المشطور، رواية جديدة صدرت عن منشورات الجمل للروائي العراقي ضياء جبيلي، وهي الأخيرة من مجموع ست روايات، وقد جاءت بواقع 240 صفحة، متضمنة عنواناً فرعياً : ست طرائق غير شرعية لاجتياز الحدود نحو بغداد.
ثمة سؤال بدأ بالتردد في العراق بكثرة منذ عام 2003، عبر الحدود وفي نقاط التفتيش الوهمية والمناطق ذات الكثافة المذهبية، وحتى في المؤسسات الرسمية : هل أنت سني أم شيعي ؟ الموقف الذي حُشر وسط نيرانه الآلاف من العراقيين، ومنه بدأت محنة مواطن حاول إثبات عراقيته من دون تحديد هويته الطائفية، فأدى ذلك لشطره إلى نصفين متساويين من قبل إرهابيين أجنبيين، أفغاني وشيشاني، بواسطة منشار كهربائي لقطع الأشجار، نكاية به وبإصراره على أنه عراقي فحسب. لتبدأ بعدها محنة أخرى هي محنة نصفا ذلك المواطن ( الراوي ) في اجتياز الحدود الستة للعراق والوصول إلى بغداد من أجل العثور على طريقة تعيدهما إلى الالتحام في كيان وجسد واحد، الطريقة التي لا توجد إلا في رواية الفيسكونت المشطور لكالفينو. فهل ينجحان في إيجادها، وإذا ما وجداها، هل سيلتحمان أم يحدث العكس ؟ هذا ما ستكشف عنه هذه الفنطازيا الهزلية التراجيكومية الساخرة، التي وظف فيها الكاتب الأحداث الغرائبية من أجل إيجاد صيغة تقريبية لما آلت إليه أوضاع العراق منذ الاحتلال الأمريكي البريطاني.
تتكون الرواية من ستة فصول تجري أحداثها، على مدى أشهر، على طول الحدود العراقية مع دول الجوار الست والمدن المتاخمة لها وفي بغداد، قبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي على مدينة الموصل وأثناء ذلك. وهي الرواية السادسة بالإضافة إلى خمس روايات سابقة، ومجموعتان قصصيتان أصدرها الكاتب على مدى عشر سنوات.
مقطع من الرواية :
استعر الغضب في رأس الشيشاني حتى كاد يحرق شعره. ولا أعرف إن خيّل لي ذلك أم أنه حدث حقاً : تصاعد الدخان من رأسه وهو ينتزع الغلاف البلاستيكي من ” الهوية ” ويمزّقها، يجزأها إلى ثلاث قطع بالعرض ويقذفها في وجهي مع بصقة ساخنة علقت برموش عيني اليسرى :
” كلب، أجرب، زنديق، تفوووو ! “
تقدم نحوي ليضربني، فكان لوقع أقدامه جلبة كأنها آتية من فوقي وليس من أمامي، مرعبة وتنذر بالشر. كان يفحّ كأفعى مجنونة، تحكها لثتاها وتريد أن تغرز نابيها في لحمي وتستمني سمّها في دمي لتهدأ. جاء صوت الأفغاني فجأة. كان ما يزال يفرغ حقيبتي من محتوياتها ويعلّق على كل غرض منها. صاح بدهشة :
” هاتف نقّال ! “
فخطرت للشيشاني فكرة اكتشفتها على الفور. سيتصوّران معي !
كانا سيفعلان ذلك قبل أن يقتلاني، إلا أن مشكلة طرأت في حينها وعرقلتهما : الرقم السري ! وبما أني كبقية الأزواج العراقيين ممن يكوّنون علاقات خارج إطار الزواج، فقد جعلت رقماً سرياً لهاتفي النقال لن يصل إليه أحد بما فيهم الشيطان. وبما أني ميت لا محالة، لن أعطيهم هذا الرقم. هكذا قررت. وهذا ما فهماه هما في النهاية بعد مماطلة دامت لأكثر من نصف ساعة. ولأول مرة في حياتي، أكون عنيداً مثل حمار، عنيد بما يكفي لأن أسلم نفسي للموت من دون أن أفكر بإعطائهما الرقم السري. فليموتا بغيضهما.
