“الغصن” قصة قصيرة للكاتب العراقي ضياء جبيلي

Dhiaa Jubaily

أول ما يفعله رجب الحطاب، بعد استيقاظه من النوم، صباح كل يوم، هو إجراء تعداد لأولاده، الذين يبلغ عددهم خمسة عشر، بين ذكر وأنثى. يفعل ذلك، قبل الجلوس لتناول الإفطار. حين يكون الجميع واقفين في طابور حسب الترتيب، من الأكبر حتى أصغرهم سناً. يقف جانباً، في باحة البيت، لدقيقة أو أكثر يلقي خلالها نظرة تأملية، حامداً الرب على نعمه، متمتماً بآية من القرآن، تدفع عن أبنائه الحسد. حينئذ، يبدأ العد. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة…. وهكذا، إلى أن يصل إلى الرقم خمسة عشر. وهو طفل يبلغ من العمر أقل من عامٍ، عادة من تقوم الأم بحمله، أثناء عملية العد. قد يغري الكسل والدفء أحدهم ويتخلف عن البقية، يبقى في فراشه، آملاً أن ينعم بمزيد من النوم، فيوقظه الأب بعصا من الخيزران، يضربه بها على مؤخرته، فيُجبر على الالتحاق بأخوته، يقف بينهم، وهو ما زال يتمطى حيناً، ويتثاءب حيناً آخر.

على هذا النحو، دأب رجب الحطاب على ممارسة طقوسه الأسرية، منذ أن بلغ عدد أولاده الرقم عشرة، وصار يجد صعوبة في تفقدهم وهم متفرقون. فيبدو أثناء ذلك، كما لو انه آمر عسكري بصدد تدريب فصيل من المشاة الصغار. كانت تلك أياماً سعيدة، رغم الفقر، وصعوبة إعالة خمسة عشر فرداً، بالإضافة إلى الزوجة. حتى جاء يوم من أيام الشتاء، كان رجب يحصي فيه، كالعادة، أولاده.

كان قد وصل إلى ذيل الطابور، عند الرقم خمسة عشر، حيث من المفترض أن ينتهي العد، ومن ثم التوجه لتناول الإفطار بعدها. لكنه فوجئ أن ثمة رقماً زائداً. وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن عدد أولاده ازداد واحداً. وهو أمر مرفوض، ضد المنطق، لا يمكن تصديقه، بل لا يمكن النقاش فيه، بالنسبة لأبٍ يعرف أن أولاده خمسة عشر فرداً فقط، تماماً كما يعرف المزارع المحترف عدد أشجاره. ليس ثمة فرصة ليزداد العدد، ما لم تحبل الزوجة للمرة السادسة عشرة، وتنجب طفلاً جديداً. الأمر الذي قرر الزوجان إيقافه، فقد انتهت، بالطفل الخامس عشر، عملية الغرس، وحان أوان الحصاد.

وعلى الرغم من أنه يعرف أولاده، ويحفظ أشكالهم وأسماءهم، وبإمكانه تمييز ما إذا كان الصبي الأخير غريباً عنهم، أو أنه أحد أولاده بالفعل، إلا أنه آثر إعادة عملية الفرز مجدداً، فربما يكون واهماً، أو أن انزياحاً بصرياً حدث له، وجعله يرى طفلاً زائداً بين أولاده، فكثيراً ما صار يشاهد أشياء غريبة، ليست من الواقع في شيء، في الفترة الأخيرة. فعل ذلك بتأنٍّ، وببطء تدريجي مصحوبٍ بنبضٍ تصاعدي مضطرب، ليكتشف للمرة الثانية أن هناك واحداً زائداً حقاً. فرك عينيه، وهو ينظر إلى الصبي السادس عشر. ثم راح يتبادل مع زوجته نظرات مليئة بالحيرة، متسائلاً في نفسه، إن كان ما يراه حقيقة وليس وهماً. ثم قال لها:

” هل ترين ما أرى ؟! “

فهزّت المرأة رأسها، مذهولة، غير مصدقة ما يحدث في ذلك الحين. فمن أين خرج لها هذا الصبي؟ من أي ثقب سحريّ، أو بوابة خيالية في مكان ما من المنزل؟ وهل هي بحاجة إلى المزيد من المعاناة، ونكد التربية، لتكون أماً لطفل إضافي؟ لماذا لم يذهب إلى إحدى دور الرعاية الاجتماعية، أو يقصد منزلاً لزوجين لا ينجبان؟ لماذا اختار بيتاً مليئاً بالأطفال؟ تساءلت الزوجة، وهي تنظر إلى الطفل الزائد. لم تكن نظرة رحيمة على أي حال، كما هو الحال بالنسبة، للطريقة التي راح رجب ينظر من خلالها، إذ كانت نظرته مشفقة، لكنها لا تخلو من الحيرة.

