“الجوع كافر” قصة قصيرة للكاتبة الفلسطينية فدى جريس

Fida Jirys

’الله يلعن الشيطان…‘ قال أبو هاني. ’كيف عملت هيك أنا؟‘
’والله إنت اللي بدّك تجاوب ع هالسؤال!‘ علا صوت الشرطي. لم يعرف أحد ما الذي أصاب أبا هاني بالضبط. هرع الجيران مذعورين إلى بيته بعد تصاعد الصراخ ونداءات الاستغاثة ليجدوه يضرب جاره ضربًا مبرحًا وهو في حالة شبه هستيرية. خاف الرجال من الاقتراب منهما لأول وهلة، فأبو هاني كان قد أمسك بحزامه الجلدي وانهال ضربًا على أبي كامل وكلّ من يقترب منه، لكنهم لم يجدوا بدًا من التدخل السريع، فالرجل قد يموت، وصيحاته أصبحت تخبو وهو ينهار ألمًا. تقدموا جميعًا وانقضوا على أبي هاني حتى أمسكوه بعنف وأوقعوه على الأرض، بعيدًا عن أبي كامل، الذي استلقى بغير حراك والدم ينضح من وجهه. طلب أحدهم الإسعاف التي نقلته إلى المستشفى، ومكث يومين قبل أن يعود إلى بيته بذراع مكسورة ورأس ملفوف بالضمادات. أما أبو هاني فسحبته الشرطة إلى التحقيق.
لم يكن تحقيقًا فعليًا، فعائلة أبي كامل لم تقدم بلاغًا رسميًا حتى اللحظة. ربما كان الشرطي يعاني فراغًا من الوقت أو يمارس دورًا لم يعد يعنيه كثيرًا الشهور الماضية. ثمة ما يشغل بال كل العاملين بالسُلطة، فالجيوب والبيوت تكاد تكون خاوية، وهي ليست المرة الأولى.
’طيب شو سبب الخناقة؟‘ أكمل الشرطي.
زفر أبو هاني بحرقة. ’مرات الظروف بتكون صعبة وباتأخر بالإيجار… بس والله يا سيدي ما بآكل عليه قرش!‘
’وشو صار اليوم؟‘
’أبدًا. صار جاي لعندي ثلاث مرات بهاليومين. ما كان يحلّ. بدّو يجوّز إبنه الأسبوع الجاي ومحتاج مصاريف. بس أنا صار لي شهور مش قابض يا سيدي!‘
فطن الشرطي إلى أن ’فريسته‘ تعمل بالسُلطة، وزارة التربية والتعليم تحديدًا، وبسبب إسرائيل، هكذا قيل، يتأخرون في دفع الرواتب منذ شهور. وليس التعليم وحدها، الصحة والعمل والإعلام والأوقاف والشرطة أيضًا. تقول السلطة في بياناتها أنها ’أدانت حجز إسرائيل لأموال الضرائب، ووعدت بضغط فاعل ومؤثر.‘ أدانت ووعدت، ’شو أخدنا؟‘ في البداية كان الأمر يبدو مجرد أزمة طارئة، حاول الجميع التكيف، لابد أن تتغير الأوضاع قريبًا، ولم يكن أكثر المتشائمين يتوقع أن تطول الأمور. الأمور التى لم تعد نهايتها واضحة، ولم يعد شيء غير مشوش سوى الفقر، الكل حضوره شبحي في هذا البلد إلا العوز، الذي لا يغفل ولا يموت.
أبو هاني الرجل الهادئ السمت انفجر في غفلة، ’آه لو مكنوني من إسرائيل والسلطة معًا!‘ لكن للأسف من يصر على عض الحصى ينته بكسر أسنانه.
أسنان أبي كامل هي التي تكسرت هذه المرة، ’قلت له وفهّمته، مرة ومرتين، وأبدًا! ما إلو بالعادة يتنّح هيك! وفي الآخر أجاني يقول لي اتديّن المبلغ وأعطيني. والله يا سيدي، أخوي ما عاد يديّني قدّ ما عليّ ديون!‘
’بتقوم بتخلعه قتلة بتروح ما تموّته؟‘ قال الشرطي بغضب.
صمت أبو هاني ووجهه ينقبض. كتب الشرطي شيئاً في الأوراق أمامه. ’طيب، أنا رح أطلّعك، بس إمضي لي هون، وبدنا نشوف إذا الزلمة اشتكى عليك، ساعتها بنستدعيك كمان مرة.‘
وقّع أبو هاني بيد مهزوزة، ثم نهض بإعياء.