لا أعلم بعدها كم مرة تلقيت الضربات من عقب بندقية الشيشاني، على رأسي، على صدري، على ظهري، كتفي، بطني، جبيني. في حين كان الأفغاني يرفسني ببسطاله الثقيل، ويركز ضرباته على وسطي، وتحديداً على خصيتيّ، وكأنه عزم أمره على إخصائي. تنحى بعدها جانباً، وراح يحاول جاهداً فك الرمز الذي وضعته قفلاً للهاتف. لكن ثمة ما ألهاه، وجعل شفتيه ترفّان مثل ردفي حصان أضناهما لسع الذباب. وعلى ما يبدو أنها مونيكا بيلوتشي، نجمتي المفضلة، هي من ألهته، إذ سبق وأن وضعت صورتها شبه العارية كخلفية على شاشة الهاتف الذكي. وفجأة، بينما هو ينطط عينيه واللعاب يسيل من طرفي فمه مثل كلب سلوقي محروم ومكبوت جنسياً، جحظ الأفغاني بعينيه وحدجني بمكر، حتى أنه غمزني بطرفه مثل عاهرة عجوز متكئة على عمود إنارة في شارع خلفي. فعلمت في حينها أن سحر بيلوتشي انتهى في اللحظة التي وشى بي الهاتف اللعين الذي رفض بصمة وجه الأفغاني، لكنه في الوقت نفسه كشفني، وسلّمني إلى المزيد من العذاب. مرت دقيقة أو دقيقتان انهمك خلالها الإرهابيان في تعديل هندامهما وتمشيط لحيتهما استعداداً لالتقاط صورة معي، يعلم الله إلى من سيرسلانها فيما بعد، ربما إلى زوجتي، أو أمي أو أبي أو أحد أخوتي أو اصدقائي، أو ربما إلى إحدى القنوات الفضائية لتعرضها على شاشتها تحت عنوان عريض : الضحية قبل القتل !
أعاداني إلى الوضع المُذلّ، المهين، الذي يحبذان أن أكون عليه دائماً، جاثياً على ركبتيّ. الأفغاني وقف إلى يميني، والشيشاني إلى يساري. أسندا أيديهما على ركبتيهما وانحنيا. قرّب الأفغاني الهاتف من وجهي وانتظر أن يُفتح القفل ويلتقط الصورة. أعاد المحاولة مرات عديدة، لكن.. لا فائدة، فلن يُفتح. كنت أعرف السبب، لكني لم أخبرهما حتى اكتشفا ذلك بنفسيهما : إنها الدماء. الدماء التي غطّت وجهي بالكامل هي من عرقلت عملية فك الرمز. لكنهما لم ييأسا، إنما شرعا بغسل وجهي وأزالا قناع الدم الكثيف عنه، وعادا ليجربا ثانية، لكن من دون جدوى أيضاً. والسبب هذه المرة هو أنهما لم يتركا مسامة في وجهي من دون أن يشوّهانها. كسرا أنفي الملعونان. شقّا شفتيَّ. هشّما أسناني. شجّا جبيني وبضّعا ما تحت عينيّ. لهذا، وللمرة الثانية لم يتعرف عليّ هاتفي النقال.
إلى هذا الحد، كفّ الاثنان عن محاولاتهما الفاشلة، واتفقا على التخلص مني.
في حينها، آثرت الموت على تحمل المزيد من هذا التعذيب المهين. حتى لو قلت لهم أني من هذه الطائفة أو تلك فلن يتركوني. فإذا قلت لهم أني شيعي سيقتلونني فوراً، وإذا قلت لهم أني سنّي سيرددون ” دولة الإسلام باقية ” ثم ينتظرون مني إكمال العبارة بـ ” تتمدد ” لتكتمل البيعة، ولن يكتفوا بذلك، إنما سيطلبون مني إثباتات لن أقدر على الاتيان بها، لأنهما ببساطة ليسا عراقيين. إذا قلت لهم أني شيعي سأبدو مثل سنّي يكذب، وإذا قلت لهم أني سنّي سأبدو مثل شيعي يكذب.
هكذا صرت انتظر رصاصة الرحمة التي لا بد أن يثقب أحدهما رأسي بها في النهاية. وكان الشيشاني على وشك أن يطلقها لولا أن صوتاً انبعث على نحو فجائي من مكان ما ليس بعيداً، وأوقف تنفيذ الإعدام مؤقتاً.
موطنـــــــــــي… موطنــــــــي !