كان الصبي الزائد نحيلاً، في السابعة أو الثامنة من عمره. يرتدي ثياباً بالية، أسمر البشرة، بوجه طولي، وشعر سبط، وأذنين كبيرتين، وعينين صغيرتين، وأنف بأرنبة مدببة. بدا كأنه لم يأخذ كفايته من النوم، ويود لو يعود إلى الفراش، بعد الانتهاء من هذا الإجراء اليومي، الذي لم يعتد عليه. كان جائعاً أيضاً، أو هذا ما تدل عليه هيئته الهزيلة والمزرية. بالإضافة إلى يده التي يضعها على بطنه. لكن، قبل أن يدعوه إلى مائدة الإفطار، رأى رجب أن من اللائق التحقق من هويته، فشرع يسأله من هو، ومن أين جاء، وكيف حصل أن حلّ بينهم على هذا النحو الغريب. إلا أن الصبي لم ينطق بحرف واحدٍ. كان يتطلع في الوجوه فقط، يتأملها، كما لو أنه بصدد العودة بذاكرته إلى ما قبل سنوات طويلة مضت، لعله يتعرف على أحد منهم. بدت عيناه جميلتين وحزينتين في الوقت نفسه، رغم ما تدلّ عليه حالته من رثاثة. عينان انتظرتا كثيراً، في البرد والحر والثلوج وتحت المطر، لتريا بشراً. مما زاد من حيرة رب الأسرة، الذي بدأ يهزه الآن من كتفيه، في محاولة يائسة لجعله يتكلم. في حين استمر أولاده بتحديقهم وإرسال نظراتهم الذاهلة والمتسائلة: تُرى، من يكون هذا الولد ؟ كانوا يتحلقون حوله، وقد بدأ بعضهم بمشاكسته. فهذا ينكش شعره، وذاك يغرز أصبعه السبابة في بطنه، ليتأكد ما إذا كان بشراً حقاً أم شبحاً، كما خيّل لاثنين أو ثلاثة منهم لاذوا بالفرار إلى الداخل. صبي آخر قرصه من ذراعه، وأخٌ له شمه وعبّر عن اشمئزازه من رائحته بحركة سوقية أغضبت الأب. الطفل الذي تحمله أمه ذُعر من رؤيته. في حين ظل هو ساكناً، ولا ينوي الرد على أحد منهم.

” بالتأكيد أنت لستَ أحد أولادي ” : قال له رجب : ” أعرفهم واحداً واحداً، فمن أنت أيها الغريب ؟ “

وبينما هو يحاول استنطاقه، رأى رجب أن الصبي يضع يده على بطنه، وكان على وشك البكاء. اكتشف أنه كان يعنّفه ويهزّه بقوة، من دون شعوره بذلك. أنّب نفسه كثيراً، وقرر دعوته إلى الجلوس معهم وتناول الإفطار. وكما لو أنه كان ينتظر ذلك بفارغ الصبر، مثل متسابق سمع صافرة بدء السباق، أسرع الصبي الصغير إلى سفرة الإفطار، وشرع يتناول الطعام بكلتي يديه. وقد بدا خلال ذلك، وهو يأكل، إلى أي حدٍ بلغ جوعه، فراح يلتهم ما يوجد من طعامٍ تجاهه بشراهة ونهم واضحين. انتظر رجب حتى فرغ من الأكل، واستأنف تحقيقه معه. سأله أسئلة عديدة، وألح عليه. إلا أن الولد ظل صامتاً ولم ينطق بحرف واحد.

