“العين الحمأة” قصة قصيرة للكاتب العراقي جبار ياسين

جبار ياسين كيكا 2016 مجلة كيكا
جبار ياسين

استحم لآخر مرة بماء كالوهج. قرأ في ذاكرته مصاحفا تقوده الى الطريق الموصوف. كان الغروب امامه خيوط من حمرة. عاريا سار الى ما لم يصله بشر قبله. قالوا له من قبل وصوله، بعد تبصر وبحث في الصحائف التي خلفها ابعد الاسلاف، ان الزمن يتوقف هناك في عين من حمأ. شاهد خيوط الزمن تمر بين اصابع قدميه مثل خيوط الحرير، لامعة ولاتستقيم قيد انملة. مخر ارضا رخوة كالعشب تنز عطرا، وكلما تقدم زاد شكّه في أن موجا يحمله. في لحظة بزغ النور أمامه مختلطا بالظلمة بخطوط متلاقية فعرف انه على وشك الوصول. غذ الخطى فترجرج ماتحته وخفق النور بقوة لا مثيل لها غير قوة جناح دوري حين يترك الارض، ثم مالبث أن تذكر ايقاعه فخفف سيره حتى وصل. عرف حينذاك، وكانت آخر مرة يعرف في الحين والحال، انه في اللامكان. لا نور ولا ظلمة حوله بل خليط من الشقيقين، شفاف ومتماسك مثل عجينة. في أعماقه البعيدة جدا أحس برعشة وغابت الكلمات والصور التي كانت في رأسه وشعر بدمه يخرج منه ويصير شعاعا. لم يبذل جهدا ليتذكر، فلا جهد ولا ذاكرة هنا. جلس وتأمل الخيوط التي كانت الفضاء حوله. عرف، دون أن يفكر، أن الزمن يتوقف هنا بعد ان يدور في الأمكنة قاطبة ويمسح جباه البشر والحيوان والنبات بظله. عرف ان مغزى رحلته الطويلة هنا، في هذه اللحظة التي لن تنتهي. لا منذ ولابعد. لن يتذكر ولن ينسى. لن ينام ولن يستيقظ. لن ينظر صورة الآخرين في نفسه ولن يرى صورته في الآخرين. فعله بدرجة الحضور السديمي، لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل.
التف على نفسه مثل أفعى واستراح.

 

[email protected]

SHARE