’طوّل بالك، عمي…‘ لم يتمالك الشرطي نفسه من القول. ’بتهون، كلنا في الهوا سوا!‘
لم يكن أبو هاني ميالًا للعنف. لذا كان هو أكثر من تفاجأ بفعلته. لم يطرأ على حياته منذ الأزمة إلا معاودة الأسئلة القديمة، الأسئلة التى هرب منها مذ كان بالجامعة. عقود يا أبا هاني وأنت تتملص من التفكير، باتت القراءة متقطعة وفتراتها متباعدة، حتى عاودته التساؤلات، وتغيرت أحواله، وتشكك الناس في أمره، فسره هو بأنه يعيش حالة بحث أو حنين للتمرد القديم، مؤكداً لنفسه ولمن حوله أن الذي يعلّم الناس لا يجب أن يتوقف عن التعلم، فيما سمع أحدهم يهمس ’أبو هاني بلّش يخرف…‘
إلا أنه استيقظ صباح اليوم السابق ولم يكد يرتشف أول نقطة من قهوته حتى عاجلته زوجته: ’أبو هاني، شو أعمل؟ أبو حمزة بالدكان قال لي ما عاد يقدر يعطينا بالدين. صار إلو علينا ألف شيكل!‘
’ألف شيكل!‘ كاد أن يغص. ’ليش؟‘
’اغراض للبيت!‘ قالت بحدة. ’ويا دوب باجيب الضروري، والباقي من الحسبة وهون وهون. لإيمتا بدنا نضل هيك؟ صار لك شهرين مش معطيني قرش!‘
’يا بهية، بتسأليني كأنك مش عارفة!‘
’عارفة يا اخوي، عارفة، بس البيت بدّو مصروف، والله لولا شوية الخياطة اللي بامرّقها كنّا متنا الجوع!‘
الجوع وبهية والأولاد وحدهم اليقين في بال أبي هاني، خاصة بهية، هي التي اعتادت أن تهتم به كطفل وأمه التي تدرك ما يود قوله بمجرد النظر. لولاها حقًا لهلكوا، طيبة هذه المرأة، تفتح دومًا في حياتهم أفقًا يعيد جمع القطع المشروخة، ودونها مصيره والأولاد الهاوية. لكن كل الحنان في الدنيا لا يكفي لتداري أزمتهم الآن. قام من مقعده وأمسك بقصاصة ورق ألصقها على المرآة مقابل سريره بعد أن كتب عليها: ’الحياة مجرد راتب.‘ ثم التفت إلى بهية قائلًا بلهجة المعلم: ’الراتب يا بهية، مصير ووظيفة. راتبك مصيرك. كل شي محدد حسب أجرك بآخر الشهر. بيتنا، أواعينا، أكلنا، نسايبنا، حتى احترام الناس إلنا، كله عالراتب!‘
رنت إليه في حيرة فرمقها بحزم وعاود مجلسه عابسًا. يجب أن تكون لئيمًا حتى تكون رؤوفًا يا أبا هاني. ’هه… إحسبي معي يا بهية.‘
وضعت يدها على خدها وهي تجلس قباله.
’يا فتاح يا عليم…‘ تنحنح قائلًا. ’طيب… علينا إيجار بيت ثلاثة شهور، 3600 شيكل.‘ بدأ يدوّن. ’و1500 شيكل كهربا من أربع شهور. و500 ميّ. وهاني بدّو قسط الجامعة، 1700، وتصليح اسنان أماني، 500 شيكل ع خمس دفعات.‘ رفع رأسه إليها فتنهدت وهي تفرك جبينها، وشبكت ذراعيها ناظرة إليه في صمت. ’وسيرين ع وجه خطبة وبدها جهاز،‘ أكمل قائلًا، ’والشتا قرّب وبدنا كهربا زيادة أو غاز نتدفا… وأخوي معتقل ولازم أطل عاولاده…
’والراتب… الراتب يا بهية، 2200 شيكل، وصار لنا شهور مش قابضين، غير اللي إلنا من قبل ولسّه ما أخدناه! ولِك سجاير مش عارف أشتري!‘ نفر بعصبية وهو يجترع كوب القهوة دفعة واحدة. ثم وخزه الندم وهو يتأملها قباله والهمّ أكل من وجهها وشرب، باتت كل عبارات المواساة والتصبير خسارة استخدامها، لم تعد تجدي نفعًا. هو لا تعنيه زيادة المكاسب، هدفه الدائم تقليل الخسائر، لأننا لم ندخل العالم بشيء، ومن الواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء. أما لدى بهية فحساب الربح والخسارة شيء ثانوي؛ مجسّاتها تستشعر الخطر الداهم على عائلتها وتحرّك غريزتها لدرئه. لكن ما باليد حيلة. ’الله بيعين…‘ قالت بيأس.
