستعلامات، “لا تفتحي الشبابيك، صوت نواح الكلاب في الليل مزعج” قال موظف الإستعلامات بعد أن سلمني المفتاح. دخلت الغرفة ورميت بحاجاتي بإهمال ونمت القيلولة.

أيقظني إدماني على الشاي، كانت الساعة الرابعة عصرا، صنعت الشاي بنفسي في الغرفة، كنت قد جلبت معي ظروف الشاي معي، أيضا حليب باودر كامل الدسم. ثم تذكرت أن اشحن هاتفي، رغم أني لم أكن بحاجة إليه. كان الهدف من سفرتي تلك هي الخلوة.
لاحظت بأنه لم يكن مناشف في الحمام، ذهبت إلى موظف الإستعلامات لإخبره، “سأبعث عاملة النظافة فورا لتجلب لك ما تحتاجين.”
انتظرتها ولم تأت، خرجت لأتمشى في حدائق الفندق، استمتعت بمنظر التماثيل الجميلة، أيضا الزهور والشجيرات المقلمة بعناية، الطيور الملونة تحط على الأشجار ثم سرعان ما تحلق بعيدا.
رجعت إلى غرفتي لأرى بأن عاملة النظافة قد تركت بعض المناشف بعد أن رتبتها بعناية ووضعتها فوق السرير، لكن الشباك كان مفتوحا، اغلقته خوفا من البعوض. رغم أنه لم يكن موسم الحشرات الصيفية. شعرت بأن هناك شخصا في الحمام، دفعت الباب، وضحكت على نفسي فلا يمكن أن أكون جبانة إلى هذا الحد ، أنا التي جبت بلادا كثيرة دون أن ينتابني شعورا بالخوف. لقد كونت لنفسي فلسفة خاصة بي عن السفر شعارها أن الخوف والفضول لا يجتمعان ومع ذلك امتلأ قلبي بالرهبة من شيء لا أقدر أن اصفه بكلمات.

