
أنهيت كتابة المذكرات في 29 تشرين الأول2008 أي بعد ستين عاما على إغتصاب وطني وطردي من أرض آبائي وأجدادي وبقِيتْ هناك عدة حلقات لم ينشرها موقع كيكا نزولًا عند رغبة دار النشر التي تقوم الآن بقراءة المذكرات. ضربت أخماسًا في أسداس وأعدت النظر وتبصرت جلياً وفكرت ملياً ثم قلت في نفسي لِم َ تترك القراء يستريحون ويستكينون للكسل والدعة؟ قم إحمل قلمك وأكمل ما بدأْت وقبل أن أبدأ أحب ان أعترف لكم أنني خائف، أي والله جدُ خائف خوفاً لم يعترِني مثله في ما مضى من ايام حياتي وان كانت الأمور تبدو ساكنة إلا أنها سكتة المريب. أحس أنني في دائرة مقفلة وأتمثل المسيح بين يدي بيلاطس والتُهم تنصب عليهِ ليس أقلها تهمة إدعائه انه ملك فيقول: مملكتي ليست في هذا العالم وأخاله ينظر يمنة ويسرة ويتفرس في الوجوه، أين أولئك العميان الذين أعاد اليهم البصر! أين من أعاد اليهم عقولهم! أين من شفاهم من البرص وأمراضٍ وأمراض، لقد لاذوا جميعهم بالصمت، وجد نفسه هكذا وحيداً أمام سلطة عاتية وكهنوت يريد رأسه، شهادته لنفسه لا تنفع وشهادة من في السموات هناك في السماوات. وكما وجدتَ نفسك رغم تضحياتك وحيداً ها أنا الفلسطيني الجليلي أجد نفسي وحيداً وما أشبه اليوم بالأمس. كان لا بد من هذا الإعتراف وتجرع الكأس المُرة ومنذ البداية.
في أيار (مايو) 2009 ذهبت الى مكتب السفريات في الجيفينور وأنا على معرفة بصاحبه، رأى العكاز فقال لي “الأفضل أن تُنقل على الكرسي المتحرك” وسألني “على أي طيران تريد السفر؟” قلت كما هي العادة أليطاليا، حيث جميع سفراتي السابقة كانت على طائراتهم، فعسى أن يقدروا هذه المحبة للطليان وان كانوا مثلهم مثل الإنكليز والفرنسيين من المستعمرين إلا أنهم جيراننا، فكلانا على شاطىء المتوسط. كما أن بيننا علاقات مهمات عبر قرونٍ وقرون فنحن لنا محبة بالأباطرة وإن كثروا وقعدوا ومدوا أرجلهم وأيديهم فنهبوا وسلبوا وقتلوا. ومن بعض مآثرهم ما فعلوه بأهلنا في ليبيا، وأقرب جمائلهم وفضائلهم علينا والتي لا تنسى هي ترك المخيمات وهي مجردة من السلاح لتذبح ثم يعودون اليها بعد الذبح، ومع ذلك فنحن أناس مسالمون طيبون نحفظ الجميل وننسى القبيح ومن جميلهم عليّ أنني في الزيارة ما قبل الأخيرة الى أمريكا إختاروني من بين عشرات الركاب لينقلوني من الدرجة السياحية من بين البسطاء والفقراء والعشوائيين الى درجة رجال الأعمال فهل أنسى للطليان ذلك الجميل؟
لا أريد أن أعدد ما بيننا من أوجه قربى ونسب فقيصرهم هو صهرنا وزوج ملكتنا كليوبترا الذائعة الصيت بجمالها وغوايتها والقديس بطرس ابننا وأحد الصيادين من بحيرتنا بحيرة طبريا، وهو الصخرة التي بنيت عليها كنيسة المسيح (على هذه الصخرة أبني كنيستي) وان رحت أعدد ما في خزائنهم من آثارنا وكتبنا لضاق بي المقام، وقد يكون تكريمهم لي لأسباب لا أعلمها أقلها وأبسطها انني حملت عنهم تهماً لم أرتكبها وربما لم يرتكبوها فعبارة “الحق على الطليان” عبارة شائعة في لبنان فالتهمة جاهزة لإلصاقها بهم ولكنهم هذه المرة طلعوا براءة والصقت التهمة بالفلسطيني، لست بحاجة الى دليل فكما كان الحق على الطليان اصبح “الحق على الفلسطينيين” فهل كثير أن نقلوني من الدرجة الثالثة الى الأولى؟ لا والله ليس بالكثير وان أفردوا لي جناحاً خاصا وطائرة خاصة لما وفوني حقي وربما ضحكوا حتى بانت نواجذهم وهم يروني أقبل بالتافه والحقير في حين هم حاربوا ملكتنا زنوبيا وزوجها أذينة إبن الصميدع، واقتادوها الى روما. لا والله لم أنس ذلك وها هي ذاكرتي تحفظه منذ سبعين عاماً. ومالي لا أسامحهم وأنا من بسطاء الدنيا والسياسات الكبرى من اختصاص الملوك والرؤساء ويخامرني شك يصل الى مشارف اليقين ان ملوكنا ورؤسانا أو معظمهم لم يسمعوا بزنوبيا أو زينب وربما ظنوا أن هذه الاسماء من أدوية الأعشاب التي تزيل الكلف والنمش وحب الشباب.