’الله بيعين! بس شكله نسينا يا بهية!‘
’أستغفر الله!‘ أجابت بخوف. ’قوم يا زلمة، قوم تيّسر عشغلك، أنا بادبّر حالي!‘
وجده أبو كامل في الطريق. ’صباح الخير أبو هاني… بدّي أسألك…‘
’عارف. والله يا أبو كامل لسّه ما قبضنا. أنا مش ناسيك.‘
’يعني ما قالوا لكم إيمتا رح يدفعوا؟‘
أشار بسببابته إلى السماء. ’العلم عنده!‘
’أف… طيب أخي. وحياتك، أول ما تقبض، ما تنساني، ها؟‘ أكمل أبو كامل وهو يهرول بجانبه.
’شو هالبهدلة؟‘ فكر في طريقه إلى العمل. ’ما بقي حدا إلا وإلو عليّ مصاري!‘ استقل سيارة ’سرفيس‘ إلى المنارة وأكمل مشيًا. لن يستطع أن يبذر خمسة شواكل أخرى في المشوار. ’لله يا محسنين…‘ استوقفته عجوز تجلس على قارعة الطريق.
’والله يا حاجّة، شوي وبآجي باقعد جنبك…‘ قال بحرقة. باق في جيبه مائة شيكل اقترضها من جاره، وبعد ذلك، لا يعلم ما سيفعل. ’شو؟ ما في أخبار عن الرواتب؟‘ سأل بلهفة حال دخوله المكتب.
’يا أخي قول صباح الخير…‘ قال زميله. ’لا، ما في.‘
جلس مهدودًا إلى مكتبه. ’وبعدين يا رامز؟ بعدين؟‘
’ولا قبلين…‘ قال الآخر وهو يقلّب جريدة وينفث دخان سيجارته. ’أنا التاني هربت هريبة من البيت. عليّ يمكن عشرة آلاف شيكل ديون. أصلًا لما ييجي الراتب، ما رح أشوف منه شيكل!‘
’واللي سامعك!‘ لا قلق من الأمور التي تجري ببطء، الخوف كل الخوف من التي لا تزال عالقة. كان الموظفون يجلسون إلى مكاتبهم، لكن أحدًا لا يعمل، فعددهم يفوق حاجة العمل بأضعاف، وقد صُدم أبو هاني عند استلام عمله في الوزارة وانضمامه إلى القافلة البائسة.
’ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.‘ فليأت المؤمنون ويخبرونا كيف يعيشون دون خبز، من أين جاءوا بهذا التعفف؟ تساءل عن حقيقته وتصنعه، عن النصوص التي تحفز الناس على ’الرضا‘ والاستكانة. جميع من جاءوا بهما يريدوننا جوعى. ’طوبى للفقراء، فهم يرثون الملكوت،‘ وثروات الأرض حُجزت باسم الكبار!
’بتعرف، رامز…‘ قال فجأة لزميله. ’أنا تعبان مش بس من تأخير الراتب. تعبان لأني ما باعمل شي. بطّلت أشغّل مخّي حتى. يا أخي حاسس إني تنبل!‘ ولا بد أن تكون كذلك، وكذلك فقط، كي تستطيع تحمّل ما أنت فيه.