غادر الأولاد المسجلون في المدرسة إلى مدارسهم، في وقت شرع الصغار باللعب في باحة البيت، مع الصبي الزائد، الذي بدأ يعتاد الأجواء، ويتآلف مع الحياة الجديدة بسرعة مذهلة، حتى بدا كأنه لم يلعب مع أحد منذ سنين طويلة. كان يمرح، ويقفز، ويجري بملء طاقته. وعلى ما هو ظاهر عليه، لا يبدو أنه يفتقد أحداً، ككل الأطفال التائهين. أمه مثلاً أو والده، أو أحد أخوته، إن كان له أخوة. حتى أن من يراه، وهو بمثل هذه الحيوية والسعادة، يظنه فرداً من العائلة. مما بعث شيئاً من الراحة وربما الشعور بالامتنان في نفس رجب، الذي كان عليه الانصراف، هو الآخر، إلى عمله في جمع الحطب، وتوزيعه على مطاعم شي السمك والدجاج في المدينة، بواسطة عربة يجرها حمار. تمنى، وهو في الطريق، لو أن ما رآه ليس سوى حلمٍ، أو قصة فبركها خياله، الذي دائماً ما يعكر مزاجه باختلاق القصص المزعجة. إذ لم يكن ينقصه أن يزيد طفلاً جديداً من ثقل كاهله. روى القصة لرفاقه في العمل، ولم يصدقه أحد. حتى هو، بدأ لا يصدق أن شيئاً من ذلك حدث فعلاً. وأمِل ألا يجد الصبي الزائد عند عودته في آخر النهار. وهو ما حصل على أي حال، فقد اختفى الولد، ولم يعد له من أثر لا في المنزل ولا في الجوار. قالت زوجته إنها افتقدته بالتزامن مع غروب الشمس، وحين بحثت عنه لم تجده في أي مكان.

” من يعلم ” قال رجب وهو يمسّد لحيته : ” ربما عاد إلى دياره “

تناول أفراد الأسرة الكبيرة عشاءهم، وناموا بعد ساعتين، إلا الأب، لم ينل نصيبه من الراحة، شغله التفكير بالصبي الزائد، قبل أن يغفو عند انتصاف الليل. ورغم تأخره في النوم، استيقظ في موعده المحدد صباح اليوم التالي. وكالعادة، اصطفّ أولاده في الطابور، وقام هو بإحصائهم : ثلاثة عشر، أربعة عشر، خمسة عشر. توقف للحظات، نادباً حظه، قائلاً ببطء : ستة عشر ! ثم لطم جبينه، فقد عاد الطفل الزائد إلى الظهور، لتبدأ بعدها جولة جديدة من التحقيق، لكن دونما فائدة تُذكر. كأن الصبي أقسم على ألا يتكلم. أطعموه، حمموه هذه المرة، وكسوه ثياباً بدل الأسمال التي كان يرتديها. ثم تركوه يلهو مع الصغار. وعند الغروب اختفى مجدداً، ولم يره أحد إلا في صباح اليوم التالي، بين الأولاد في الطابور. وكان على أتم الاستعداد للبدء بيوم جديد حافل بالطعام والمرح.

استمر الحال على ما هو عليه فترة من الزمن، اعتاد خلالها أفراد الأسرة الكبيرة على وجود الطفل الزائد. أطلقوا عليه اسماً. وتعلم منهم الكثير من الأشياء، وكيفية العيش وسط أسرة. إلا أن أحداً منهم لم يكتشف بعد، الطريقة الغامضة التي يختفي فيها عن الأنظار، كلما حل المساء. وحدها الأم لم تعتد بعد على التغيّر، الذي طرأ على أسرتها، عندما أُضيف لها طفل جديد. بدأت بالتذمر في الأيام الأخيرة، وتلح على زوجها كي يجد حلاً، لأنها لن تحتمل المزيد من عناء وجود صبي غريب في بيتها، لا تعرف من أين جاء وكيف. وكانت قد بدأت البحث عما تظنه بوابة سحرية، ينفذ منها إليهم صباحاً، ويغادر في المساء. بالتأكيد هو ليس قزماً أو شبحاً. فلا وجود للأقزام بأي حال، والأشباح لا تأكل. أما هو، فما زال على شراهته، منذ أن تناول معهم طعام الإفطار للمرة الأولى. لقد أضر بميزانيتهم، وزاحم أولادها، ولا بد من العثور على حلّ، وإلا فإن ثمة ما سيحدث في النهاية، ولن يحمد أحدهم عقباه. فراحت تراقبه عن قرب، وتكمن له في الأوقات التي يظهر ويغيب فيها. غير أنه ذكي بما يكفي لأن يظللها، ولا يترك ةراءة أثرٍ يدل عليه. وكأنه علم بنيّتها وما صارت تضمره له. فكان يتلاشى عن الأنظار بخفة، من دون أن يراه أحد، أو يستطيع تعقبه إلى حيث يذهب.

لكن، ولأن شيئاً على سطح هذه الأرض لن يدوم إلى الأبد، فقد حدث أن وقعت ربّة الأسرة على السر. إلا أنها لم تخبر أحداً، إنما مضت في ما بيّتته مسبقاً حتى النهاية.