tepozlan-001نزلت إلى وسط البلد لأتعشى، لكني شعرت وأنا أتمشى نحو الوادي بأن شخصا ما يتعقب خطواتي، مشيت بسرعة فوجدت نفسي اتلفت بين الحين والآخر، إذ شعرت بثقل غير عادي على كتفي. وما أن وصلت السوق حتى جلست أرقب الباعة المتجولين، نساء مع صغارهم الذين يلعبون في كل مكان. تعيشت سريعا ثم تمشيت في السوق. وقفت عند بائعة الجرار الفخارية. شابة يافعة بشعر كثيف طويل وبشرة ناعمة وعينان بلوريتان ، سألتني إن كنت زائرة، ثم قالت كلام لم افهمه لكني شعرت بأن ما تقصده هو أن خلفي ثمة كائنات هلامية ترقص. بررت عدم فهمي وقلت لابد أنها قصدت شيئا آخر، تمشيت ساعة الغسق نحو الفندق، كنت منهكة، جلست أقرأ ويبدو أنني استسلمت للنوم رغم أنه لم يكن وقت رقادي قد حان. حلمت بمنام عجيب، ، ولا أعرف إن كان الحلم الذي رأيته مناما أم رؤية، فبين نومي ويقظتي رأيت وإذا بي أدخل دهليزا قادني إلى عمق الأرض، وفجأة تحول النفق إلى عين الحرباء، شعرت بمادة لزجة من حولي وأقدامي ، كان من الصعب على أطرافي أن تستجيب لإرادتي وهي أن اتخلص من هذه الورطة ، وبعد أن حاربت هذا الشعور طفت إلى أعلى الأرض وهذه المرة وصلت إلى فم البركان الراقد في أعلى الجبل، فجأة شعرت بأني قادرة على معرفة كل ما في داخلي وبأني كنت أقرأ حياتي ما قبل ولادتي وأنا في بطن أمي، اللعنة، لقد حاولت والدتي أن تتخلص مني مرات كثيرة. رأيت بعض الكائنات العليا تحوم حول البركان، لم يكن طولها يزيد على الثلاثة أقدام، وكانت تريد أن تساعدني لكني سرعان ما استيقظت فزعة، كانت خيوط الفجر قد بدأت تكشف عن نورها، فمي يبس ولصق لساني بحلقي، قمت لأشرب لكن قبل أن انزل من السرير تحسست بقدمي ما بين ملآت الفراش، وإذا بشيء خشن كأنه الملح ، كشفت عن الشراشف وإذا به رمل أسود وقدماي كانتا قد أسودتا، نفضت الفرش. تركت فراشي وجلست أصلي كي تكشف لي الكائنات الهلامية ذاتها.
بعد ساعات شعرت بالجوع، على طاولة الفطور ترك أحدهم بعض المعلومات السياحية عن الجبال والبراكين في المنطقة، تمعنت في إحدى الصور وإذا به ذات البركان الذي قد زرته في منامي. خرجت إلى الشارع واستأجرت تاكسي وقلت له أن يأخذني إلى ذات البركان، بعد أن رأى السائق الصورة، أومأ إلي بالركوب.
سألني إن كنت نزيلة فندق “فجر تابوستلان”، قلت له بلى، ضحك وقال بأن هناك ساحرة تعمل هناك، وهي مسخّرة من قبل رئيس الهواء لكنها غير مؤذية، تماما مثل الكائنات التي عندنا هنا، لكل منا كائن مصنوع من البلازما يخرج من أعماق الأرض ليحمينا. كلماته دغدغت قلبي باحساس غريب وفي تلك اللحظة شعرت بأني لا أريد شيئا من الحياة، تملكني نعاس غريب ونحن نصعد باتجاه البركان. فجأة توقف السائق ونزل ثم فتح لي الباب، من خلفه رأيت مخلوقا نورانيا طوله حوالي متر، وما أن نزلت من سيارة الأجرة حتى رأيت منظرا عجيبا وإذا بالجبل الأسود هو ذاته الذي كان في رؤيتي الليلة السابقة، “الثقوب السوداء مساكن الكائنات البلازيمة، لقد جاءت من زمن غابر وصنعت لنفسها بيوتا وهذا مسكنها.” قال الرجل.
“سيكون لديك أنت أيضا كائنا خاصا بك من هذه المخلوقات وهو سيحميك،” قال الرجل ضاحكا.
“ما وظيفة المخلوقات هذه؟” سألت الرجل بسذاجة. لكن لشدة دهشتي أخذ الرجل سؤالي بجدية وقال، “لقد رأفت بهم الطبيعة وبعثتهم هنا، لتحميهم من قساوة الأنسان، بل هربوا من جميع أنحاء العالم وجاءوا هنا إلى تابوستلان، لم يكن يعيش هنا أحدا غير بعض المتعبدين لهذه الجبال، هم بناه الهرم الصغير في أعلى الجبل هناك من الجهة الأخرى من الوادي، وهم هنا من أجل حمايتنا.”
“خذني إلى الهرم.” قلت له باندفاع.
“لا أقدر أن آخذك، عليك أن تتسلقي الجبل كي تصلي إليه،”
“أتسلق؟ لا يمكنني أن اتسلق، أخاف من المرتفعات.”
ضحك وقال، هنالك درجات بناها بعض الشباب القادمين من أوربا.
أخذني السائق حتى وصلت إلى أعلى الجبل حيث الهرم يقف وسط الصخور. وبدأت في الإرتفاع. مشيت على الأربع كي أصل بسرعة، فجأة شعرت بشيء دافيء يحط على ظهري، لم انظر إلى الوادي كي لا أرى منظر المدينة من أسفل فأخاف، قبل أن أصل إلى منتصف الطريق إلى الهرم سمعت صوت ضحك، ضحك لا هو لرجل ولا لامرأة ، التفت حولي وإذا بالكائنات الهلامية تقفز من حولي. تجمدت في مكاني، رفعت رأسي فوق الدرجات باتجاه الهرم وإذا بذات المرأة والتي قال عنها سائق الأجرة أنها “بلهاء الوادي”، لكن هذه المرة كانت بحلة ربانية والكائنات الهلامية تسجد لها.
نزلت مسرعة تاركة الهرم خلفي وأيضا بلهاء الوادي التي لم تكن تتحرك، ركضت نحو فندق فجر تابوستلان وولجت فراشي.

ليلى قصراني 3
ليلى قصراني Layla Qasrany

في اليوم التالي، قررت أن ارجع إلى العاصمة المكسيكية، ركبت الباص محاولة أن انسى كل ما حدث معي.
تصفحت كتاب الدليل السياحي الذي فيه جاء تحذير يقول “لا تستعمل الهواتف النقالة في تابوستلان، صخور الكوارتز الوردية، تتعارض مع استخدامها، بل تعطلها، أيضا ثمة كائنات هلامية، مخلوقات غير مرئية تظهر بين فترة وأخرى، لا يراها إلا من كان له ماض تعيس وهي هناك لتساعده، شرط أن يعرف كيف يتعامل معها ويضع الخوف جانبا.”
اغمضت عيني والقيت برأسي إلى خلف المقعد في الحافلة وهي تحملني إلى العاصمية مكسيكو سيتي مع أحزاني.

شيكاغو
[email protected]

SHARE