لكن صاحبي ولعلة ما ولا أرى لزوماً لِـ (ما) لأنها تدل على الإبهام فاذا قلت لصديقك سأزورك يوماً ما فهذا يعني أنك ستزوره في يوم من الأيام دون تحديد وقد جهَّلَتْ ما زمن الزيارة. أقول ان صاحبي طرح عليّ أن اسافر على الطيران الفرنسي فأحسست بنفرة وإنقباض لأن من تقدم بهم السن واعتادوا على شيء لا يغيرونه كمن يدخن نوعاً معيناً من التبغ. فالذكريات الجميلات مع الفرنسيين نادرة وإن لم تكن معدومة ولا يروقني “برج إيفل” الذي رغّبني صاحبي في رؤيته وأنا لا ارى فيه سوى كتلة ضخمة من الحديد فلا أشعر ان روحاً انسانية مسّته وهو لا يختلف في نظري عن أعمدة الكهرباء في بلادي، ارجو ان اكون مخطئاً فهذا رمز من رموز فرنسا ومعلم من معالمها وان كان لنا في باريس مسلّات سُرِقت من بلادنا كما سرق غيرها جهاراً نهاراً أو خفية. لا تظن اخي انني متحامل على الفرنسيين ليس الأمر كذلك وهم من حملوا مشعل الثورة بشعاراتها الجميلة (حرية، اخاء، مساواة) وان لم نر آثارها في بلادنا فالحق هذه المرة على الطليان ويكفيهم اني احفظ تاريخم وجغرافيتهم وعاداتهم وشَعرهم المستعار ففي ذهني صورة لملكهم لويس الرابع عشر صغيراً وقد بدا كدُمية بين يدي العملاق بطرس الأكبر أمبراطور روسيا. كم حفظت حروبهم وأماكنها ومنها مقاطعة الإلزاس واللورين وكم من خلاف نشب بينهم وبين الألمان حول هذه المقاطعة وكم مرة تبودلت بينهم لا أدري عدد الآلاف الذين سيقوا الى حرب الألزاس واللورين من ألمان وفرنسيين وها هي أوروبا بأكملها تكوّن إتحاداً، وقد عايش فولتير هذه الأحداث وصورها على الشكل التالي: قام ملائكة من كواكب مختلفة بجولة في الكون الفسيح ولا أدري ان كانوا زاروا مجرات مختلفة أو اكتفوا بزيارة درب التبانة ومجرتنا حفظك الله وكما لا يغيب عن ذهنك مؤلفة من مليارات النجوم ان لم يكن اكثر وقد شاهدوا جمال كوكبنا وخاطبوا إنسانهُ قائلين: لا شك ايها الإنسان انك بما أوتيت من ذكاء وبما لديك من موارد تحيا حياة هانئة رغيدة وتستمتع بتذوق المعاني العقلية الراقية والأحاسيس المبهجة والمشاعر التي تفيض حناناً ولطفاً وجمالاً وقبل ان يسترسل الملائكة في إعجابهم ووصفهم خاطبهم أحد فلاسفة الأرض ان الأمر ليس كما تظنون وفي الوقت الذي أنتم تتكلمون هناك مئات الآلاف من البشر يتقاتلون على شيء قد لا يعرفه معظمهم ولكنهم بعثوا بهم الى حتفهم وهم هانئون في قصورهم. إغتاظ أحد الملائكة وقال أفكر في أن أخطو خطوتين أو ثلاثة فأسحق هذه المخلوقات الغبية، فرد عليه الفيلسوف لا تتعب نفسك انهم يريحونك ويسحقون أنفسهم بأيديهم.