نظر إليه رامز بشيء من الحيرة وهز رأسه صامتًا قبل أن يعود للغرق في جريدته، ونفث سحب الدخان أمامه. استفز مظهره أبو هاني، الذي أردف بعصبية: ’كيف طايق حالك هيك؟‘
رفع زميله رأسه مقطبًا. ’شو أعمل يعني؟ أقوم اغني وارقص؟‘
لم يجب أبو هاني، بل نهض خارجًا إلى أنحاء الوزارة، يسأل هنا ويستقصي هناك. أحس باختناق يلازمه كلما دخل هذا المكان. كان يشعر فيه وكأنه يحمل ثقل كل المأساة الفلسطينية، من أولها لآخرها. سأم من إحساسه بالغضب والعجز والمرارة. مل لعبة الأخبار المسربة، كل يومين يقال ’ستُصرف الرواتب‘ ولا شيء؛ الحياة لم تعد تجري، توقفت تمامًا. بحث مرارًا عن عمل آخر، فلم يعد راتب التقاعد الذي يشد الجميع للبقاء في الوظائف الحكومية يعني شيئًا بالنسبة له، هو الذي يواجه مشكلة ملحة في الحاضر، ولا يملك ترف القلق بشأن مستقبل غامض المعالم أيضاً. لكنه طرق ألف باب ولم يجد شيئًا. حاول إيجاد عمل كعامل بناء أو في مطعم… أي شيء… ولم يفلح، فسنّه ونقص خبرته أقفلا السبل أمامه، والآلاف يبحثون مثله ممن هم أصغر سنًا ويرضون بأجور أدنى. عاد محبطًا لينهار على كرسي مكتبه.
’الله بيعين، أبو هاني!‘ قال رامز. ’خلص روّق يا أخي! بكرا بيدفعوا لنا…‘
هو الوهم الضروري للاستمرار. أي غد هذا؟ ومتى يأتي هذا الغد؟
عاد شاردًا إلى البيت في نهاية الدوام، وجد ابنه في انتظاره. ’يابا، بدّي قسط الجامعة! تأخرت بالتسجيل!‘ دخل ليجد ’المجدّرة‘ أمامه. ’مالها هاي مسلوقة سلق؟‘ قال ممتعضًا وابتلع السليق والمرارة؛ لم يعد بالبيت زيت. سمع صوت طرقات على الباب، أبو كامل بالسؤال نفسه، والجواب نفسه لدى أبي هاني. أحس كأنه اسطوانة مشروخة. ’وبعدين معه؟‘ هبّت بهية بحنق بعد انصراف الرجل. ’مش كاين يفهم؟‘
’حاططني في راسه.‘ أطرق أبو هاني. ’بس الزلمة معذور. عرس إبنه…‘
’يعني إحنا معنا وحايشين عنه؟‘ قالت بغضب.
’بهية، أنا فايت أنام، راسي بيخبط خبط. عنّا “أكامول”؟‘
’عندي حبتين باقيات، خذهم يابا،‘ قالت ابنته بإشفاق.
’آخ…‘ تنهد متجهًا إلى سريره، وهم جالسون في الصالة يحدق بعضهم في بعض.
***
نهض صباحًا وهو يشعر بثقل هائل في رأسه. ’آخ يا بهية، شو أعمل؟ مش قادر أتحرك…‘
’سلامتك، أبو هاني! باعمل لك زهورات. خلّيك بالبيت.‘
’بنروح عالشغل وما بيقبّضونا… كيف لو غبنا كمان!‘
’دَخْلك، ع كتر الشغل يعني؟ تعال اقعد معي بهالشمسات…‘
الرعب رفيق الفراغ لدى أبي هاني. في الفراغ تتوالد الأسئلة، تفقّس بفزع وهو غير قادر على كبح جماحها. تبًا لمن يحاولون دفنه وهو في الخمسين. ما زال قادرًا على العمل والعطاء أكثر من جميع أولئك الأوغاد! هل يمكث هكذا، شحنة هائلة لا تجد لها منفسًا؟ نفخ بحنق وبهية ترنو إليه. ’روّق، أبو هاني، إلا ما تُفرج…‘ هي مسحة الأمل الضرورية، الوجه الآخر للوهم الذي يسمعه من رامز. أشفق عليها، ’الله يخلّيلي ايّاكي يا بهية. تعبتوا معي إنتوا…‘ ونظراته تهيم في الأفق وتستقر على المستوطنة القريبة، ببيوتها المصطفة بانتظام وحدائقها الوارفة. بالتأكيد لا يعانون من انقطاع الرواتب. أو الماء. أو الكهرباء. كل شجرة في تلك الحدائق تشرب قدرًا من الماء أكبر مما يقطرونه للفرد الفلسطيني.