ما هذا الهراء ؟! ” كما لو أن أحداً غرز خازوقاً في دبره، صاح الشيشاني : ” من أين يأتي هذا الصوت ؟ “
الجلال والجمال والسناء والبهاء…
” أوقف هذا البراز ! ” نهق الشيشاني مجدداً، فأخرج الأفغاني هاتفي النقال من جيبه وأسكت الصوت. حسنٌ أنه لم يرد على المكالمة، فربما تكون تلك أمي، أو زوجتي، أو أحد أفراد أسرتي. لا أعرف. ولم يعد مهماً أن أعرف. كما لم يعد مهماً أن أعرف الطريقة التي سأُقتل بها، أو نوع الآلة التي سينفذون بها خطة الإعدام التي قرر الاثنان تغييرها فجأة، وكأنهما ضجرا من اجترار الطريقة نفسها في القتل، فاخترعا طريقة جديدة لم تخطر على بال أحد من قبل سوى كالفينو.
” حسناً ” سمعت الأفغاني يقول بصوته الأخن : ” سنعرف إلى أي الطائفتين تنتمي أيها العجل، لكن بطريقتنا.. انتظر “
اتجه بعد ذلك إلى سيارة الدفع الرباعي التي طارداني بها حتى أمسكا بي، ثم عاد جالباً معه منشاراً كهربائياً سلّمه إلى رفيقه الشيشاني، بعد أن همس في أذنه شيئاً اتضح فيما بعد أنها الطريقة التي اختاراها للتخلص مني. تقدم بعدها نحوي، قلبني على بطني ومدد رجليّ وأسبل يديّ إلى جنبيّ، في حين أخذ الشيشاني على عاتقه المهمة الأكبر، وهي شطري إلى نصفين بواسطة تلك الآلة القاطعة.
موطنـــــــــــــي .. موطنـــــــــــــــــي..
رن الهاتف ثانية.
” اللعنة على موطنك ! ” كاد الشيشاني أن يفقد عقله وهو يسمع تلك النغمة مجدداً.
والحياة والنجاة والهناء والرجاء
” أسكت الهاتف اللعين وإلا …. ” اهتاج الشيشاني مثل ثور في بركة طين، وهو يتوعد الأفغاني الذي عكّر وجهه قائلاً :
” وإلا ماذا يا أبرص ؟! “
” لا شيء ” رد الشيشاني وقد خفف من هياجه البهيمي المتوحش : ” أسكت الهاتف اللعين فحسب، إنه يربكني ! “
فعل الأفغاني ذلك، ووقف يراقب عن قرب رفيقه الشيشاني الذي فقد كل رحمة مرجوة على هذه الأرض، وهو يشطرني إلى نصفين. كان قد بدأ من رأسي، نزولاً عبر ظهري وعلى طول عمودي الفقري، وانتهاء إلى وسطي، أي ما بين فخذيّ. وبما أنه بدأ من رأسي، لم أشعر بأسنان المنشار وهو تمضي في لحمي وعظمي وتحيلني إلى جثة مشطورة ومجهولة ” الهوية “
موطنــــــــــــــــــــي.. موطني !
رن الهاتف للمرة الثالثة.
” أقول لك شيء ؟ ” توجه الشيشاني الذي سبح بدمي إلى رفيقه الأفغاني بعد أن أنجز المهمة وألقى المنشار جانباً : ” أخرج هذا الخراء من جيبك “
فعل الأفغاني ذلك على مضض، وأخرج الهاتف النقال الذي ما زال يصدح بالنشيد الوطني :
هل أرااااااك .. هل أراك
سالماً منعماً وغانماً مكرما
” إرمه ” أمر الشيشاني صاحبه بلهجة غاضبة تشبه النباح بينما هو يسحب نابض الإرجاع في بندقيته : ” إرمه قلت لك “
” حسناً.. حسناً ” ردد الأفغاني ممتعضاً : ” ليس هناك من داع للصراخ “
” إرمه في الهواء ” طلب منه الشيشاني مجدداً، لكن بنبرة متوسلة هذه المرة : ” عالياً.. عالياً ! “
حينئذ، ألقى الأفغاني نظرة أخيرة على صورة بيلوتشي الفاتنة، ورمى هاتفي الذكي الذي ما زال يردد :
هل أرااااك.. في علااااك .. تبلغ الـ…… !
في هذه اللحظة، انهال الشيشاني عليه بوابل من الرصاص حتى أصابه، وتهشّم إلى قطع، وتلاشى صوت النشيد، وتكسرت كلمات ابراهيم طوقان، وتبعثرت الحان محمد فليفل، ولم أعد أنا أنا، ولم يعد الوطن هو نفسه.
كاتب عراقي، البصرة
[email protected]