أعود وأقول لا أزال واقفاً في مكتب السفريات والرجل يزيّن لي السفر على الطيران الفرنسي، لم أشأ أن أخيب ظنه ولا شك ان العمولة التي يتقاضاها من هذا الطيران أكبر من العمولة الإيطالية، فالعلة اذاً غير مجهولة لأقول لعلة ما. وافقت على مضض وأخذت أنا أزين لنفسي محاسن التجربة الفرنسية الجديدة محاكاة للتجربة الدانماركية لعادل إمام.
في اليوم التالي كنت في المطار وما أن قدمت جوازي وتذكرتي حتى كان الكرسي المتحرك الى جانبي وهذا فأل حسن فلا عهد لي بالعربي يتقن عمله! إعتليت صهوة “الكرسي” يدفعني رجل بإتجاه الطائرة فالمكان قريب جداً على غير ما تعودت في الرحلات السابقة الى أمريكا أو غيرها. تناول الموظف جواز السفر ونحن على مدخل الطائرة وقال: ممنوع. يجب أن يحصل الفلسطيني على تأشيرة للمرور عبر فرنسا. هكذا اذاً كشفت الأم الحنون عن أنياب دراكولا وقد تكون حنوناً على غيرنا مع أننا نستحق المسايرة ولو بقطعة من جبنة البقرة الضاحكة، عيب عليكم، تفرست في الوجوه فالرجل الذي يصحبني بذل جهداً مشيراً الى سني وعجزي وماذا عساي أفعل والرجال طوال عراض ووسامة وأناقة وعربية لا غبار عليها ولا يظهر أنهم فرنسيون هكذا عدت أدراجي وأعادوا الينا الحقائب وفاجأت الجيران بعودتي فشرحت وأفضت خوفاً أن يظنوا بي الظنون لماذا أعادوا هذا الفلسطيني من المطار فأسرعت الى مكتب صاحبي “أبو علوان” وكنت اتصلت به فور خروجي من المطار وأخبرته ان الموظفين الذين حاولنا معهم هم عرب قال طبعاً فأنت ذاهب الى باريس على طيران الشرق الأوسط اللبناني ومن هناك تأخذ الطائرة الفرنسية، لم أناقشه فهو صاحب المكتب ومن واجبه أن يعرف البلدان التي تطلب تأشيرة والتي لا تطلب، المهم أن صاحبي أبو علوان بعد أن كان أغراني بمحاسن الطائرة الفرنسية بالإضافة الى أن ثمن البطاقة الفرنسية أرخص وهذا ما أثار ريبتي. المهم انني عدت واشتريت بطاقة على أليطاليا ودفعت فروقات أكثر من مائتي دولار زيادة عن سعر الإيطالية الأصلي لأنهم لم يعيدوا له ثمن البطاقة على الفرنسية. وها أنا أعقّب وأقول انني بعد عودتي من أمريكا زرته وأخبرني انهم لم يعيدوا له ثمن التذكرة وانه حاول معهم وقال لهم ان الرجل مات، قال لي لا تزعل قلت انك مت وأراني السجل وأمامه Dead (مات). وهكذا أرسلني ابو علوان الى الرفيق الأعلى دون ان يأخذ موافقة السماء كما أخطأ ولم يأخذ موافقة فرنسا كما هي الأصول. أمور بسيطة كهذه لا تستحق التسجيل ومن لا يحفظ لأبي الطيب المتنبي قوله:
وصرت إذا اصابتني سهامٌ تكسرت النصالُ على النصالِ
