
“البرد شديد في الخارج”. قال الزوج لزوجته، وهو يهّمُ بنقلها إلى المستشفى، بعد أن تأكد بأن الأمر لا يقبل التأجيل، ولو إلى الفجر. ساعدها في ركوب السيارة بينما هي تتأوه وتتنفس بسرعة، ثم أخذ مكانه خلف المقود وأدار المحرك وهو يقول: “من النادر أن يجد المرء إنسانا في الخارج الآن”. بدا قلقا، بل خائفا، وكان عزاؤه الوحيد سيارته ذات الموديل الحديث. “ما هي إلا دقائق ونصل”. طمأن زوجته، وهو يسلك الفرع المؤدي إلى الشارع الرئيسي، ومن ثم الجسر القديم، أقصر الطرق إلى الجانب الأيمن من مدينة الموصل حيث مستشفى الولادة الوحيدة فيها.
الظلمة تغمر كلّ شيء، والسكون يضفي المزيد من الرهبة على الشوارع والبنايات. لا كهرباء، ولا أتصالات. ولاتوجد أسواق مفتوحة، أو خدمات متاحة. ومع ذلك عليه أن يجّرب الذهاب إلى المستشفى. هذه المدينة الزاخرة بالأشياء الجميلة تحوّلت إلى مكان للأشباح، ولا يسمع فيها سوى نباح بعض الكلاب السائبة، والتي تتخذ من تحت الجسور مأوىً لها، وعند نهاية الجسر، وبداية الشارع المؤدي إلى المستشفيات الحكومية راوده الأمل في أيجاد طبيب خفر يقدّم العون للحالات الطارئة التي تشبه حالة زوجته. فجأة انبرى بعض الملثمين مصُوّبين بنادقهم نحو السيارة. توقف ليخبرهم بالأمر الطارئ، ولكن بأسرع، وأسهل طريقة أوجدها الإنسان ليتخلص من أخيه الإنسان تخلصوا منه، وأزاحوه من وراء المقود، وبكل برود سحبوا السيدَة من يدها، وألقوا بها في الخارج وابتعدوا بالسيارة.
من هول الصدمة، والسرعة التي حدث بها كلّ شيء عقد لسانها، ولم تعد تستطيع حتى الصراخ. نظرت إلى جثة زوجها. أرادت أن تزحف إليه، ولكن سرعان ما شعرت ببعض التقلصات ثم بلزوجة. كفّتاها التحّمتا بالإسفلت المتجمد، ونتيجة الحالة تجمّعت بعض حبيبات العرق البارد على جبينها لتعلن عن قدوم مولود جديد، ثم التقت العيون، عينا الأم المرعوبة، وعيون واسعة لمّاعة قدمت من تحت الجسر. قبض الرعب على نـفس المرأة ولاشعوريا ضّمت ساقيها. بدأ اللعاب يسيل من أفواه الكلاب، وقد كشّرت عن أنياب لم تذق الطعام منذ عدّة أيام، رغبت الأم بالزحف للوراء، فتقدّم أحد الكلاب. أطلقت آهة متقطعة مجنونة، ولكنها لم تستطع منع الحيوان من حشر رأسه بيــن رجليها. غرز أنيابه في اللحم الطري. أخذ قضمه، وتراجع بضع خطوات وكأنه يفسح المجال للآخـــرين ليتذوّقوا بدورهم هذه الوجبة الساخنة في هذا البرد الكافر. جحظت العيون، وأرتجفت الشفاه باحثه عن شيء تقوله أو تفعله. أيّ شيء، فلم تعد الأم بحاجة لنجدة. وما تحتاجه هو صوتها؛ لتدعوا الجميع إلى هذه الوليمة.