أما زوجها، فقد كان يجوب، في تلك الأثناء، الأحياء المجاورة، حاملاً معه صورة للصبي، لعلّ أحداً يتعرف عليه. وفي كل مرة يعود خالي الوفاض، يقرر الكف عن البحث، والتكيّف مع وجود الصبي الزائد، واعتباره أحد أولاده، على الرغم من غرابة الأطوار، التي باتت تلازمه منذ البداية، من خلاله خرسه، والحالات الغامضة المتمثلة، بظهوره صباحاً واختفائه في المساء. مما يجعل الزوجة تعود إلى مناكدته بإلحاحها، وحثّها إياه على معاودة البحث.

” لا بد أن له أهلاً! ” تقول له بنبرة حانقة : ” لا أحد يخرج من شقّ في الأرض! “

وهو آخر ما توصلت إليه، قبل أن تعود لدحض النظرية، أن هذا الصبي جنيّ صغير خرج من شقّ في الأرض، ليرعب أولادها، مع أنه كان على العكس من ذلك تماماً، فقد تآخى معهم، ويكاد الجميع أن ينسى أنه غريب عنهم. الأمر الذي كان يغيظها، ويدفعها إلى مضاعفة إلحاحها على رجب، الذي لا يملك إزاء هذا الضغط سوى الاستمرار بالبحث. حتى سئِم الرجل أخيراً، وصار يحتال عليها، بعد يئسه من جدوى البحث عن الإبرة وسط كومة القش. مدعياً أنه لم يزل يبحث، ولم يدع مكاناً في المدينة إلا وقصده. إلا أنه، في الحقيقة، كان يقضي الوقت مع أصدقائه في المقهى.

وفي يوم من الأيام، بعد ثمانية أسابيع، أصبح خلالها الصبي الزائد فرداً من العائلة، كان رجب الحطّاب عائداً من عمله في وقت أبكر من المعتاد، فخطر له المرور بالسوق، لشراء بعض الحاجيات، لعشاء تلك الليلة المؤلف من السمك المشوي. وقد سبق أن أخبر زوجته باستعمال حزمة من حطب الطرفة، التي جمعها منذ شهرين، وخصصها للشواء فقط، لما يمتاز به هذا النوع من رائحة طيبة. وبينما هو يتجول في السوق، حدث أن سمع امرأة بائعة تتحدث إلى امرأة أخرى، بالقرب من إحدى البقالات، وتردد بشفقة ظاهرة، عبارة سمعها كثيراً من قبل. الأحرى أنه كان مثلاً شعبياً، يُضرب كناية عن شخص وحيد، يتيم ومسكين، ليس له عائلة. اضطرب رجب وأصابه الذعر، وراح يغذّ السير نحو بيته مسرعاً. احتشدت في رأسه عشرات الصور لم يحبذ منها صورة واحدة. تمكن منه القلق، ونسي نفسه، إلى درجة أنه راج يجلد حماره بقسوة، كي يحثّه على الجري بسرعة. وإلى أن وصل إلى البيت، كان المساء قد هبط، وأحالت الأمطار الطريق إلى أوحال. وبينما هو يطرق الباب، شمّ رائحة الشواء، وانتابه إحساس غريب أقرب إلى وخز الضمير. فتحت الزوجة الباب، أزاحها عن طريقه، وهُرع على الفور إلى زاوية في باحة البيت، حيث يخزن هناك حزمة حطب الطرفة المخصص للشواء. ورغم أنه لاحظ النقص الواضح في الحزمة، لكنه سأل زوجته، إن كانت قد أخذت منها لشي السمك، فأومأت هذه بالإيجاب، وقد التمعت عيناها بشكل، ليس فيه من البراءة شيء، متظاهرة بعدم فهما لسؤاله، إذ يبدو من الطبيعي جداً، أن تأخذ بعض الحطب من تلك الحزمة لاستعمالها في إعداد العشاء. عندئذ، وضع رجب يديه على رأسه، وأخذ يولول، كما لو أنه ينعى أحد أولاده. لم يخبرها شيئاً مما كان يدور في رأسه، فقد حدس أنها تعرف مسبقاً، وبدا ذلك واضحاً من نظرتها الماكرة. لم يتناول عشاءه، ولم يغمض له جفن، حتى انقضت الليلة، وجاء الصباح. استيقظ أولاده ووقفوا في الطابور. بدأ بعدّهم : ثلاثة عشر، أربعة عشر، خمسة عشر. ثم توقف بعدها، وراح يجول بعينيه بينهم وينقل بصره من واحد إلى آخر، بحثاً عن الصبي الزائد. الطفل الفائض عن حاجة هذا العالم. الوحيد، اليتيم، والمسكين.

الغصن المقطوع من شجرة.

 

 

 

كاتب عراقي، البصرة

[email protected]

SHARE