في اليوم التالي أمتطيت الأيطالية معززاً مكرماً مع مكان فسيح مريح لذوي الحاجات الخاصة وقد أصبحت عضواً في ناديهم. وصلنا مطار روما والذي أصبحت أعرفه كبيتنا واذ بالكراسي المتحركة تنتظر عند أسفل الدرج وبسرعة البرق أنجزت أوراقي ودفعني رجل بسرعة وبطرق مختصرة جداً ومصاعد خاصة واذ بي بعونه تعالى أسبق الأصحاء الشباب وأصعد الى الطائرة قبلهم. نادراً ما ترى في بلادي سائقاً يتمهل ليقطع عاجز الطريق بل أنهم عندما يرون عجوزاً على جانب الطريق يسرعون خوفاً أن يهِم فيقطع ويؤخرهم. مشاغل العرب كثيرة ووقتهم يحسب بالثانية أو بعضها فما بال هؤلاء العجزة لا يقدرون قيمة الوقت وما الذي أخرجهم من بيوتهم! لا أطيل عليك أخي القارىء وأنا أقول أخي القارىء من باب أخوة الأدب في حين قد أكون في عمر أبيك أو جدك. حطت الطائرة في بوسطن وباختصار دفعت الى غرفة للأمن ومعي ورقة من السفارة تنبهني الى أنه عليّ أن أمر على الأمن عند الوصول وقبل المغادرة. كانت الغرفة تغص بالقادمين أمثالي، مر الجميع بشكل مقبول ولم يبق في الغرفة إلا أنا ورجل آخر وكان رجل الأمن يسأله ثم يذهب ويعود وهكذا مر وقت طويل وأنا معتصم بالصبر لقد أخّروا الرجل ثم جاءه الفرج من الله ومن الأمن العام الأمريكي وختم جوازه وجاء دوري فتناول الوثيقة وقلبها ونظر طويلاً ثم خرج اليّ من وراء مكتبه وسألني بعض الأسئلة العادية وعاد الى مكانه وعاد يقلب في الجواز ويُريه للذي على يمينه وعلى يساره ثم ينظر اليّ وانا جالس مستريح لا يرمش لي جفن وتركته يأخذ وقته، ليس في جوازي شيء وإن كان من شيء فهو أنني عربي وفلسطيني وقادم من لبنان وعلى جوازي تأشيرات كثيرة لزيارات لسوريا إضافة الى اسمي وليس هذا بالقليل، صوّرَ صفحات الجواز وشعرت انه صوّرها عدة مرات ولم يظهر عليّ ضيقاً وإن كنت قد صممت أنني إذا وُجِّهت اليّ أي إساءة سأطلب إعادتي الى لبنان وليريحوني من أسئلتهم. كم ستبقى في أميركا؟ قلت شهرين على الأكثر قال: إذا وافقنا على إدخالك يمكنك البقاء ستة اشهر وبعد أكثر من ثلاث ساعات تكرَّم الرجل وختم الجواز، فقلت له لقد أشعرتَني انني مذنب ولا أذكر ماذا قال لي ولكن أذكر انه قال عند المغادرة عليك أن تمر على هذا المكتب.
أوصلتني موظفة وأنا على الكرسي الى خارج المطار. فإذا بي المسافر الوحيد الفريد، مضى كل مسافر إلى غايته ولا تزال إبنتي وزوجها ينتظرون، بدا عليهم أن الأنتظار قد إمتص حيويتهم ولهفتهم، هذه أمريكا غير أمريكا التي أعرفها وهذا موظف غير من عرفتهم في زياراتي السابقة وأنا لا أنسى تصرفه وهو يقلّب الجواز ويعيد تقليبه وتصويره ويريه لمن على يمينه وعلى يساره وكأنه يقول أهذا يستحق أن تعطوه تأشيرة! هو لا يعلم أن القنصلية عندما أعطتني التأشيرة قالت لي الموظفة لقد إتصلنا بك ثلاثين مرة، قلت لم أكن في البيت ولكنك لا تعدم موظفاً عادياً يزايد على رؤسائه وكأنه أعلم منهم.
