“الطلسميّ” نص للكاتب للكاتب العراقي يحيى الشيخ

يحيى الشيخ كيكا 2016  مجلة كيكا
يحيى الشيخ Yahya al-Sheikh

ورثت عن جدي، من أبي، وهو ورثه عن اجداده كما قال لي، كتاباً ثقيلاً، تفتّت أطرافه، غلافه من جلد تلطّخ وشبِع من دهون الأصابع، تعطّفت زواياه مثل قشرة رمان يابسة. كان متعتي وقوت أيامي وملاذي في كل ملماتي ومصائبي. فيما بعد أمسى حياتي كلها. على صفحته الاولى كُتُب بخط يشبه الخط الكوفي بقلم متعثر: (الغايات العظمى)، خُط بحبر لم أجد ما أصفه به: كثيف أحمر هنا ورقيق شفاف هناك، يصّفر في نهايات الحروف ويكاد أن يختفي، خُتم عليه بمهر نُقش بحروف متقطعة، كما لو انها تعرضت للتلف. استطعتُ فك رموز طلاسمه والاستعانة بها، جرّبتُ الكثير منها، ونلتُ على ما اريده، ونجحت. واحدٌ من أهم اسرار الكتاب، إنه تمكن من نفيي بعيداً، بعيداً جداً، في غياهب عوالم لم أسبر أغوارها كلية حتى اليوم. في غياهبها كنت أعيش مع مَرَدَةٍ وعفاريت وحيوانات خرافية بعشرات الأذرع والرؤوس، وكائنات بلا رؤوس، ورؤوس بلا أبدان. استأنستني ووفرت لي حياة سرية نعمتُ بها. بسببها هِمْتُ على وجهي لأوفر لها ما يلزمها: عظام بائدة، وجلود أفاعٍ، وقنافذ كنت اربيها بترف باذخ، وذروق فئران، وهداهد، وأحجار نحتتها ضروب الزمان، واحفر على قحوف فخار وأنقش صفائح رصاص وقصدير ونحاس. التحقت مرة بفرقة من الدراويش لاوفر لنفسي حماية برفقتهم، وانا اهيم في البراري. كانت لدي ورشة مزدحمة بالصناديق والصُرر والروائح والغيلان. قضيت عمري أدور وسط دائرة رسمتها لنفسي؛ دائرة لا قطب لها، ولم أكن أعرف أني كنت قطبها الذي كانوا يطوفون حوله، يسبحون في غيمة من بخور خارج الزمان. لا يمكنني، وهذا محزنٌ لكم ولا ريب، أن اكشف أسرارها، فهو غير مسموح به أبدا، وقد عاهدّتهم، وعاهدّتُ جدي، وأقسمت بحياتي على كتمانها ما حييت، غير هذا ينالني ما لا تنفع التوبة معه.
عكفتُ، في الأيام الاخيرة، على استنساخ الكتاب قبل أنْ يتهرأ، كما كلفني جدي، وبصدق أقول كما أمرني. فكل واحد من أجدادي كان يعيد استنساخه كما جاء من سلفه بغموضه واخطائه اللغوية وبنفس تركيبة حبره، ويبدو لي أنّهم كانوا يرسمون ما يرونه ولا يقرؤنه، ثم يجتبي واحداً من احفاده، كما اجتباني جدي، ويكلفه باعادة استنساخه كما جاء. استنسخته على ورق سميك حضّرته بنفسي بعد جهد جهيد من الياف نباتات نقية تماما، وكتبته بأحبار خلطّتها كما جاء في الوصية في مقدمة الكتاب: “يكتب بقصبة فارسية وبحبر من راتنج نقي يطبخ مع قشر الجوز اليابس، والكركم، وسخام من مواقد أُوقِدت في ليالي ازدواج الكواكب، مواقد غير ملوثة. يُمزج الخليط تماما على نار هادئة يوم اقتراب الكوكب الأكبر”.