التساؤلات تلاحقه مجدداً. هل أخطأ حين مكث هنا؟ هل جنى على نفسه وعلى عائلته؟ طالما سخر من اللاهثين وراء التعليم في الخارج، رفض الفرصة بازدراء، ضاحكًا منهم ومن تأليههم لدول لم تستطع إنقاذ نفسها كي تنقذ الآخرين. كان ثمة وطن ونضال وأمور أكبر من تلك الهامشية كالبيت والمعيشة والأسرة. إلى أن وجد نفسه بلا بيت وبلا معيشة، وأسرة معذبة يمقت عليها أحياناً لشدة إحساسه بالذنب. تعمق في المشهد أمامه. آه… جمرة وبعض الأوكسجين وما أوفره، وتشتعل النار في كل شيء.
طرق مفاجئ على الباب اقتحم سوداويته. ’مين هذا؟‘ قال باستغراب.
’بتلاقيها واحدة من الجارات.‘
’هاي آخرتها…‘ قلب شفتيه. ’أقعد في البيت مع النسوان!‘
’طّول بالك… كلّه هاليوم اللي قعدته!‘ جرت نفسها بتثاقل إلى الباب. ’أبو كامل!‘ تناهى صوتها متفاجئًا، ’تفضّل!‘
نهض أبو هاني باستغراب أيضًا. ’أهلاّ أبو كامل. تفضّل!‘
’صباح الخير،‘ قال الرجل بحرج، ’متأسف عالإزعاج، بس والله شفتك ما نزلت اليوم، قلت آجي لك، حابب أحكي معك كلمتين…‘
’آه، تفضّل! بهية، صبّي الزهورات!‘ لا بد أنه يريد أن يستشيره في ترتيبات عرس ابنه؛ لا يعقل أنه يريد أن يسأله عن الإيجار ثانية بعد أن زارهما البارحة ليلًا. أبو كامل مصدر آخر للضغط المقيم، لا يفقه شيئًا سوى الحسابات، يتخيل أن بيته الوضيع الذي يتراصون فيه قصر كبير. هل بتّ تكره الجميع يا أبا هاني؟
’يسلموا إيديكي…‘ تنحنح الرجل محرجًا. ’أبو هاني، أنا باعرف الوضع، ومقدّر والله، بس ما مبيّن إنكم رح تقبضوا يعني؟‘
أحس بضغط مفاجئ واشتد صداعه، وحاول كبت عصبية طارئة كادت أن تفلت منه. ’لا، والله…‘ أجاب بصوت مبتور. ’يا أبو كامل، يعني لو معي ما باعطيك؟‘
’والله عارف. بس شو يعمل الواحد؟ أنا لايص!‘
أمسك أعصابه مجددًا وهو يحاول تذكير نفسه بالالتزامات التي يحتملها الرجل. لكنه فكر في نفسه أيضًا، فعز عليه حاله، وأكمل في ضيق: ’أبو كامل، ما بتسمع أخبار؟ إلنا رواتب وحقوق متأخرة من سنة، ما أعطونا اياها!‘
هز جاره رأسه عابساً. ’بس ما بيصير هيك! طيب ما فتشت ع شغل تاني؟ غير التعليم؟‘
ابتلع أبو هاني ريقه. ’كان زمان في احترام للمعلم… الله يسامح اللي كان السبب…‘ ثم أكمل، فيما احمرّ وجه الآخر: ’فتّشت. صار لي شهور أفتّش. ما خليّت محل إلا وسألت فيه.‘
رمقه جاره وقال فجأة كمن يريد أن يستريح من النقاش: ’أبو هاني، اليوم خطرت لي فكرة.‘
’فكرة شو؟‘
’قلت يعني… بركي بتتديّن من حدا إيجار البيت المكسور عليك؟ وبتعطيني اياه أسلّك حالي، وإنت بتردّه بعدين؟‘
زم شفتيه ساخرًا. ’أتديّن؟ الله وكيلك، آخر مية شيكل أخذتها من أبو شكري امبارح، وما بقي لي عين أتطلع فيه. غير هيك، عليّ ديون مش قادر أعدّها.‘
’والحل؟‘ قال أبو كامل وهو يجاهد، فيما يبدو، كي يسيطر على انفعاله.
’الحل لو أنا ملاقيه، كنت عملته!‘ احتد مجيبًا.
’أبو هاني، ما تآخذني، بس أنا صبرت كتير، وهذا الحكي ما بيفيدني! بدّك تدبّر حالك، و-‘ وهنا وقعت الواقعة. وانقلبت المنضدة وتناثرت كؤوس الشاي، وأبو هاني يهب ممسكًا بتلابيب الرجل، وبهية تصيح…

[email protected]

SHARE