عدت مع المستقبلين مسرعين الى البيت، بقيت في السيارة مع زوج ابنتي الدكتور محمود قدورة ونزلت منى مسرعة وأحضرت بدلة لإبنها الصغير أحمد وكان هناك حفلة موسيقية وهو أحد أعضاء الفرقة والكل يجب أن يكون بملابسه الرسمية، دخل الطلاب الى الصف يستعدون للإحتفال ووجدنا أحمد مع أحد رفاقه ينتظر خارج الصف مكسور الخاطر حزيناً منتظراً لا يدري ماذا يصنع. لم يكن أهله يتوقعون أن هذا الموظف الهُمام سيأخرنا ثلاث ساعات وبسرعة إرتدى أحمد وعمره ثمان سنوات البدلة السوداء وعادت إليه الروح فدخل في الوقت المناسب ودخلنا وجلسنا على المقاعد المخصصة للحضور من أهالي الطلبة. كان عزف جماعي أحياناً ومنفرد احياناً، أوركسترا جميلة. طلاب صغار يعزفون بجدية وإهتمام المحترِف. أستاذ الموسيقى أو المايسترو لا تظن أن فاغنر في ما مضى أو سليم سحاب في أيامنا أكثر إهتماماً وجدية وحرصاً من هذا الأستاذ الذي رأيته وقد مضى في انجذابٍ موسيقي كإنجذاب الصوفيين في حركات يديه وأصابعه وكتفيه.
تحدثت للأستاذ وأبديت له إعجابي لإخلاصه ودقته وإنني مثله مدرِّس وإن كنت مدرس أدب فبين الموسيقى والأدب وثيق نسب. بعد أن قمنا بجولة في المدرسة توجهنا الى.البيت.
وصلنا البيت وهو يقع على الشارع الرئيسي بدرجاتٍ قليلة ترتفع عن الشارع. البيت جيد مؤلف من غرفتي نوم وصالون ومطبخ واسع.
وقبل أن استرسل في الكتابة فقد حضرت يوم السبت في 22 ايار 2010 في قصر الأونيسكو حفلاً موسيقياً رائعاً للفنان الفلسطيني مروان عبادو. هو يعزف على العود يصاحبه أربعة عازفين غربيين وهو يحمل الجنسية النمساوية. لفت نظري التناغم الرائع بين العازفين وكأن آلة واحدة تصدر عنها أصوات مختلفة، عازفين محترفين مبدعين والعود يتوسط هذه الآلات الغربية وكأنه تآلف بين روح الشرق وروح الغرب والأرواح تتآلف فلا تعود تشعر بالفرق بل تحلِّق مع العازفين في جوٍ روحانيٍ صوفي بل أن هذا العزف الرائع يدخلك معه وكأنك أحد العازفين أو المنتشين بخمرة الحب الإلاهي فتؤمن بقدرة الموسيقى على العلاج كما كان يفعل الطبيب والشاعر والموسيقي إبن سينا. وقبلها في أواسط ايار تقريباً حضرت مناظرة في مقهى “التاء المربوطة” في بيروت، موضوعها ترجمة الأدب الإسرائيلي وكان المتحاوران بيار أبي صعب وحلمي موسى، وقد كان حشداً كبيراً وبقي العشرات وقوفاً وقد تناول الحوار بين الأستاذين والجمهور الترجمة من العبرية الى العربية وخاصة بعد ترجمة قصة عاموس عوز. كان للحضور آراء مختلفة وشعرت أن المواقف السياسية أخذت الموضوع الى غير ما يراد منه وظهرت إتجاهات يؤسف لها ويوم الخميس 27 ايار حضرت حفلاً موسيقيا في قصر الأونيسكو للفنان خالد الهبر والفرقة، شعرت ان بيروت قد زحفت الى الأونيسكو ونفذت التذاكر فتدبرت أمري، كانت تظاهرة وطنية فنية غنّت هموم الأمة من حيفا الى غزة الى بيروت مع محطات مختلفة ومفاجئة كإشتراك الممثل المسرحي رفيق علي أحمد في موال وقبله منير كسرواني في موال جنوبي. لقد أعادتني هذه التظاهرة الفنية الى أيام الشباب وأنا أدعو لهذا النوع الراقي من الفن ان يطول بقاءه، أخشى أن يلاحق كما كل مظهر وطني نبيل وأرجو أن أكون مخطئاً بل اني متفائل فالجمهور الواسع والتجاوب الرائع مع الفنان وحفظ أغانيه وقد كان يصمت أحيانا ً ويشير الى الجمهور أن يكمل الأغنية، على هؤلاء أراهن رغم خوفي من المستقبل. كان أمامي في الصف الثاني الأمامي الفنان عباس شاهين فسلمت عليه كما سلمت على الفنان رفيق علي أحمد وخرجت ووقفت لبعض الوقت اتأمل هذا الحشد الكبير، لا تزالين بخير يا بيروت، لا تزالين بخير.