طلسم 1 (1)لم أفهم، حتى اليوم بالرغم من الحاحي على جدي في السؤال عن السر، وبحثي الحثيث عن مصادر تسندني فيما بعد، لماذا استُهلت الطلاسم بتحذير مرعب يبدو أهم من الطلاسم ذاتها؟ لم احصل على إجابة منه، غير أنْ أخضع لما جاء، ولا أُغيّر من تسلسله ولا من طلاسمه. في نهاية المقدمة دوّن هذا التحذير: “يدك مشلولة مغلولة، عيناك زائغتان وفمك أفلج فارغ، رقبتك تتدلى مثل خرقة الحيض، قدماك مكبلتان بحبال من قصدير وحديد، تجر سلاسل بكرات نارية. تغوص في حضيض لا قرار له، أنت يا من تحرّف أو تغيّر أو تبدّل أو تحذف حرفاً من هذا الذي تكتبه. أنا فوق رأسك وعلى يمينك، وعلى شمالك، تحتك وفي باطنك… أنا في يدك”.
خفتُ وكتبتُ ورسمتُ كما جاء مع أنّي اكتشفت عشرات الأغلاط والمغالطات. في آخر صفحة من نسختي كتبت: أشهد بعمري وعافيتي أنّي لم احذف ولم أحرّف ولم اضف حرفاً واحداً من عندي، أنا العبد الذليل المملوك العليل أخوكم الاصغر، وكتبت اسمي واسم امي وامها.
كان قلبي مشلولاً وأنا أكتب وأرسم، ففي كل مرة ارسمها وانتظر ليجف حبرها كانت تختفي. أعيد كتبتها، وتعود تختفي بعد ساعات… انتابني مسٌ من الكتاب؛ فأخفيته فوق سطح البيت تحت كومة حطب مهمل.
في ظهيرة يوم صيفي لاهبة نادتني أمي لأجلب لها حطباً، فهي تدّعي أنّها كلما حاولت أنْ تأخذ منه تصيبها الأشواك وتدميها، وتسمع أنيناً هناك أو فحيحا كما وصفته. صعدت صاغراً وسحبت أول سعفة وكانت عالقة بحزمة من العاقول، سمعتُ جدي الذي لن انسى صوته ولكنته، وهو يلثغ:
“ليش رميتني هذي الرمية؟”
انتشلتُ الكتاب من تحت الحطب ووضعته على صدري، ليسمع قلبي. اخذت بعضاً من العاقول ونزلت بسرعة اقفز كل سلمتين معاً. في خلوة تامة، قرأته عشرات المرات ودققت في حروفه. وجدت في الورقة التاسعة والاربعين جملة على الهامش: “ما تكتبه في النهار بقلم أسود يختفي في الليل الأسود، وما تكتبه في الليل بقلم أبيض يظهر في النهار الأبيض”. ثم كلمتان مشوهتان بحبر ليس من حبر الكتاب، كلمتان ممحوّتان! ماذا لو كانت أخطر الكلمات؟
في حياتي معه، لم يبذل جدي جهداً في تعليمي، ولم أسمع منه غير أنّ المدرسة تفسد المرء؛ فكرهتها وتعلقتُ به، فما أنْ ينتهي وقت المدرسة أهرع إليه؛ أراقبه من بعيد وأُلبي طلباته. كان يقضي أوقاته صامتا يكتب على أشرطة ورقية طويلة وأقمشة رقيقة، وهو يتمتم بلغة اجهلها، وينظر في الزوايا، يبحث في الهواء ويتابع الفراغ وكأنه يحصي ذرات الغبار فيه. تكفل في كتابه هذا، بعد موته، بمهمة اقصائي ليس عن المدرسة فقط، إنّما عن الواقع. أسّرني مكبلاً بارواح العفاريت والجنيات الخبيثات (الليليثات) اللواتي كان يُروّضها، ويجنيها في صومعته. اعتقدتُ، في بادئ الامر، أنّه يستحيل عليّ الحوار معها، غير أنّ استئناسها وانصياعها لي جاء سهلا وسلسا، كما لو أنّي بعلها. لابد أنّه أمرها بذلك وجلبها إلى حضيرتي لترضخ وتستجيب بحب شيطاني مارق.
بلغ جدي نهاية التسعين من عمره وابعد، عيناه نديتان بدمع منحهما بريقا احبه. لحيته بيضاء جعداء تسترسل مثل موجة تغطي نصف صدره الأشعث المشرّع للريح. كان مثل قصبة جرداء له ذراعان طويلتان ينتهيان بأصابع رقيقة، أصابع لم تعرف العمل، كسولة، أصابع كاتب ورسّام. قبل وفاته بأشهر، دعاني اليه وكنت قد بلغت الرابعة عشر عاماً آنذاك، قال لي:
.” لقد اصبحت رجلاً كما أرى… ومن واجبك أن تتعلم علم أجدادك، وتحفظه في قلبك”
سحب كتابه ووضع كفه الواسعة عليه، وأردف:””هذا هو أرثك، وسأقرأه لك حرفاً حرفاً… “احفضه اولاً ومن بعدي استنسخه كما جاء، كما هو عليه… وسأكون معك كلمة بكلمة”
لم أنطق بحرف فقد كان فمي يطبق على ظهر يده المعروقة ذات الجلد الرقيق، وكنت أرى الدم يتدفق فيها، يده الأخرى كانت فوق رأسي تباركني، وتكرسني كما يُكرس الفرسان قبل المعارك. قضينا نهارات، هو يقرأ وأنا أردّد بعده، وأحفظ، يفسر ويفكك ويمتحنني بما فهمته منها. طلب مني أن أرسم بعض الطلاسم. رسمتها باتقان نال اعجابه.
بعد الفطور، وكان لا ينقص ولا يزيد عن فطيرة بلا خميرة يعجنها بيده ليلا ويخبزها صباحاً، وبضعة حبات تمر، وقطعة زبدة، كان يزنها بيده كل مرة، ناداني ووضع الكتاب في يدي، وقال:
“خذه بقوة! العالم يعج بمخلوقات غير مرئية، غريبة الأطوار والأهواء، غيلان ووحوش كاسرة وموتى اسطوريين، بعضها لا يؤتمن على سره… هذا الكتاب هو ختمك ودرع نجاتك. الأخطر من المخلوقات التي تظهر لك وتختفي هو ما يظهر في المرايا! المرايا تسرق من عمر الذي يقف أمامها في كل مرة بقدر زمن وقوفه. حياتها هي مجموع ما فقدته الوجوه من أيام أمامها. انها تسلب الأعمار ونضارة الحياة، هي مقبرة الزمان. الغريب في امرها أنها جاهلة عمياء. مضاعفتها ووضعها متقابلة وجه لوجه يضاعف الوجوه امامها فتحتار بها ولا تعرف اي وجه هو صاحب الزمان لتسرقه، فتتيه عنه. لكنها وهذا من عجائبها ايضا، أن لها ذاكرة لا تبلى، فتستعيد الوجه المطلوب وتستلب منه ما كان عليه من فدية يوما ما، فهي لا تُخدع . ومن أهوائها انها تشعل الحروب بين الوجوه فالكل يتقاتل امام بابها الموصد ليخرج منها. بابها موصد وجدرانها مطوّقة بخنادق يملؤها الزئبق والرصاص المنصهر. لكن الوجوه، لطالما، تهرب في الليل الحالك حيث يتجمد الزئبق والرصاص المنصهر، وتغزونا. إحذر وجوه المرايا واحمل ختمك اينما حللت في أرض”.
فتح عقدة صغيرة في طرف عمامته، واخرج منها لفيفة صغيرة محزّمة بشعر أسود فاحم، وأضاف:

