“الله يرحمك يا حاجَّة أمة العليم ويسكنك جنة النعيم”.
تكررت هذه الجملة، بهذه الصيغة أو بغيرها، اليوم في بيت الحاجَّة أمة العليم؛ التي ماتت فجأة بسبب سكتة قلبية أصابتها في منامها. ماتت وهي- كما كانت تقول قريناتها- في عز شبابها؛ أي في سن الثالثة والسبعين.
كان الجميع حاضرين: أولادها، بناتها، أزواجهم وزوجاتهم، الأحفاد والحفيدات، وغيرهم من الأسرة الكبيرة، يتبادلون النظرات والأحاديث القصيرة المليئة بتفاهات المجاملة التي يلجأ الناس إليها في حالات كهذه.
كان اللقاء العائلي متوتراً كالعادة، لم يرغب أحد في الدخول في نقاشات وأحاديث عميقة، خشية أن يحدث شجار، كما هو مألوف عندما تجتمع العائلة عند الحاجَّة.
الحاجَّة كانت تعرف ذلك جيدا، بذلت عبر السنين جهوداً كثيرة فاشلة لتصلح بين الأطراف المتخاصمة، لكن دون جدوى، قررت إثر ذلك أن ترسلهم كلهم إلى الجحيم وتعيش حياتها دون شوائب المشاكل التي كانت العائلة تتركها عندها وتعكر بها مزاجها.
كانت الحاجَّة أرملة منذ عدة أعوام، حزنت كثيراً على فقدان رفيق دربها، حتى ظن الكثيرون أنها ستلحق به سريعاً إلى القبر، لكنها قررت أن تنظر إلى الأمام بدلاً من البكاء على الأطلال.
وحيث أنها كونت ثروة لا بأس بها وكانت تتمتع بصحة جيدة؛ فقد استطاعت أن تقضى أيامها مستقلة دون الاعتماد على أحد.
بالطبع لم يكن الكل راضياً عن حياتها، خاصة ذاك الجزء من الأسرة الذي كان يخشى أن تضيع الثروة في أيدي الحاجَّة بسبب صرفها المال على نفسها، أو -كما كانوا يقولون- بسبب إفراطها في التبذير، وبالتالي فقد كانوا يخشون ضياع ثروة العائلة.
الآن ماتت الحاجَّة وثروتها ستقسم على الأسرة، وها هم قد انتهوا من مراسم الدفن وبدؤوا في البحث عن الأوراق، الحسابات، الحُلي، وكل ما هو ثمين؛ انتشروا في الغرف كالجراد، وفجأة سُمع صوت إحدى الحفيدات من غرفة النوم تنادي: “تعالوا، لقد فتحت الحاسوب ووجدت هذا!!!”.
اجتمع الجميع حول الحاسوب، بدت الدهشة على وجوه البعض والاستغراب على وجوه البعض الآخر. سأل أحد المستغربين: “ما الموضوع؟ ماذا وجدتِ؟”
-“الجدة لديها حساب على “تندر”!
لم ينبس فريق المندهشين بكلمة، بينما طلب فريق المستغربين من الحفيدة أن توضح.
تلكأت قليلاً ثم قالت: “إنه تطبيق للتواصل الاجتماعي على الإنترنت.”
-“مثل الفيسبوك؟” سأل أحد من المستغربين.
-“لا ليس مثل الفيسبوك يا حمار”، أجاب واحد من فريق المندهشين.
-“إنه تطبيق للعلاقات الجنسية”، قالت امرأة من فريق المندهشين.
-“يا لطيف! ما هذا الكلام أمام الأطفال، اصمتي يا وقحة”، قالت إحدى المستغربات.
بدأ اللغط وتعالت الأصوات، كاد الشجار أن يبدأ بين الأسرة كالعادة، وبينما كان الجميع منشغلين بمناقشة “ما هو حساب التندر”، كانت الحفيدة قد دخلت بريد جدتها الإلكتروني لتكتشف المزيد عن حياة جدتها التي لم يكن أحد يعرف عنها شيئاً.
-“الجدة أمة العليم لم تكن لها علاقة واحدة؛ بل علاقات متعددة مع رجال كثيرين، كلهم شباب لا يخلون من وسامة”، قالت الحفيدة بابتسامة لئيمة.
سكت الجميع، نظروا إلى بعضهم، كل واحد كان ينتظر أن يبدأ الآخر بقول شيءٍ ما يناسب ما سمعه، كُسر الصمت من إحدى بناتها إذ قالت: “هذا إثم، ما فعلته أمنا إثم، الزنى يعاقب عليه في الدين بالجلد”.
-“ماذا تقولين يا بلهاء؟ “استنكرت أختها، “هل تريدين إخراج أمنا من القبر وجلدها؟!.. كُفى عن إطلاق الأحكام أرجوكِ، ثم من قال إنها زنت فعلاً، ليس لدينا غير رسائل.”
-“أمنا وقعت في فخ صيادي القلوب وبياعي الغرام”، قال أحد ابنائها.
-“لا بد أنهم كانوا طامعين في أموالها”، قالت زوجة أحد ابنائها.
-“العجوز بدا عليها الخرف، استغلوها…”، قال زوج إحدى بناتها.
أرادت الحفيدة أن توضح أن الجدة؛ وكما يبدو واضحاً من الرسائل، لم تكن تلك البلهاء المُستغَلة، بل كانت على وعي بما كانت تفعل، لكنها كتمت الفكرة كي لا تُسلط الأضواء عليها وتُرمى بكلمة غير مناسبة.
***
سيعرفون فيما بعد، أن الحاجَّة أمة العليم لم تترك لهم شيئا، صرفت كل ما تملكه على نفسها؛ على سفريات حول العالم، على فنادق ومطاعم فاخرة، على ملابس أنيقة، على الشباب الذين رافقوها في تلك السفريات.
سيغضبون كثيرًا، لكنهم سيكتمون ما عرفوا، ليس احترامًا لها أو حبًا فيها، بل خوفًا على أنفسهم من السمعة التي قد تؤثر على مكانتهم الاجتماعية.
لن يسامحوها على أنها قضت أعوامها الأخيرة في حياة رائعة، صاخبة، مليئة بلحظات فريدة، بعيدة عن أنظار الحاسدين والمترصدين موتها، عاشت سعادة لم يتصور أحد من الحاضرين أنه من الممكن أن تُعاش…
كاتب من اليمن