أعود الى بوسطن مكثت يوماً أو يومين ومنها الى مدينة “سيراكيوز” التابعة لولاية نيويورك لأحضر تخرج ولدي محمود ماجستير في الهندسة المدنية، وإختصاراً للوقت وشعوراً مني بشيء من التعب فضلت أن أذهب بالطائرة وهكذا كان، فأن تصل في نصف ساعة خير من أن تصل في خمس ساعات. طائرة داخلية صغيرة، مرَّ المضيف بنا يسأل إن كنا نريد ماءً فقلت أريد فنجان قهوة من فضلك، قال: فقط نقدم الماء. بارك الله في الكرم الأميركي وهم الذين يتندرون على بخل الإنكليز. تذكرت قول السيد المسيح: يا مُرائي لماذا تنظر القشة في عين غريمك ولا تنظر الخشبة في عينك. نظرت من شباك الطائرة فإذا الحال هو الحال، أنت ترى مدناً أو قرى مبعثرة في غابات لا حدود لها. وصلنا المطار وقد كان التدقيق شديداً من خلع أحذية وأحزمة وما في الجيوب ومرور بباب الكشف كأنه إيوان كسرى، لا أحد يتذمر فالكل يؤمن أن ما يجري هو للمحافظة على سلامته ولكني إستكثرت الأمر على مطار صغير في آخر الدنيا وقرب كندا ولكني تعوّدت على هذه الأمور وأصبحت من أهل البيت. وجدت محمود وزوجته في انتظاري فذهبنا إلى بيته وهو مؤلف من غرفتين لا بأس بهما خاصة لطالب متزوج. البيت على منحدر يعلو الشارع ويُصعَدُ اليه على درجات ليست بالقليلة، هو عادي للشخص السليم ومتعِب بعض الشيء لمن هو في مثل وضعي. البيوت متناثرة ويخيم هدوء وسكون يقلل من وحشته الخضرة التي تملأ الدنيا، أشجار ومروج وطيور.
في اليوم التالي لوصولي كان حفل التخرج وقد أقيم في ملعب كرة قدم، آلاف الخريجين ببدلات زاهية متنوعة الألوان حسب الكليات. إمتلأ الملعب بالخريجين والمدرج بالحضور، أخذنا مكاننا أنا والأولاد. عُزِفَت موسيقى وأُلقيت خطابات ومنها خطاب لنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن وهو خريج جامعة “سيراكيوز”، هو خطيب تسمعه وتراه وتقارنه بملوكنا ورؤساءنا وهم يخطبون فلا يعود يعتريك العجب من تخلفنا وجهلنا ونحن الذين كان الشعر والخطابة أكبر ميزات أمتنا. فالخليفة خطيب والأمير خطيب وقائد الجيش خطيب، هكذا كان الخلفاء الأربعة والذين من بعدهم وهكذا كان قادة الجيوش، كالحجاج وزياد والمهلّب، وعندما بعث زياد إبنه الى معاوية بن أبي سفيان ومعه كتاب يعدد فيه مناقب إبنه فرد عليه معاوية أن إبنك كما وصفت ولكن قوِّم لسانه. كما لا أنسى كبار الخطباء كقس بن ساعدة الأيادي وأكثم بن صيفي في العصر الجاهلي وسحبان وائل في العصر الأموي وهو الذي يضرب المثل بمقدرته في الخطابة فيقال: أخطب من سحبان. كما أن الخطيب في بلاد الأميركان سواء كان مسؤولأ أو أستاذاً أو طالباً كما شاهدت الخطباء في هذه الجامعة وجامعة بوسطن لا بد وأن يرطب الجو ببعض الفكاهات والقفشات وتكون في الغالب مستوحاة من الوضع العام، كما جاء في خطاب بايدن فيضج الناس بالضحك. هؤلاء مواطنون يجلسون يستمعون اليه، هم ليسوا عبيداً عند أبيك لتعلقهم على الصليب وتخطب مكشراً مزمجراً عاقداً حاجبيك وزاماً شفتيك كأنك تنثر على الناس دُرر، وهو كلام من سقط المتاع وأقل قيمة من الحَجَر ولكن والحق يقال ان خطباءنا زعماء أو غير زعماء إنما يمثلون ثقافتنا المنقبضة المتظاهرة بالجدية بل ان الخطيب يُعاب عليه الخروج عن الجدية المتزمتة حتى وإن لم يقل شيئاً عليه أن يبقى مكشراً فالتكشيرة هيبة لم يتذوقها الأميركان.