طلسم 2هذا ختمك، احمله ليحميك. تحفظه على ظهر قلب وتردده كلما ضاق صدرك. تضعه في قصبة نظيفة من عمق الهور ما مستها غير المياه والريح، وتغلق عليه بشمع العسل الخالص. تعلقه في جيدك وتفركه كلما دخلت المرآة أو غادرتها. فهذا يُوقظ حُماتك النوارنيين المكلفين بالختم، ويحرسونك… اقرأه امامي”:
بلعت ريقي وكأني على نطع، وقرأت:
“ليس أنا في المرآة. أنا بن امي الطاهرة – اسمي واسم امي وامها – خارج الزمان والمكان يحملني زيوا على جناحيه الناريين، ويخبأني كيوان في فمه البركاني، مالاكيا و مروميا وتلانا و هاليل وبشميهون يطوقونني باذرع من شرار يخترق الرصاص ويحرق الظلمة… ايها الظلام اغرب عن قدامي تسحقك رحى حُماتي العظيمة”.

مات جدي بهدوء تام كأنه نسمة عادت إلى ريحها الام. وما أنّ حلّ الليل الأسود الذي يبتلع الحبر الأسود، فرشتُ أوراقي وأحباري البيضاء وقصباتي الفارسية وأخذت ارسم بتوجس لا يخلو من شك. لازمني أحساس أنّي أسمع شيئاً ولا أراه؛ أصواتاً مبهمة، واشم روائح تنبعث من أجساد تطوف قريبا مني، هائمة، لابد انها ذاتها التي كان جدي يبحث عنها في الهواء.
كتبُ ورسمتُ وكأني أرسم بالضوء، كانت الحروف تبرق وتتلألأ، وكنت منتشيا بضيائها، أعشاني بريقها، وكادت عيناي أن تطفرا من محجريهما لفرط نورها الساطع من بين السطور، وكنت اسمع صوته يرافقني ويقرأ لي حرفاً حرفاً، ويفسر لي ويُسمي الرموز. في الصباح رأيت الأوراق تنطوي على سر الكتابة والطلاسم.

رسام وكاتب عراقي، النرويج
[email protected]

SHARE