أذكر أن أحدهم حدثني عن أبيه حديث المعجب بأبيه وأبوه معجبٌ بمن يروي عنه، قال: حدثني أنه كان له في صغره صديق ألقى أمامه نكتة فنظر إليه مستهجناً مؤنباً قائلاً: إياك والمزاح بكرة منكبر ما بعود حد يحترمنا. وفي هذه السنة زارنا رجل من الإمارات وهو عقيد في الشرطة قال: كنت أعامل أفراد الشرطة وزملائي بطيبة وإنسانية فينكرون عليّ ذلك ويقولون: أهذا عقيد؟! اذاً نحن على ما نحن عليه وهم على ما هم عليه. هناك ديموقراطية والديموقراطية تلين الطبع والعريكة، وهنا ديكتاتورية أو ما شابهها وإن تغيرت الأسماء وعدتها الشدة وعبارة: أوعى ترخيلو الحبل يحفظها الجميع، أي إياك أن تتساهل معه أو تتركه يأخذ نفساً.
مكثت يومين ثم عدت مسرعاً الى بوسطن لأحضر حفل تخرج زوج إبنتي منى الدكتور محمود علي قدورة. كان حفل التخرج في قاعة لمثل هذه المناسبات. أُلقيت خطب وسُلِّمت شهادات وخرج محمود يحمل شهادة دكتوراه في علم الصحة من جامعة بوسطن. وقد استطاع هذا الشاب أن ينجز عملاً جيداً وبمدة قياسية فهو يدرِّس في جامعة ويحضّر للدكتوراه وقد أنجزها في أربع سنوات ومنذ شهور قليلة كان يحاضر في جامعة واشنطن. عدنا من بوسطن الى نيويورك مستقلين باصاً لشركة هندية وعلى طول جانب الباص رسمٌ لحصان ينهب الأرض، هكذا خِلته ثم دققتُ وتأملت فإذا ما ظننته حصاناً ليس إلا كلباً ولم أَعجب فقديماً كانت الكلاب إحدى وسائل الصيد ولا تزال وقد كان لأبي نواس كلبين قتلا في عراكٍ مع الوحوش وقد رثاهما الشاعر كما رثى كبار القادة والأمراء.
وصلنا نيويورك ليلاً، ولا ليل في نيويورك. في الصباح سلَّمت على بعض الأصدقاء ثم توجهت الى “واشنطن بارك” وكان قد تم إفتتاحه قبل يومين بعد إقفاله لسنتين لإعادة تأهيله. مساحات واسعة من أزهار مختلفة الألوان ومروجٍ خضراءٍ فسيحة ولا يزال الشباب يقومون بألعابهم الرياضية إلى جانب الموسقيين والمهرجين والمشردين. جلست متأملاً بعد أن جُلت في بعض أرجاء المتنزه أراقب الحمام والعصافير والناس ومالي ولهذا الكلام ودفتري وقلمي في صحبتي وها أنا أصف أحساسي في اليوم الأول لوصولي الى نيويورك وزيارة المنتزه:
تسكنني غربةٌ وأنا وسط الزحامْ
وبحارٌ جزتُها بعد بِحارْ
أبحث عن السكينةِ والسلامْ
كل ما حولي مدعاة للحبورْ
عصافير تزقزق ثم تطيرْ
وعشبٌ يتنعم بأجساد الحسانْ
مداعبات عشاقٍ ونايٍ وكمانْ
وأشجارٌ ظليلة وخميلةَ
وأناس تعِبَتْ منها المقاعِد
يقرأون يكتبونْ
ها هي حمامةٌ تلتقطُ ما تجده من طعامْ
وهي والسنجاب تحيا في سلامْ
هنا تمدد على العشبِ ونَمْ
أو أعْدُ مثلما يعدو الغلامْ
فلن يلتفت أحدٌ اليكَ بمديحٍ أو ملامْ
هنا البسمات غالبة والسعادة ظاهرةَ
ملابسٌ أنيقة ونظيفة وبسيطةَ
وحسناواتٌ يفقنَ العددْ
ثم يتبعها مددْ
فلا عيونٌ تتلصصُ أو تبصبصْ
ولا تعليقاتٌ سخيفةَ
لا وشوشة ولا نميمةَ
فقط تفوز بالغنيمةَ
ماءٌ وظلٌ وصبايا حِسانْ
يملأن المكانْ
في مواجهتي ثلاث فتياتٍ
يتجاذبن أطراف الحديثْ
كما يقال في الشرق الخبيثْ
وشيخٌ يتوكأ على عصاهْ
ويجر كلبه الصغيرْ
الشَعرُ الوانٌ وأشكالٌ كثيرةَ
أشقرٌ وبنيٌ وأسودْ
أملسٌ وأجعدْ
وأنا في هذا المكانْ
كأنني خارج المكان والزمانْ
كأن عينيَ زجاجْ
كأن قلبي من حجرْ
لا شَرقَ أسعدَني ولا غربْ
قلبي يعيشٌ في خرابْ
مللتُ من وهم السرابْ.
زيارة المنتزه وتسجيل أحاسيسي ومشاهداتي لم تستغرق أكثر من ساعتين. فلي ولدٌ لا يدعني أستريح ولا أدري من أين يقترح أسباباً لا تنتهي، فأولها أتت زيارة طبيب الأسنان الصيني روبرت وفي الحي الصيني وكأنك في بكين أو بيجين ولا عجب فقد كنت أدرس صغيراً عن جزر الكلبيين ويخامرني شكٌ في أنها الفلبين وعن الإمارات العربية المتصالحة وهي الآن الإمارات المتحدة فقد تصالَحَتْ وإتحدتْ وعين الحسود فيها عود. لا أريد أن أكمل فاللائحة طويلة من زنجبار ودار السلام الى ساحل الذهب وساحل العاج. أظنه لم يبقَ عاجٌ فيها ولا فيلة. أعود وأقول أن هذا الطبيب الصيني عَرِف كيف يساير العصر ويختار إسمه وكنت أظنها زيارة واحدة وإذ هي زيارات تكاد لا تنتهي. فقد إمتدت شهوراً أي والله شهوراً وكل ما فعله روبرت أنه خلع ضرسين وصنع (بروفة) بلاستيكية، بل صنعها المختبر، هو فقط أخذ القياس. أظنه لا يدري أن العديد من النَوَر في بلادنا يصنعون الأسنان، ليس للفقراء فقط بل للأغنياء البخلاء، ولا يستغرق العمل قياساً وتركيباً ناجحاً وجميلاً أكثر من يومين أو ثلاثة ومقابل لا يزيد عن خمسين دولاراً وقد رأيت الكثيرين وهم يستعرضون أسنانهم الإصطناعية وجمالها ولا يعيب المهنيين النور إلا أن صناعتهم لا تعمر طويلاً. لقد أفسد عليّ روبرت رحلتي فإن ذهبت إلى بوسطن أتذكر موعده وإن ذهبت إلى سيراكيوز طاردني شبحه وعدت إلى لبنان بعد ثلاثة شهور وهي غير كافية لروبرت لصناعة طقم الأسنان ولكنها كافية ليأخذ أربعة آلاف دولار وآخذ أنا قطعتي بلاستيك أخفيهما عن الأولاد، ولكني أشهد له بالنظافة ودقة المواعيد وحسن الصناعة فأنا لا أزال أستعمل هذه البروفة منذ عام، وقد أخبرني أن الأصلية ستريحني أكثر وأنا أشاهد البعض وهم ينحتون أطقمهم بالزجاج وقد إلتهبت أفواههم والطبيب هنا يقول لهم يجب أن تصبروا فسوف تتعودون عليها أما عند روبرت فقد سألته مرة وقد أحسست بقليل من الضيق هل هذا طبيعي؟ ويزول مع الوقت كما في بلادنا؟ قال: لا. الألم ممنوع والضغط مسموح كالضغط عند قلع الأضراس.
حياك الله يا روبرت، الألم ممنوع لا (بكرة بتتعود عليها)، نحن نستأهل ما يجري لنا وبنا.
فصل من كتاب جديد يصدر في ربيع 2017
محمد خشان، كاتب فلسطيني مقيم في بيروت، صدر له عن منشورات الجمل” كتاب مذكرات بعنوان “الخط الشمالي”..